الصراع حول الدستور في سورياhttps://www.majalla.com/node/324839/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
تستند سوريا على إرث من التعددية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. وشهدت الفترة التي أعقبت حصولها على الاستقلال السياسي عام 1946 حياة غنية بالنقاشات الحيوية بين النخب والأحزاب السياسية ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة. فقد حظيت بدستور يعتبر من أوائل الدساتير في المنطقة العربية الذي أتاح الحريات العامة ضمن المساواة بين الجنسين وحفظ الحقوق الأساسية للمواطنين في الكثير من مواده.
كما منح حق التصويت للمرأة في عام 1949 وحق الترشح في عام 1953 أي قبل إقرار هذا الحق بزمن طويل في الكثير من الدول الأوروبية كسويسرامثلا، وفي الوقت نفسه تمتعت سوريا بنظام برلماني تعددي وبصحافة حرة كانت تعبر عن مختلف شرائح وفئات المجتمع السوري على تعددها وتنوعها العرقي والطائفي والإقليمي.
صحيح أن ذلك لم يعمر طويلا مع دخول سوريا في نمط من الانقلابات العسكرية المتتالية منذ الانقلاب الأول في عام 1949 إلا أنه شكل مخزونا وإرثا ديمقراطيا ما زال يفخر به كثير من السوريين ويعد ملهما للكثير من الديمقراطيين والسياسيين المعارضين لاستعادته كدليل على قدرة سوريا دولةً ومجتمعاً على العيش بمنجزات الديمقراطية وميزاتها.
حزب "البعث" ونهاية الشرعية الدستورية
يمكن وصف حركة 8 مارس 1963 بأنها كانت النهاية الطبيعية لتطبيق مفهوم "الشرعية الثورية" واستخفافا مطلقا بمعنى "الشرعية الدستورية"، لدرجة أن حزب "البعث" ومنذ استلامه السلطة في عام 1963 وحتى عام 1971 بعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة لم يقم بأي انتخابات محلية كانت أو تشريعية أو رئاسية ولو في مظهرها الشكلي، صحيح أن الانتخابات فيما بعد وخاصة في عهد الرئيس حافظ الأسد الذي حافظ على إجراء الانتخابات "الوهمية" في مواعيدها الدقيقة كانت أشبه باللعبة التي تعرف نتيجتها مسبقا حتى قبل أن تخوضها، ولم يكن المطلوب منها منح الثقة أو الشرعية بقدر ما كان الهدف منها إعطاء معنى للديكور الخارجي بأن هناك عملية ديمقراطية سياسية تجري داخل هرم السلطة الأوتوقراطي الموجود.
حصلت سوريا على استقلالها التام في 17 أبريل 1946، وكان معظم مثقفيها وسياسييها يتوزعون بين أحزاب أيديولوجية متنافسة كحزب "البعث" و"الحزب الشيوعي" و"الإخوان المسلمين" و"الحزب السوري القومي الاجتماعي"
لكن النخبة البعثية التي استلمت الحكم بعد 1963 لم تكن تعبأ حتى بهذا الديكور الخارجي طالما أنها لم تكن تشعر بأي حرج شرعي أو دستوري وإنما كانت تهدف إلى إنجاز التنمية المستقلة عبر وسائل ثورية اقتصادية واجتماعية وتحقيق غايات سياسية خارجية.
هذا النموذج من الدولة القائم على الحزب القائد الذي يختصره مجلس قيادة الثورة وهو بدوره يختزل في قائد الثورة، ظل قائما منذ 8 مارس 1963 وحتى الوقت الحالي مع اختلافات شكلية وأحيانا جوهرية لكنها لا تمس بنية أو عصب السلطة الأوتوقراطية القائم على استفراد حزب بالسلطة ثم بناء هيكل هرمي يكون رأسه رئيس الدولة وهذا هو جوهر الجمهورية الثالثة منذ تأسيسها مع تقعيد قواعد صارمة مع الرئيس حافظ الأسد الذي أعاد كتابة الدستور ثم هيكلية المؤسسات الدستورية والتشريعية والقانونية بشكل لا يتيح لها الحركة خارج الإطار المرسوم لها والمحدد والمعين مسبقا، ثم "تأطير" المجتمع المدني عبر النقابات والمنظمات والاتحادات والجمعيات غير الحكومية عبر خندقتها لتصبح تعبيرات "بعثية" ولكن بنكهة شعبية، ويكون لها دور محوري في ضبط الحركة النقابية والمطلبية والشعبية.
حافظ الأسد ونائبه عبد الحليم خدام ونواب سوريون في 11 مارس 1999 في دمشق خلال مراسم أداء اليمين الدستورية
ومهما اختلفت التفسيرات في آلية صنع القرار في الجمهورية الثالثة أو تعددت وجهات النظر في ميكانيزمات عملها وسيطرتها فإن استقرارها على مدى يزيد على أربعة عقود يعكس قدراتها التنظيمية الفائقة وفي الوقت نفسه آليات تكيفها السريعة مع تحولات السياسة الخارجية وتغيراتها، ومع إدراكنا التام أن الأسس السياسية والتنظيمية التي استقرت في عهد الرئيس حافظ الأسد كعصر ذهبي للجمهورية الثالثة ما تزال هي ذاتها صالحة لتفسير "التسلطية السورية" في مرحلة هي مجرد امتداد طبيعي لها واستمرار لآلياتها السابقة ذاتها مع اختلافات تفسر بالقياس، أي إنها تختلف بالدرجة وليس بالنوعية. بل إن توالد الأحداث والظروف وقراءتها في سياق التاريخ الطويل وليس السياسي الآني-الحدثي يدرك تماما أن استجابة النظام السوري الحديث في عهد الرئيس بشار الأسد إنما تنبع من صلب وعمق استجابة الرئيس حافظ الأسد للتحديات ذاتها فيما لو خضع لها مع تغيرات طفيفة يمكن تفسيرها بالاختلافات الشخصية الطبيعية والنفسية لكنها لا تتعدى ذلك إلى مفاصل الحياة السياسة الجوهرية ومحدداتها.
