منذ يناير/كانون الثاني 2025، تشهد المناطق الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية نزاعا عسكريا تصاعدت حدته بشكل متسارع على الرغم من دعوة مشتركة لرئيسي الكونغو الديمقراطية ورواندا إلى وقف فوري لإطلاق النار.
واندلع القتال بين الحكومة المركزية التي تدير الكونغو من العاصمة كينشاسا غربي البلاد وحركة 23 مارس (M23) التي تتمركز في الجزء الشرقي من البلاد وتتلقى دعما عسكريا وسياسيا من الجارة الشرقية رواندا. برزت الحركة المتمردة مجددا إلى الساحة في مارس/آذار 2022، عندما شنت هجماتها على مواقع الجيش الكونغولي في منطقة روتشورو بإقليم شمال كيفو. وجاءت عودة الحركة بعد فترة من الهدوء النسبي استمرت تسع سنوات عقب هزيمتها في عام 2013. وقد كانت الحركة قد اندمجت جزئيا في الجيش الكونغولي بموجب اتفاقية سلام وُقعت في 23 مارس 2009، لكنها انفصلت لاحقا متذرعة بعدم التزام الحكومة ببنود الاتفاق كما تراه.
شهد النزاع تطورات متسارعة، حيث نجحت الحركة في السيطرة على مناطق استراتيجية، منها كيوانجا وروتشورو في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ثم على مدينة غوما في يناير/كانون الثاني 2025، وأخيرا بوكافو في فبراير/شباط الماضي.
وقد رافق هذا التصعيد نزوح جماعي للسكان واتهامات متبادلة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، التي تتهمها كينشاسا بتقديم الدعم العسكري للحركة المتمردة، مما زاد الوضع تعقيدا ورفع من حدة تداعياته الإقليمية.
وكما شهدنا في السودان، نتج عن النزاع عمليات فرار جماعية من السجون، إذ هرب آلاف السجناء المدانين بجرائم خطيرة، مما ساهم في تفاقم حالة الفوضى الأمنية وأثار ذعرا واسعا بين السكان، فضلا عن ازدياد أعداد النازحين وتصاعد الأزمة الإنسانية وانهيار النظام الأمني المحلي بشكل شبه كامل. وحاليا فإن أكثر من 21 مليون كونغولي في حاجة للإغاثة الإنسانية بشكل عاجل، بينما بلغ عدد النازحين حوالي 7 ملايين.
ومما زاد تفاقم الأوضاع، انفجار كارثة صحية في البلاد منذ منتصف فبراير 2025، إثر تفشي مرض غامض يُشتبه في أنه يحمل أعراضا مشابهة للإيبولا. وبينما لم يتم بعد تشخيص المرض أو تحديد أسبابه بشكل دقيق، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى احتمالية ارتباطه بتسمم جماعي من مصادر المياه، أو مزيج من الأمراض التنفسية والملاريا، مع انتشار متزامن لوباء "إمبوكس" (Mpox). وما يزيد من خطورة المرض أن معظم الحالات تنتهي بالوفاة خلال 48 ساعة من ظهور الأعراض.
وتقع جمهورية الكونغو الديمقراطية في قلب القارة الأفريقية، وتتميز بموقع جغرافي استراتيجي مكنها من عضوية عدة تكتلات إقليمية وقارية. فهي جزء من تحالف مجتمع شرق أفريقيا (EAC)، رغم امتدادها غربا حتى شواطئ المحيط الأطلسي، كما تنتمي إلى مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (SADC)، بالإضافة إلى عضويتها في الاتحاد الأفريقي، المنظمة القارية الجامعة.
وتحيط بها تسع دول تشكل حدودها الشاسعة: فمن الشمال تجاورها جمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان، ومن الشرق أوغندا ورواندا وبوروندي وتنزانيا عبر بحيرة تنجانيقا، ومن الجنوب زامبيا وأنغولا، بينما تطل غربا على جمهورية الكونغو (برازافيل) وعلى المحيط الأطلسي عبر مصب نهر الكونغو. وتمتد الكونغو الديمقراطية على مساحة تتجاوز 2.34 مليون كيلومتر مربع، مما يجعلها ثاني أكبر دولة في أفريقيا بعد الجزائر. ويبلغ عدد سكانها نحو 115 مليون نسمة، مع معدل نمو سكاني مرتفع يقارب 3 في المئة سنويا، مما يعكس ديناميكية ديموغرافية لافتة. وتتميز البلاد بتنوع إثني غني وفريد، حيث تضم أكثر من 400 مجموعة عرقية. ويشكل شعب البانتو الغالبية العظمى، بنسبة تصل إلى حوالي 80 في المئة، وينتشر في معظم أرجاء البلاد، بينما تستقر قبائل السودانيين، مثل الزاندي، في الشمال، والقبائل النيلية، كالتوتسي، في الشرق قرب الحدود مع رواندا.
كنز من الموارد الطبيعية
تُعد الكونغو الديمقراطية كنزا طبيعيا استثنائيا. فهي تمتلك أكثر من 60 في المئة من احتياطيات الكوبالت العالمية، وهو معدن حيوي لصناعة البطاريات الكهربائية التي ازدادت أهميتها مع ثورة صناعة السيارات الكهربائية. كما تُعد من أكبر منتجي النحاس والليثيوم والذهب عالميا، فضلا عن وفرة مخزونها من الكولتان، وهو معدن نادر يُستخدم في صناعة الإلكترونيات الدقيقة، إلى جانب غنى منطقة كاساي بالماس. ليس هذا فحسب، بل تضم البلاد ثاني أكبر غابة مطيرة في العالم، حوض الكونغو، مما يجعلها مصدرا غزيرا للأخشاب والتنوع البيولوجي الفريد.
ورغم هذا الغنى الطبيعي المذهل، والناتج المحلي الإجمالي الذي يتجاوز 150.8 مليار دولار سنويا، تعاني الكونغو الديمقراطية من تحديات جمة، حيث يعيش أكثر من 75 في المئة من السكان تحت خط الفقر، متجرعين مرارة تمازج الفساد وعدم الاستقرار السياسي اللذين يغذيان بعضهما البعض، مما يجعلها نموذجا صارخا لتناقض الثروة والمعاناة.
وترتبط جذور النزاع الحالي في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية بتداعيات الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994. فمع انتهاء المجازر التي راح ضحيتها قرابة 800 ألف من قبيلتي التوتسي والهوتو، فر مئات الآلاف من الهوتو إلى شرق الكونغو– التي كانت تُعرف آنذاك بزائير– من بينهم عناصر وقيادات شاركت في جرائم الإبادة.