كيف وقّع الزعماء العرب على ميثاق جامعتهم؟

أراد الملك فاروق موافقة مسبقة ودعم من العاهل السعودي الملك عبد العزيز

إيه ب
إيه ب
خلال اجتماع ممثلو سبع دول عربية، ملوك ورؤساء وأمراء، في القاهرة في 29 مايو/أيار 1946، بدعوة من الملك فاروق، بهدف تنظيم جبهة موحدة ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين

كيف وقّع الزعماء العرب على ميثاق جامعتهم؟

في 22 مارس/آذار 1945، قبل 80 سنة، تم التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية، التي كان الهدف منها تعزيز روابط التعاون بين البلدان العربية، والتنسيق فيما بينها في السياسة الخارجية، دون التدخل في الشؤون الداخلية لأي من هذه الدول، مع الدفاع عن بعضهم البعض في حال تعرضهم لعدوان خارجي.

كان هدف الجامعة نبيلا وساميا، ولكن بعض الدول المؤسسة، لم يكن لها جيش وطني للدفاع عن نفسها، قبل أن تنبري للدفاع عن الآخرين، مثل سوريا ولبنان اللتين كانتا يوم ولدت الفكرة، لا تزالان تحت حكم الانتداب الفرنسي.

خلال مسيرتها الطويلة، تعرضت الجامعة لانتقادات عدة، كان آخرها في حرب غزة الأخيرة، وقال كثيرون إنها لم تعد قادرة على فعل شيء مجد في القضية الفلسطينية، باستثناء تأسيس "جيش الإنقاذ" سنة 1947، الذي لم يتمكن من تحرير فلسطين، أو صد العدوان الصهيوني عليها. وفي سبتمبر/أيلول 1967 كان قرار الجامعة الشهير في قمة الخرطوم، المعروف باللاءات الثلاث: لا صلح مع إسرائيل، لا اعتراف، ولا تفاوض. ولكنه ذهب أدراج الرياح مع زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس سنة 1977، والتوقيع بعدها بعام على اتفاقية "كامب ديفيد"، وهو ما سهّل اتفاقية "أوسلو" بين الإسرائيليين والفلسطينيين سنة 1993، واتفاقية "وادي عربة" مع الأردن عام 1994.

تبني النحاس باشا لمشروع الجامعة أكسبه شعبية عربية واسعة، وأغضب في المقابل الملك فاروق، الذي كان ينظر بعين من الشك والريبة إلى كل ما تقوم به حكومة "الوفد" المعارضة له

ومن أبرز منجزات الجامعة– إن صح التعبير– كان الاعتراف بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، أثناء قمة الرباط في أكتوبر/تشرين الأول 1974، بعد تسع سنوات من انطلاق الثورة الفلسطينية، ومن المحطات البارزة في تاريخ الجامعة طبعا طرد مصر في أعقاب اتفاقية "كامب ديفيد" وتجميد عضوية سوريا بعد اندلاع ثورة عام 2011، إضافة لتبني عدد من مشاريع السلام، مثل مشروع الملك فهد، يوم كان وليا للعهد أثناء قمة فاس في المغرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1981، ومشروع الملك عبد الله يوم كان أيضا وليا للعهد أثناء قمة بيروت في عام 2002.

أ ف ب
خلال اجتماع زعماء جامعة الدول العربية في لبنان عام 1947 لمناقشة التدابير التي يجب اتخاذها إذا قرر اليهود تشكيل حكومة في فلسطين بعد مغادرة القوات البريطانية للمنطقة