حافظ الأسد حرص على إجراء الانتخابات "الوهمية" وكانت أشبه باللعبة التي تعرف نتيجتها مسبقا حتى قبل أن تخوضها
مع مجيء الرئيس بشار الأسد إلى السلطة انطلقت الأسئلة دفعة واحدة في البداية متسائلة عن مدى سيطرة بشار الأسد على القرار السياسي في بلده ومدى تأثير "الحرس القديم" على صنع القرار لديه، ولذلك فإن معظم الدراسات التي كتبت عن فترة الرئيس بشار الأسد كان همها التركيز على نظرته للأمور ومدى قدرته على الإمساك بزمام مقاليد السلطة، وبالتالي أعادت قراءة القرار السياسي السوري وفق منطق النظرية السلوكية ذاتها على اعتبار أن هيكلية أو بنية النظام السوري وقواعده بقيت ذاتها رغم اختلاف وجوهها. إذ يقر الدستور السوري الذي صدر عام 1973 في عهد حافظ الأسد وظل معمولا به حتى عام 2012 بأن رئيس الجمهورية يتولى السياسة الخارجية، أما رئيس الوزراء فلا يمارس أي نشاط ملحوظ في مجال السياسة الخارجية رغم مسؤوليته عنها، إذ يحدد الدستور في المادة (94) أن رئيس الجمهورية يقوم بوضع السياسة الهامة للدولة ويشرف على تنفيذها بالتشاور مع مجلس الوزراء، بينما لا تتعدى مهمة السلطة التشريعية حسب (المادة 71) من الدستور مناقشة سياسة الوزراء وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تتعلق بسلامة الدولة.
الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد بعد إعلانه زعيما للحزب والشعب من قبل حزب البعث الحاكم آنذاك في الجلسة العامة لمؤتمر الحزب في دمشق، 18 يونيو 2000
يعطي الدستور السوري صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي هو فضلا عن ذلك الأمين العام لحزب "البعث" الذي يعطيه الدستور السوري في مادته الثامنة الحق في قيادة الدولة والمجتمع، كما أنه يجمع إلى ذلك منصب القائد العام للجيش والقوات المسلحة وفق (المادة 103) من الدستور، وهو رئيس القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، أما صلاحياته فهي تتجاوز الصلاحيات التنفيذية إلى التشريعية، ذلك أنه يملك حل مجلس الشعب (مادة 107) والتشريع في غير دورات انعقاده (مادة 111)، ورد القوانين (مادة 108 من النظام الداخلي لمجلس الشعب)، وله الحق في تعيين نائب له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم ويعفيهم من مناصبهم، كما أن له الحق في تعيين رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وإعفائهم من مناصبهم (مادة 95)، وإعلان حالة الحرب (مادة 100)، وإعلان حالة الطوارئ وإلغائها (مادة 101).
أقرت سوريا ما لا يقل عن 12 دستورا منذ الاستقلال في عام 1946، عندما انسحب آخر جندي فرنسي من الأراضي السورية
إن صلاحيات رئيس الدولة في الدستور السوري تعكس مدى هيمنته "دستوريا" على مؤسسات الدولة الأخرى، وقد لعب نمط تطور الدولة وهياكلها المؤسسية على أساس النظام الرئاسي الهرمي على تمركز الصلاحيات دستوريا وقانونيا وفعليا بيد رئيس الدولة.
بعد اندلاع الثورة السورية حاول بشار الأسد الالتفاف على المطالب الشعبية عبر إصدار دستور جديد فكلف لجنة بصياغة دستور جديد بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2011 على أن تنجز عملها خلال أربعة شهور، علما أن رئيس اللجنة مظهر العنبري هو ذاته الذي شارك في صياغة دستور 1973 وأقر الدستور الجديد الذي وسع الصلاحيات التنفيذية لرئيس الدولة في فبراير 2012 حيث تضمن دستور عام 2012 صلاحيات لرئيس الجمهورية شبيهة تماما بدستور عام 1973 مع توسيعها.
صلاحيات رئيس الدولة في الدستور السوري تعكس مدى هيمنته "دستوريا" على مؤسسات الدولة الأخرى، وقد لعب نمط تطور الدولة وهياكلها المؤسسية على أساس النظام الرئاسي الهرمي على تمركز الصلاحيات دستوريا وقانونيا وفعليا بيد رئيس الدولة
لذلك فالعديد من السوريين لا زال يعتقد أن دستور عام 1950 سوف يكون أفضل نموذج اليوم بعودة سوريا إلى الجمهورية والديمقراطية. وهذا ما حدث بالحقيقة مرتين. بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء الشيشكلي في عام 1949 علق الشيشكلي دستور عام 1950 حتى صدر دستور جديد في عام 1953. واتسم هذا الدستور بوصفه الدستور الرئاسي الأول. حيث قيد صلاحيات رئيس الوزراء في الحكومة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الجمهورية مبنية على أساس نظام رئاسي يشبه نظيره في الولايات المتحدة الأميركية. ومع إطاحة الانقلاب في عام 1954 أعيد العمل بدستور 1950.
