بعض الكتاب نترقب عملهم الجديد بفارغ الصبر، وحين يصدر أخيرا، ندخل في حالة إثارة وانفعال حتى قبل الانطلاق في قراءته، لعلمنا مسبقا أن هذا الكتاب، مثل أعمال صاحبه السابقة، إضافة إلى المفاجآت السعيدة التي يخبئها، سيقدم لنا كل ما ننتظره من نص أدبي.
هذه هي الحال مع الكاتب الفرنسي كريستوف كلارو الذي تشكل قراءة أعماله مغامرة بمختلف المعاني التي تحملها هذه الكلمة. مغامرة داخل اللغة، لأن هذا الكاتب الشاعر لا يستخدم اللغة مجرد ركيزة للإفصاح عما يريد قوله، مع بعض الاعتناء الشكلي بها، بل بوصفها فضاء خلق وتجريب يتسع فيه الأفق الدلالي للكلمات، وتتفتح الصور في أرجائه مثل زهور برية يفوح منها عبق دائما جديد. مغامرة في طريقة مقاربة موضوعه، التي تتخذ شكل اقتحام عنيف يلقي كلارو خلاله نظرة متبصرة ومشحوذة مثل سكين على هذا الموضوع، تسمح له باستنطاقه وإجباره على البوح بأشياء لم تكن في البال ولا الحسبان. ومغامرة في الاستطرادات وتداعيات الأفكار التي تذهب بنا في كل الاتجاهات، لكن ليس بطريقة مجانية، بل وفقا إلى منطق يوجهه الحدس وحده، ويبلغ دائما هدفه.
بين السيرة والرواية
كل هذه المغامرات تنتظرنا في كتاب كلارو الجديد، "آلاف الدوائر في الماء"، الذي صدر حديثا في باريس عن دار "أكت سود"، ويقود كلارو فيه بحثا محموما عن مصدر معانقته الكتابة، ضمن تلاعب مدهش بقوانين السيرة الذاتية والرواية على حد السواء. عن هذا الإصدار، يقول: "أردت ابتكار صنو يتطابق معي في أفكاره وانفعالاته وذكرياته ولحظات معينة من حياته، لكنه قادر على الانفصال عني، على التحرر من قيود السيرة الذاتية طوال مدة كتاب، بغية ترك الخيال يعيد تشكيل الواقع من دون خيانته". كتاب مهم وضروري إذن لفهم هذا الكاتب الفريد داخل مشهد الأدب الفرنسي المعاصر، لأنه يحملنا و"يتنقل بنا من أروقة طفولته إلى متاهات حداده على أمه، من الماضي الجزائري لوالده إلى العنف السياسي الذي عايشه، مرورا باكتشافه ذلك الشاعر المجري الملعون" الذي يمكن أن يكون من نقل إليه "عدوى" الكتابة. رحلة يكشف لنا خلالها تفاصيل مثيرة عن قصته العائلية، مانحا إيانا بانتظام ما يثير الشك في صدقيتها.