تبني الملك فاروق

البداية في مسيرة الجامعة العربية كانت التوقيع على بروتوكول الإسكندرية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 1944، الذي وضع أساسات فكرة المنظمة العربية الجامعة، وقد وقف خلفه كل من رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا، مع نظيره العراقي نوري السعيد، والسوري سعد الله الجابري. تبني النحاس باشا لهذا المشروع أكسبه شعبية عربية واسعة، وأغضب في المقابل الملك فاروق، الذي كان ينظر بعين من الشك والريبة إلى كل ما تقوم به حكومة "الوفد" المعارضة له. ولكنه وبدلا من معارضة الفكرة، قرر تبنيها بالكامل، وتجييرها لنفسه بدلاً من مصطفى النحاس. ومن الأسباب التي جعلت فاروق يصر على أن تكون ولادة الجامعة على يده، كان الوقوف في وجه الإنجليز المسيطرين على مصر منذ سنة 1882، وتحديدا بعد تعرضه لحادثة مهينة على يد السفير مايلز لامبسون، يوم حاول الأخير الانقلاب عليه، وتنحيته عن العرش في 4 فبراير/شباط 1942. كان لامبسون يريد فرض حكومة وفدية على مصر، وعندما لم يستجب فاروق لطلبه، حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين، ودخل عليه السفير وفي يده قرار التنازل عن العرش. أُنهيت هذه الحادثة الشهيرة بالتراضي، ولكنها أضرت جدا بسمعة الملك فاروق، ورسمته ضعيفا في وجه الإنجليز، ما جعله يصر على تبني مشروع الجامعة، ليؤكد للمصريين بأنه رجل عروبي معارض للاستعمار بكل أشكاله وأنواعه.

وافق الملك عبد العزيز على إنشاء الجامعة، فقال فاروق لكريم ثابت: "يمكنك أن تذيع على العالم كله، على لساني، أنه الآن أصبحت جامعة الدول العربية حقيقة قائمة"

لا جامعة من دون الملك عبد العزيز

ولكنه ولضمان النجاح الكامل للجامعة، كان عليه الحصول على موافقة مسبقة، ودعم من العاهل السعودي الملك عبد العزيز آل سعود. اجتمع به يوم 24 يناير/كانون الثاني 1945 في منطقة منبسطة بين مدينة ينبع، وجبال الرضوى المطلة على البحر الأحمر، التي حوّلها الديوان الملكي السعودي، في خلال أسابيع، إلى مدينة صغيرة من الخيام والمضارب. ولكي لا يضارب النحاس على القمة المصرية-السعودية، قيل له إن الملك فاروق ذاهب في رحلة بحرية للاستجمام. وافق الملك عبد العزيز على إنشاء الجامعة، فقال فاروق لكريم ثابت: "يمكنك أن تذيع على العالم كله، على لساني، أنه الآن أصبحت جامعة الدول العربية حقيقة قائمة".

أ ف ب
الملك فيصل ملك السعودية وجمال عبد الناصر والملك الحسن الثاني ملك المغرب خلال القمة الأولى لجامعة الدول العربية في الرباط في ديسمبر 1969

قمة أنشاص

وبناء عليه، قرر الملك عقد أول اجتماع للزعماء العرب للتوقيع على ميثاق الجامعة العربية الذي وضع في 22 مارس/آذار 1945 ولكن القادة العرب، لم يوقعوا عليه إلا في ختام قمة أنشاص في مايو/أيار 1946. كانت هذه أول قمة في تاريخ الجامعة العربية، واعتذر الملك عبد العزيز عن حضورها بسبب مشقة السفر إلى مصر، وناب عنه نجله وولي عهده الأمير سعود، كما غاب إمام اليمن يحيى، وحضر نجله سيف الإسلام عبد الله. أما الرئيس السوري شكري القوتلي، فقد حضر دون تردد، وكذلك الرئيس اللبناني بشارة الخوري، وحاول العراق تأجيل الموعد، ولكن الملك فاروق لم يستجب، وقال إن القمة ستعقد بما حضر ومن حضر.