ومرة أخرى في عام 1958، تم تعليق الدستور عندما صوت السوريون بالأغلبية للوحدة مع جمهورية مصر تحت رئاسة جمال عبد الناصر لتشكيل الجمهورية العربية المتحدة؛ وتم استبدال دستور 1950 بدستور مؤقت صاغه عبد الناصر في تلك الفترة.
الصراع حول اللجنة الدستورية السورية
نص قرار مجلس الأمن 2254 المتضمن خارطة الطريق الدولية لعملية الانتقال السياسي في سوريا، صراحة على أن بيان جنيف (المؤرخ في 30 يوينو/حزيران 2012) يجب أن يكون أساس أية عملية انتقال سياسي بقيادة سورية وفي ظل عملية يمتلك السوريون زمامها، من أجل إنهاء النزاع. وحدد قرار مجلس الأمن المذكور العملية السياسية بوصفها عبارة عن ثلاث مراحل رئيسة يجب أن تتم في فترة مدتها ستة أشهر حددها كالتالي:
حكم ذو مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية.
حدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد.
انتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 نوفمبر 2015.
فتشكيل اللجنة الدستورية لم ينسجم مع روح قرار مجلس الأمن ونصه الذي عبر بوضوح أن تشكيل هيئة حكم انتقالية يعتبر نقطة البداية لتشكيل دستور جديد ومن ثم إجراء انتخابات انتقالية، لكن استخدام نظام الأسد البائد للبراميل المتفجرة وحصار المدن لم يتوقف حتى خلال إصدار البيان ولم يتوقف بعده، ولذلك بدا السؤال مشروعا في معنى إطلاق هذه اللجنة الدستورية التي لم يكن لها أية مصداقية في عيون السوريين.
الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع يوقع مسودة الدستور، بعد أن قدمتها لجنة الخبراء القانونيين السوريين، في دمشق، سوريا، 13 مارس
في عام 2016 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في بيان له "موافقة حكومة الجمهورية العربية السورية وهيئة المفاوضات السورية على إنشاء لجنة دستورية ذات مصداقية ومتوازنة وشاملة تسهلها الأمم المتحدة في جنيف". وأضاف: "أعتقد اعتقادا راسخا أن إطلاق اللجنة الدستورية التي يقودها سوريون يمكن ويجب أن تكون بداية المسار السياسي للخروج من المأساة نحو حل يتماشى مع القرار 2254 (2015) الذي يلبي التطلعات المشروعة لجميع السوريين ويستند إلى التزام قوي بسيادة البلد واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه". وفي النهاية شكر الأمين العام الشعب السوري على دعمه لهذه اللجنة.
لم يكن لهذه اللجنة الدستورية أية قيمة على أرض الواقع، سيما أن الحرب كانت مستمرة على الأرض وكانت سياسات الأسد على الأرض تخالف تماما البيانات المكتوبة وأن الصراع الذي عمره أكثر من أربعة عشر عاما يقوم بشكل رئيس على تدمير مصداقية أية عملية سياسية من قبل النظام السوري السابق وأن المراوغة والكذب هي سمات أصيلة في بشار الأسد ونظامه، فكيف يمكن للشعب السوري المشرد واللاجئ أن يرحب بالكذبة المستمرة حول اللجنة الدستورية التي استمرت لأكثر من 8 سنوات دون أن تفلح في كتابة مادة واحدة من هذا الدستور.
إحدى السمات الرئيسة التي وسمت النظام السوري مع ولادة "الجمهورية الثالثة" كانت تمركز السلطة السياسية في أيدي نخبة ذات أصول عسكرية– ريفية
اعتقد المبعوث الأممي الخاص لسوريا في ذلك الوقت، دي ميستورا، أن روسيا ربما تكون جادة في هذه المفاوضات عبر اللجنة الدستورية كي تفرض إيقاعا يقود إلى حل سياسي بالنهاية تطبيقا للقرار 2254.
وكان الأمين العام وقتها مدركا أن روسيا باتت تمتلك الملف السوري كليا وأن فكرة الرئيس الروسي بوتين التي دعا لها سوريين في سوتشي وانبثقت عنها فكرة اللجنة الدستورية، اعتقد حينها أن روسيا ربما ترغب في حل سياسي ولكن بطريقة مختلفة هذه المرة وليس عبر مسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة وإنما عبر لجنة غريبة الفكرة والأطوار والتشكيل، فمشى الأمين العام بالفكرة وأعلن استضافة جنيف لاجتماعات هذه اللجنة التي لا شرعية سياسية أو قانونية لها، لكنها الفكرة الوحيدة التي يبدو أن روسيا مستعدة لدعمها في ذلك الوقت سيما وأن تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 غير الكثير من المعادلات على الأرض وأعطى نظام الأسد تفوقا عسكريا نوعيا ضد المعارضة التي انحسرت الأراضي التي تسيطر عليها إلى ريفي حلب وإدلب متموضعة في الشمال السوري تحديدا وعلى طول الحدود السورية– التركية.
ثم قرر المبعوث الدولي دي ميستورا الاستقالة في منتصف عام 2018 دون أن يحرز أي تقدم على مستوى تطبيق القرار 2254 حتى جرى تعيين المبعوث الأممي الجديد بيدرسون الذي اعتبر أن اللجنة الدستورية هي الفكرة الوحيدة التي تحظى بالدعم من الأطراف الدولية رغم قناعة المعارضة السورية بأن ذلك يعد خروجا عن قرار مجلس الأمن الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وهو ما دفع إلى انشقاقات كبيرة داخل المعارضة السورية التي رفضت في مجملها انحراف مسار المفاوضات في جنيف واقتصر تمثيلها على مجموعة أفراد يطلقون على أنفسهم وصف "أعضاء اللجنة الدستورية الممثلين للمعارضة".
حظيت سوريا في الماضي بدستور يعتبر من أوائل الدساتير في المنطقة العربية الذي أتاح الحريات العامة ضمن المساواة بين الجنسين وحفظ الحقوق الأساسية للمواطنين في الكثير من مواده
وبعد لقاءات ماراثونية بين كل الأطراف تألفت اللجنة الدستورية من ثلاثة أطراف وهم النظام السوري والمعارضة والمجتمع المدني، بمجموع 150 عضوا، ليقوم مبعوث الأمم المتحدة السابق ستيفان دي ميستورا بتوزيع هذا العدد بالتساوي على ثلاث قوائم.
وخلال سنتين عقدت اللجنة الدستورية 6 جولات من المباحثات، لكن قبل انطلاق مسار الإصلاح الدستوري تم الاتفاق بين الوفود المشاركة على مدونة سلوك ناظمة وأخرى للممارسات الإجرائية الخاصة بالرئيسين المشتركين، وعلى أسماء الهيئة المصغرة أو لجنة الصياغة المؤلفة من 45 عضوا بواقع 15 عضوا لكل وفد.
وبعد خمس سنوات من اجتماعات للجنة الدستورية لم تتمخض الاجتماعات عن أية نتائج تذكر أو أي أثر يذكر على الحياة العامة للسوريين الذين تدهور وضعهم الأمني والسياسي والاقتصادي بل زاد سوءا على يد النظام الذي أصبح مقتنعا بأن لا ضغوط حقيقية عليه وأن لعبة "اللجنة الدستورية" يمكن أن يلعبها باحتراف عبر كسب الوقت وإفراغها من معناها.
سيارات متضررة بسبب أحداث جبلة الدموية، سوريا في 12 مارس
وعلى مدى ثلاث سنوات ومنذ الاجتماع الأول في أكتوبر 2019 وحتى الاجتماع الأخير في أكتوبر 2021 لم يتقدم وفد النظام السوري بأية ورقة ذات معنى من أجل الدفع قدما بهذه المفاوضات، ولذلك أعلن المبعوث الأممي بيدرسون فشل المفاوضات التي لم تحرز أي تقدم يذكر بسبب غياب الإرادة السياسية لوفد النظام الذي اعتاد على تبديد الاجتماعات بإثارة تفاصيل جانبية دون أي قرار سياسي بإنجاح نتائج هذه الاجتماعات. حيث تم صرف الاجتماعات التي تمت على مدى ثلاثة أيام لنقاش مواضيع في غاية العمومية، فعلى سبيل المثال قدم النظام السوري ورقته التي عنونت "السيادة والإرهاب" والتي تعيد أحقية نظام الأسد في إعادة السيطرة على كل مناطق المعارضة تحت سيادته ورفض التدخل التركي والأميركي بشكل خاص.
انتصار الثورة السورية والإعلان الدستوري
يكمن التحدي الأساسي من الناحية القانونية والدستورية في المرحلة الانتقالية في سوريا في خلق آلية لنقل السيادة الشعبية ضمن الظروف الراهنة. أي التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية القانونية. ففي حين أنه يبدو من المؤكد أن الإدارة السورية الانتقالية هي المكلفة بإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، يرى البعض أن ذلك يجب أن يرفق بمراسيم تحدد إطار ذلك دستوريا وقانونيا، ويحدد شكل الكيان الانتقالي أو الحكومة الانتقالية وعمرها وصلاحياتها ويحدد موعدا لانتخابات شعبية تخول الشعب استعادة سلطته وسيادته.
كانت الآراء منقسمة بين العودة فقط لدستور عام 1950 كما جرى ذلك خلال التاريخ السوري ثلاث مرات، إلا أن صلاحية دستور عام 1950 للاستخدام الفعلي في المرحلة الانتقالية هي صلاحية محدودة. وسبب ذلك أن النصوص العملية فيه غير قابلة للتطبيق لأنها ترتبط بمؤسسات البرلمان ومجلس الوزراء المنبثق عنه والرئيس، ناهيك عن انتخاب الرئيس من قبل البرلمان وهذا يعني عدم إمكانية استعمال أي آلية قبل إجراء انتخابات برلمانية. ومن الطبيعي الاتفاق على أن دستور عام 1950 ليس مؤهلا ليكون دستور سوريا الدائم وبأنه لن يستمر لفترة طويلة وأنهيحتاج إلى تعديلات متنوعة ليوائم روح العصر وروح الثورة.
عندما وصل حزب "البعث" إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري في مارس 1963 تم وقف العمل بالدستور على الفور، وفرضت حالة الطوارئ، وأصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة دستورا مؤقتا
ولكن فتح الباب لإجراء التعديلات عليه سيعرقل بالتأكيد من قابلية استعماله مرجعا دستوريا فوريا في اللحظة التاريخية الدقيقة التي ترافقت مع سقوط النظام، فتعديل دستور عام 1950 المؤقت يحتاج إلى تفويض شعبي، وبالتالي سيدخل البلاد في المشكلة ذاتها التي من المفترض حلها من خلال جمعية تأسيسية منتخبة.