خلافات القادة العرب

كان الأمير سعود أول الحاضرين، وخرج مع الملك فاروق إلى مطار بلبيس للمشاركة في استقبال ملك الأردن عبد الله، وابن أخيه الأمير عبد الإله، الوصي على عرش العراق، وكأنه يقول إن الجامعة العربية قد أصبحت، منذ تلك اللحظة، تحت رعاية المملكة المصرية والمملكة العربية السعودية، وكان من المفترض أن تصل طائرة الرئيس اللبناني قبل طائرة الرئيس السوري بدقائق، ولكن تأخيرا حصل في بيروت، أدى إلى وصول طائرة الرئيس القوتلي أولا.

استقبل الملك فاروق والأمير سعود الرئيس القوتلي، ومعا وقف ثلاثتهم على المدرج لاستقبال الرئيس بشارة الخوري. قال فاروق ممازحا: "يبدو أن الشيخ بشارة تأخر عن قصد لنكون جميعا في استقبال لبنان". أجابه القوتلي: "نحن ولبنان واحد يا جلالة الملك، إن تقدم تقدمنا وإن تأخر تأخرنا". ولكن القوتلي لم يكن على علاقة طيبة بالملك الأردني، بسبب دعوة الأخير لمشروع سوريا الكبرى، تحت عرش الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد وعمّان. انعدام الود كان متبادلا بينه وبين الملك عبد الله، وقد تجلى هذا الجفاء- بحسب رواية كريم ثابت- عندما اعترض الملك عبد الله على طاولة الحوار في القمة، قائلاً إن الرئيس السوري يتقدمه في الترتيب، علماً بأنه أقدم منه عهدا (عبد الله تولى الحكم في بلاده سنة 1921 بينما القوتلي تم انتخابه سنة 1943، قبل ثلاث سنوات فقط من قمة أنشاص). رد البروتوكول المصري بأن الملوك والزعماء العرب، أجلسوا بحسب الحروف الهجائية، حيث إن (السين) في سوريا تأتي قبل (الشين) في شرق الأردن.

توقيع الزعماء العرب

 أقيمت في اليوم الأول حفلة شاي على متن سفينة "إستار" الراسية على مقربة من سراي أنشاص، وعند العودة إلى مكان الإقامة، مشوا على الأقدام ولم يركبوا السيارات المخصصة لهم، لخلق جو من الوئام والصداقة. في اليوم الثاني اضطر الأمير عبد الإله إلى العودة إلى بغداد بسبب أزمة وزارية، وكلف عمه الملك عبد الله بالتوقيع نيابة عن المملكة العراقية. ولكن مسودة الميثاق لم تجهز في الوقت المحدد، لأن القصر الملكي لم يرسلها للخطاطين إلا في المساء. سهر القادة العرب على متن "إستار" بانتظار الميثاق، وشعر الملك عبد الله بالنعاس، فاعتذر وعاد إلى الجناح الخاص به، قائلا إنه سيوقّع الوثيقة عندما يستيقظ.

انتهى الخطاطون من النسخة الرسمية والنهائية للميثاق قرابة الساعة الثانية فجرا، وأرسلوها للقادة العرب. تبودلت التهاني ووقعوا على الوثيقة، ثم توجه الملك فاروق إلى حجرة ملك الأردن، للحصول على توقيعه. مازحه الرئيس بشارة الخوري وقال: "عليك بالعجلة يا جلالة الملك، لعل الملك عبد الله يغير رأيه في الصباح". هب فاروق إلى غرفة الملك الأردني، وطرق الباب بقوة. وهنا جاء صوت الملك عبد الله من الداخل: "مين؟ خير إن شاء الله؟" قال فاروق: "أنا فاروق... إحنا جينا علشان جلالتك تمضي". فتح عبد الله الباب، وبرواية كريم ثابت: "وعيناه الناعستان تؤكدان لفاروق أنه لم يزعجه بإيقاظه بتاتا". ثم جلس الملك عبد الله الأول، ومضى ميثاق الجامعة وهو لابس "الروب دي شامبر".

font change