ويعتبر دستور عام 1950 من الدساتير الأكثر قبولا لدى الشارع السوري؛ فمن حيث الشكل قامت جمعية تأسيسية منتخبة بوضع ذلك الدستور، وقد انتخبت الجمعية من قبل الهيئات الناخبة يوم 5 نوفمبر من عام 1950 في اقتراع شاركت فيه المرأة السورية لأول مرة، وقامت الجمعية بدورها بتشكيل لجنة صياغة الدستور تمثلت فيها مختلف القوى السياسية وغير السياسية في سوريا. وقد أوضحت اللجنة في تقريرها للجمعية أنها اطلعت على خمسة عشر دستورا أوروبيا وآسيويا، وبدأت الجمعية مناقشة المسودة وخرج الدستور بصيغته النهائية مؤلفا من 166 مادة بعدما طويت 11 مادة.
وكان أكثر المواضيع التي احتدم عليها النقاش هو إعلان الإسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة، وانتهى الأمر بعد طول نقاش للحفاظ على صيغة دستور 1930 بكون الإسلام دين رئيس الدولة، والقضية الثانية التي احتدم عليها النقاش كانت وضع حد على الملكية الزراعية في الدولة للتخفيف من سطوة العائلات الإقطاعية التي كانت تسيطر على مساحات كبيرة من بعض الأرياف وحسم الأمر حينها لترك سقف الملكية مفتوحا، أما الموضوع الثالث فكان حول إدراج مادة تنص على وقوف الجيش على الحياد دون السماح له بالتدخل في الحياة السياسية السورية وهو الأمر الذي لم يتم إقراره، وقد حافظ دستور عام 1950 على الطبيعة البرلمانية لنظام الحكم وقلص صلاحيات رئيس الجمهورية وسحب حق نقض القوانين والمراسيم منه وأمهله عشرة أيام فقط للتوقيع عليها غير أنه حافظ على اختصاصه بالتصديق على المعاهدات الدولية وتعيين البعثات الدبلوماسية في الخارج وقبول البعثات الأجنبية ومنح العفو الخاص وتمثيل الدولة ودعوة مجلس الوزراء للانعقاد برئاسته.
تظاهرة ضد الإعلان الدستوري الذي صاغه خبراء ووقعه الشرع في القامشلي، سوريا 14 مارس 2025
ومن جانب آخر رفع الدستور من درجة صلاحيات البرلمان ومنعه من التنازل عن صلاحياته التشريعية للحكومة ولو مؤقتا، كما عزز من سلطاته تجاه الحكومة فألزمها بالاستقالة في بداية كل دور تشريعي، وعزز أيضا من سلطة القضاء باستحداث المحكمة الدستورية العليا. أما مواد الحقوق العامة في دستور 1950 فقد وسعت، فبلغت 28 مادة تتناول وحدها الحقوق والحريات العامة، ومنها حصانة المنازل وحرية الرأي والصحافة والاجتماع والتظاهر والمحاكمة العادلة ومنعت الاعتقال التعسفي والتوقيف دون محاكمة لفترة طويلة وحفظ حق الملكية والمشاركة في الحياة الاقتصادية وتأطير الملكية العامة للدولة وحماية حقوق الفلاحين والعمال على وجه الخصوص، وجعل العمل حقا لكل مواطن وجب تأمينه، إضافة إلى رعاية المواطنين المرضى والعجزة والمعوقين. كما تناولت تلك المواد حقوق الطوائف الدينية باتباع شرائعها من جهة وفي التعليم من جهة ثانية. ونص الدستور على كون التعليم حقا لكل مواطن، إلزاميا ومجانيا، وأوجب على الدولة إلغاء الأمية خلال عشر سنوات.
ولكن من جانب آخر فإنه ومع التسليم بأن دستور عام 1950 لا يملك من الأدوات الدستورية ما يكفي لإدارة المرحلة الانتقالية، فإن صلاحية الدستور المذكور هي صلاحية رمزية ضرورية، بمعنى أن مجرد إيقاف العمل بدستور عام 2012 الذي وضعته لجنة مكلفة من قبل بشار الأسد وتم إقراره في خضم الثورة واعتماد الدستور الوحيد الذي وضعته وأقرته جمعية دستورية منتخبة في مناخ ديمقراطي سيعني بالتأكيد قطيعة حقيقية مع الماضي، كما ستعمل النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات العامة كضامن مبدئي لحقوق الإنسان خلال الفترة الانتقالية التي من المفترض أن تكون عصيبة. ولذلك جرت الإشارة له في ديباجة الإعلان الدستوري.
يشكل الخوف من الفراغ الدستوري وسلاسة انتقال السلطة عبر آلية دستورية صحيحة ووضع أسس الشرعية الجديدة وتأسيس قطيعتها مع الماضي الاستبدادي دستوريا أهم الاعتبارات التي لا بد من مراعاتها ولذلك انتقل التفكير إلى ضرورة إصدار إعلان دستوري مستقل، فعند لحظة سقوط النظام من المسلم لدى معظم السوريين إنهاء العمل بدستور عام 2012 كما نص على ذلك خطاب النصر والأهم هو الأسلوب الذي خرج به إلى حيز الوجود وكذلك الظروف التي رافقت إنشاءه. ولكن إلغاء العمل بدستور عام 2012 دفع الحكومة الانتقالية لإصدار إعلان دستوري يتضمن إنشاء هذه الحكومة المفوضة بالسلطة التنفيذية. ويحدد السلطات الأساسية والعلاقة بينها وآليات الحكم وصلاحيات الحكومة الانتقالية التي لا تخرج مهمتها عن تسيير الأمور والإعداد الجيد لانتخابات الجمعية الدستورية التأسيسية.
نص قرار مجلس الأمن 2254 المتضمن خارطة الطريق الدولية لعملية الانتقال السياسي في سوريا،صراحة على أن بيان جنيف يجب أن يكون أساس أية عملية انتقال سياسي بقيادة سورية
وقد جرى تداول الكثير من الأفكار أيضا حول شكل ومضمون الإعلان الدستوري بين السوريين وأنا كنت أفضل أن يخرج عن مجلس الشعب المعين بما يعطيه فرصة أكبر للنقاش والتداول. لكن مضمون الإعلان الدستوري كان متوافقا ومنسجما مع المواد الحقوقية الأساسية في دستور عام 1950 عبر إعلان بطلان القوانين الاستثنائية في سوريا وبخاصة تلك المناهضة للحريات العامة مثل قانون إحداث محكمة الإرهاب.
الإعلان الدستوري المؤقت وشكل النظام السياسي
في السياسة ما يهم هو الانطباع العام الذي يحصل عليه الرأي العام عن القرار السياسي والقدرة على تسويق هذا القرار بشكل جيد بما يخدم المصلحة السياسية، فالكثير من السوريين لم ولن يقرأوا الإعلان الدستوري المؤقت، ولذلك كان من المهم تحضير الرأي العام للقضية الأهم في الإعلان وهي شكل النظام السياسي الذي سيعكسه الإعلان، وهو ما لم تنجح فيه اللجنة المكلفة بكتابة الإعلان الدستوري لأنها ركزت على أفكار لا يمكن تسويقها لأنها ببساطة تتناقض مع نص الإعلان، من مثل قضية فصل السلطات رغم أن الكل يعلم أنه خلال الفترة الانتقالية لا يمكن الانتخاب، وبالتالي لا بد من اللجوء إلى التعيين فكيف يمكن تحقيق فصل السلطات إذن، ولذلك قوبل الإعلان الدستوري بوابل من الانتقادات التي ركزت محقة على صلاحيات الرئيس ولم تستطع أن تضعها في سياق المرحلة الانتقالية السورية اليوم وآلية بناء المؤسسات للمستقبل
عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، أعلنت الإدارة السورية في 29 يناير 2025، تعيين أحمد الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية، إلى جانب إلغاء العمل بالدستور، وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية، ومجلس الشعب (البرلمان) وحزب "البعث العربي الاشتراكي".
وأعلن الشرع في الثاني من مارس 2025، تشكيل لجنة لصياغة الإعلان الدستوري، مكونة من سبعة قانونيين، وسلمت المسودة في 12 مارس، ووقع الرئيس السوري على الإعلان الدستوري في اليوم التالي.
وأوضحت لجنة الخبراء المكلفة بصياغة الإعلان الدستوري، في مؤتمر صحافي عُقد عقب تسليمه للرئيس الشرع، أنها استندت في إعداد الوثيقة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في فبراير 2025.
كان أكثر المواضيع التي احتدم عليها النقاش هو إعلان الإسلام دين الدولة أو دين رئيس الدولة، وانتهى الأمر بعد طول نقاش للحفاظ على صيغة دستور 1930 بكون الإسلام دين رئيس الدولة
لقد صيغت الوثيقة بالاعتماد على ثلاث وثائق تأسيسية رئيسة وهي دستور عام 1950 ومؤتمر خطاب النصر والبيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني، وهو ما أشارت له ديباجة الإعلان الدستوري عندما تحدثت أنه "واستنادا إلى القيم العريقة والأصيلة التي يتميز بها المجتمع السوري بتنوعه وتراثه الحضاري، وإلى المبادئ الوطنية والإنسانية الراسخة، وحرصا على إرساء قواعد الحكم الدستوري السليم المستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950- دستور الاستقلال- وإعمالا لما نص عليه إعلان انتصار الثورة السورية الصادر بتاريخ 29 ديسمبر 2025، الذي يُعد أساسا متينا لهذا الإعلان".
فكيف يمكن قراءة السياقات السياسية التي رافقت هذا الإعلان في ضوء الدساتير السورية والنظام السياسي السابق الذي كان معمولا به في سوريا، لقد ساد الدستور السوري لعام 1973 والدستور الأخير لعام 2012 نظام حكم هجين. فمن جهة كان نظاما أقرب إلى النظام الرئاسي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة جدا، ومن جهة أخرى يعتمد جهازا حكوميا تنفيذيا قويا نسبيا، ولم يكن نظاما برلمانيا نصف رئاسي كما هو الحال في فرنسا لأنه لا يعتمد نتائج الانتخابات البرلمانية في تشكيل الحكومات المتعاقبة، بل هو بعيد فعلا عن ذلك. وبالتأكيد ليس نظاما برلمانيا صافيا يكون فيه الرئيس أو الملك منصبا فخريا لا صلاحيات حقيقية لديه مقابل صلاحيات الحكم التي تنحصر في الفائز بالانتخابات البرلمانية كالنظام البريطاني أو الهندي، وبالمقابل، فإن النظام الذي احتواه دستور عام 1973 (الذي كان أساسا نظريا للحكم منذ الانقلاب الحزبي العسكري الذي قام به حافظ الأسد والذي سمي بالحركة التصحيحية لعام 1970) كان نظاما قائما على التناقضات.
الرئيس السوري أحمد الشرع يوقّع الإعلان الدستوري للبلاد، بحضور وزير الخارجية أسعد الشيباني، في القصر الرئاسي بدمشق في 13 مارس 2025
على الرغم من أن نظام الحكم في سوريا على الصعيد النظري كان نظاما مختلطا حزبيا مدنيا في آن معا،فإنه أعطى لحزب "البعث" صلاحية ومكانة كبيرة جدا حسب دستور عام 1973 مثلا من خلال قيادته للدولة والمجتمع حسب المادة الثامنة من الدستور ومن خلال ترشيح رئيس الجمهورية من قبل القيادة القطرية لذلك الحزب.
ساد التناقض المتعدد الأوجه نظام الحكم الفعلي المنفصل عن الدستور المعمول به في سوريا خلال الفترة المنصرمة، فعلى صعيد الواقع كان النظام السائد في سوريا منذ الثامن من مارس عام 1963 نظاما أمنيا حلت فيه الأجهزة الأمنية محل الجهاز المدني الحكومي في كثير من مفاصل الحياة السياسية والمدنية الخدمية اللصيقة بحياة المواطن.
يشكل الخوف من الفراغ الدستوري وسلاسة انتقال السلطة عبر آلية دستورية صحيحة ووضع أسس الشرعية الجديدة وتأسيس قطيعتها مع الماضي الاستبدادي دستوريا أهم الاعتبارات التي لا بد من مراعاتها ولذلك انتقل التفكير إلى ضرورة إصدار إعلان دستوري مستقل
أما المستوى الثاني لتناقض النظام مع الشكل الدستوري للحكم حتى بشكله غير المتطور في الحالة السورية، فقد تركز في حلول عائلة الرئيس، ونعني بها المجموعة المقربة للرئيس، محل أدوات الحكم المعروفة والمنصوص عليها في الدستور. فبالنتيجة لم يشكل الدستور أي مرتكز حقيقي للحكم في سوريا بل شكل صورة باهتة عن بعض مظاهر الحكم في سوريا مثل اعتماد حزب "البعث" قائدا للدولة والمجتمع. كما أن أهمية الدستور كانت قد اضمحلت خلال فترة حكم حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار، فقد شهدت الساحة السورية تجاذبات عنيفة تمحورت حول الفقرات المتعلقة بدين الدولة ودين رئيسها ومصدر التشريع فيها في الفترات التي سبقت حكم "البعث" إلا أن ذلك الجدل وكل ما مثله من حيوية في النظام السياسي والدستوري في سوريا كان قد اضمحل وحل محله القهر العنفي المستند إلى قوة أجهزة الأمن وقوة الولاء الحزبي في نهاية السبعينات. وحتى الولاء والارتكاز الحزبي كان قد تلاشى مع تركز القوى الأمنية محل كل ما له علاقة بالسياسة في سوريا. وكدليل على اضمحلال دور الدستور إلى حد التلاشي في سوريا إبان حقبة حافظ الأسد يمكن تذكر دور المحكمة الدستورية العليا في سوريا التي وإن احتفظت بدور مراسمي هام في فولكلور الحكم الأسدي في البداية فإن ذلك لم يشفع لها في نهاية حياة الأسد الأب حيث لم يتبق لها أي وجود فعلي في نهاية التسعينات وبقيت سنوات عدة دون مصدر تمويل للإنفاق الشهري الأساسي.
لكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل الديموغرافي يلعبان دورا بارزا في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما. ويبقى أبرز ثلاثة أشكال للنظام السياسي الديمقراطي هي:
1 ـ النظام الرئاسي
وهو نظام سياسي شائع، يضع السلطات التنفيذية بشكل مطلق بيد رئيس الدولة الذي ينتخب بشكل مباشر من قبل الشعب. ولعل قوة السلطة التنفيذية تمنح قدرة عالية للرئيس على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة لتحقيق برنامجه الذي انتخب على أساسه. ومن أبرز ما يميز الأنظمة الرئاسية الفصل التام بين السلطات، إذ لا يحق للرئيس أن يحل البرلمان بقرار تنفيذي أو أن يتدخل في جلساته أو أن يشارك فيها.
كما أن الرئيس في النظام الرئاسي هو المسؤول الأول أمام الشعب، وهو المخول بتعيين وزرائه الذين تتلخص وظيفتهم في تنفيذ رؤية الرئيس وبرنامجه، في حين يغيب دور المعارضة السياسية والأقليات عن السلطة التنفيذية، مما يمنح استقرارا أكبر في تلك السلطة.
خلال تظاهرة ضد الإعلان الدستوري في القامشلي، سوريا 14 مارس 2025
غير أن النظام الديمقراطي الرئاسي لا يمكن أن ينجح إلا في مجتمع تكون فيه الحالة الديمقراطية ناضجة ومستقرة، والوعي السياسي في المجتمع عاليا، كي يتقبل قرارات الرئيس المنتخب. وغياب الاتفاق والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية قد يعسر مهمة الرئيس ويصيب الدولة بحالة شلل، كما أن هذا النظام لا يعطي فرصة كبيرة للمساءلة السياسية، ويبقى الحل الوحيد أمام الشعب لمحاسبة الرئيس وحزبه هي الانتخابات المقبلة.
2 ـ النظام البرلماني
يتميز النظام البرلماني بتداخل كبير بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ إن الحكومة عادة في هذا النظام تتشكل من قبل الكتلة الحائزة على أغلبية المقاعد إذ يشترط حصول الحكومة على ثقة هذه الأغلبية لتتمكن من ممارسة عملها، ويكون كذلك الوزراء أعضاء في البرلمان مع أنه يحق للبرلمان الاستعانة بوزراء من خارج البرلمان، كما تعتبر الحكومة مساءلة من قبل البرلمان سواء الحكومة ككل ممثلة برئيسها أو الوزراء بشكل فردي. ويحق للبرلمان سحب الثقة عن الحكومة، كما يحق للحكومة أن تحل البرلمان إلا أن ذلك يعني بشكل تلقائي سقوط الحكومة.
يكون رئيس الدولة في هذا النظام ذا صلاحيات رمزية أو شرفية، وقد تحال له بعض الصلاحيات في ظروف خاصة، إلا أن الرئيس عادة في النظام البرلماني ينتخب من قبل البرلمان كي لا يحظى بتأييد شعبي كبير يعطيه شرعية شعبية تضاهي تلك التي حازها البرلمان ككل وتتعدى بكثير نسبة ما حازه أي عضو في البرلمان من أصوات.
ويمتاز هذا النظام بمنح الوزراء سلطات أعلى من النظام الرئاسي، إذ إن الوزير يدير وزارته بحرية أكبر كونه مساءل بشكل شخصي أمام البرلمان، كم أن القرارات داخل مجلس الوزراء تتم بالتوافق وليس لرئيس الوزراء أن يفرض قراراته ما لم يوافق عليها نسبة محددة من الوزراء.
وتكمن أكبر ميزات النظام البرلماني بأنه يشجع على وجود حوار ونقاش جاد بين كل القوى السياسية حول القضايا الرئيسة التي تواجه البلاد، وبالتالي يرفع من المستوى السياسي في الدولة والمجتمع، ويزيد الثقة والتواصل بين القوى السياسية. كما أن هذا النظام يسمح للقوى السياسية الصغيرة والأقليات بلعب دور هام في السلطة.
وفي المقابل، فإن غياب الفصل بين السلطات الثلات في هذا النظام والانصهار بين السلطات الثلات قد يقود إلى استغلال السلطة والاستبداد بها خصوصا في الدول النامية والتي تفتقد لمؤسسات ديمقراطية قوية، كما أن موعد الانتخابات في هذا النظام غير ثابت ومن حق رئيس الوزراء البقاء في منصبه طالما يملك ثقة أغلبية البرلمان، وهذا يعني أن من حق رئيس الوزراء أن يدعو إلى انتخابات جديدة مبكرة متى رغب في ذلك خصوصا عندما يشعر بأن الشعب يؤيد سياساته. ولعل من عيوب هذا النظام أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لا يتم اختيارهما من قبل الشعب وبهذا فسوف يكون من الصعب على الشعب محاسبتهما إلا من خلال ممثليه. كما أنه في كثير من الأحوال قد تلعب أحزاب صغيرة دورا كبيرا يفوق حجمها الشعبي في تقرير كثير من الأمور الحاسمة ومنها تشكيل الحكومة واتخاذ بعض السياسات.
تكمن أكبر ميزات النظام البرلماني بأنه يشجع على وجود حوار ونقاش جاد بين كل القوى السياسية حول القضايا الرئيسة التي تواجه البلاد
3 ـ النظام شبه الرئاسي أو شبه البرلماني
وهو نظام سياسي يخلط بين كلا النظامين السابقين، إذ يتشارك رئيس الوزراء الحائز على ثقة البرلمان أو المنتخب من قبله ورئيس الدولة المنتخب شعبيا في السلطة التنفيذية، وتتوزع الصلاحيات بين كلا الرئيسين، بيد أنه يحق للبرلمان مساءلة رئيس الوزراء وتغييره إن ارتأى ذلك.
لكل نظام سياسي ديمقراطي ميزاته الخاصة التي تؤدي لنجاحه، كما أن البيئة الاجتماعية والعامل الديموغرافي يلعبان دورا بارزا في نجاح نظام سياسي معين في دولة ما
ويتميز هذا النظام بأنه في حالة الانسجام بين رئيسي الدولة والحكومة، تكون عملية سن القوانين واتخاذ القرارات سلسة ومرنة، ويحدث استقرار كبير في إدارة الدولة، كما يحق للرئيس في حالات معينة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة.
إلا أن أبرز عيوب هذا النظام تتمثل في حالة عدم التوافق والانسجام بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، مما يحدث حالة من الشلل في الدولة، خصوصا لو انتمى رئيس الوزراء لحزب يعارض سياسات رئيس الدولة، كما قد يلجأ الرئيس في هذا النظام إلى إساءة استخدام سلطته بحل البرلمان، وقد يضطر للجوء إلى استفتاء الشعب كلما تعارضت السلطتان التشريعية والتنفيذية.
ومن العيوب التي ترافقت مع آلية إصدار الإعلان الدستوري المؤقت توكيل مهمة اختيار شكل النظام السياسي للجنة غير منتخبة مؤلفة من سبعة أعضاء وبالتالي لم يتسم عمل هذه اللجنة بالشفافية وفي الوقت نفسه اتسم بالمهمة المستحيلة لإرضاء السوريين الخارجين من الثورة بشكل النظام السياسي الذي يرغبون.
ولذلك ذكرت أنه كان من الأفضل أن يصدر هذا الإعلان عن مجلس الشعب المعين وهذا ما سيعطيه مزيدا من الصدقية والشرعية، سيما أنه تبنى شكل النظام الرئاسي للدولة، وهو بالمناسبة أفضل لسوريا في الوقت الحالي في ظل تزايد النزعات الإقليمية وضعف المؤسسات الوطنية فتحتاج إلى تقوية الحكومة المركزية في دمشق ضمن هذه المرحلة الانتقالية، لكن في الوقت نفسه كان لا بد من فتح المفاوضات مع كل الأطراف السورية التي لها مصلحة في المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الأقليات الدينية والإثنية والذين يرغبون في المشاركة في الحكومات المؤقتة والدائمة، هذه المفاوضات عادة ما ترتكز على إطار عملية الانتقال ذاتها، ولكن يمكن أن تتضمن أيضا التفاوض حول الدساتير المؤقتة والدائمة.حيث إن هذه المفاوضات يجب أن تكون شاملة في أغلب الأحيان لجميع الأقليات مما يضمن نجاح المرحلة الانتقالية.