تداعيات الاتفاق في أوكرانيا على أمن أوروبا

روسيا ستعارض أي اتفاق يسمح بنشر قوات أوروبية في أوكرانيا

تداعيات الاتفاق في أوكرانيا على أمن أوروبا

في ظل تكثيف الرئيس الأميركي دونالد ترمب جهوده لإيجاد تسوية تُنهي الصراع في أوكرانيا، يجد القادة الأوروبيون أنفسهم أمام ضرورة إعادة تقييم التداعيات المحتملة لأي اتفاق سلام على أمنهم المستقبلي.

وفي الوقت الذي يركز فيه ترمب على إيجاد حل للنزاع الأوكراني، أكدت إدارته بوضوح أنها تتوقع من القادة الأوروبيين الاضطلاع بدور أكبر في حماية مصالحهم، بدلا من الاعتماد الدائم على القوة العسكرية الأميركية لضمان أمنهم.

وجاء التحذير الأبرز بشأن التزام الولايات المتحدة بحماية أوروبا على لسان بيت هيغسيث، وزير الدفاع الأميركي المعين حديثا، الذي وجه رسالة حادة خلال اجتماع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في وقت سابق من هذا الشهر، مؤكدا أن أولويات الأمن القومي الأميركي لم تعد تشمل أوروبا كأحد محاورها الرئيسة.

وأبلغ هيغسيث القادة الغربيين المجتمعين في بروكسل لمناقشة الصراع الأوكراني أنه جاء إلى أوروبا ليؤكد "بشكل مباشر وواضح أن الواقع الاستراتيجي الصعب يحول دون تركيز الولايات المتحدة بشكل أساسي على أمن أوروبا". وقال: "إن الولايات المتحدة تواجه تهديدات جسيمة لأمنها الداخلي، لذا يجب علينا- ونحن نفعل ذلك بالفعل- التركيز على حماية حدودنا".

أثارت تصريحات هيغسيث، إلى جانب مواقف كبار مسؤولي إدارة ترمب بشأن الالتزام بأمن أوروبا المستقبلي، ردود الفعل المطلوبة، والتي دفعت القادة الأوروبيين إلى إعادة تقييم جادة لاحتياجاتهم الدفاعية.

وتصاعدت المخاوف الأوروبية بسبب النهج المتشدد الذي يعتمده ترمب تجاه أوكرانيا، لا سيما بعد قراره تعليق المساعدات العسكرية الأميركية وتجميد تبادل المعلومات الاستخباراتية مع كييف، في خطوة تهدف إلى الضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لحمله على النظر بجدية في تنفيذ وقفٍ لإطلاق النار.

كما أبدى القادة الأوروبيون استياءهم من إصرار ترمب على استبعادهم من المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا، رغم الدعم الكبير الذي قدمته أوروبا للجهود الحربية الأوكرانية. وتصاعدت المخاوف من إمكانية توصل ترمب إلى اتفاق سلام مع بوتين لا يتماشى مع المصالح الأوروبية.

ودفعت التوترات المتصاعدة مع إدارة ترمب قادة الاتحاد الأوروبي نحو تعزيز تعاونهم لتقوية القدرات الدفاعية للقارة وتخصيص مئات المليارات من اليوروهات لدعم الأمن الأوروبي.

وعقب محادثات طارئة عقدت في بروكسل في وقت سابق من هذا الشهر، اتفق قادة الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على تخصيص مئات المليارات من الدولارات لتعزيز القدرات الدفاعية للقارة، في خطوة قد تتيح لهم في النهاية العمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة.

خلال قمة القادة الأوروبيين في لندن لمناقشة الأزمة الأوكرانية، اقترح ستارمر تشكيل قوة تحالف لحماية أي اتفاق سلام يجري التوصل إليه مع روسيا وضمان أمن أوكرانيا

وأكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين على أهمية هذا التطور، مصرحة بعد انتهاء القمة بأن "التاريخ يُكتب اليوم". وأضافت أن قادة الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين "عازمون على ضمان أمن أوروبا، والتحرك بحجم وسرعة وعزيمة تتناسب مع متطلبات هذا الوضع. نحن ملتزمون بالاستثمار بشكل أكبر، والاستثمار بكفاءة أعلى، وتسريع وتيرة هذا الاستثمار معا."

وقد دفع هذا التوجه عددا من القادة الأوروبيين إلى اتخاذ خطوات إضافية نحو تطوير نهج دفاعي مستقل يركز على أوروبا، من خلال اقتراح إنشاء قوة حفظ سلام أوروبية لضمان أمن أوكرانيا، في حال نجح ترمب في التوصل إلى تسوية سلام مع موسكو.

وتجري حاليا مفاوضات لتشكيل قوة متعددة الجنسيات للنشر في أوكرانيا فور إبرام اتفاق سلام، أطلق عليها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر لقب "تحالف الراغبين". وتهدف هذه القوة إلى تقديم ضمانات لأوكرانيا بعدم التعرض لأي اعتداءات إضافية من قبل روسيا عقب انتهاء الجولة الحالية من القتال.

وخلال قمة القادة الأوروبيين في لندن لمناقشة الأزمة الأوكرانية، شدد ستارمر على أن الوقت قد حان لـ"تتحمل أوروبا المسؤولية الأكبر" بدلا من الاعتماد المستمر على الولايات المتحدة. ومن هذا المنطلق، اقترح تشكيل قوة تحالف لحماية أي اتفاق سلام يجري التوصل إليه مع روسيا وضمان أمن أوكرانيا.

وقال: "علينا أن نستخلص العبر من أخطاء الماضي، فلا يمكننا القبول باتفاق هش يسهل على روسيا خرقه. يجب أن يكون أي اتفاق سلام يجري التوصل إليه اتفاقا قويا".

وقد حظي مخطط ستارمر بدعم قوي من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث اجتمع كبار الضباط العسكريين من مختلف أنحاء أوروبا وخارجها في المملكة المتحدة لمناقشة خطط إنشاء قوة حفظ سلام دولية في أوكرانيا. وأكد ستارمر أن هذا المقترح بات الآن في "المرحلة التنفيذية".

ولكن، رغم استمرار المناقشات حول طبيعة وحجم هذه القوة، برزت مخاوف جدية بشأن جدوى إنشائها، لا سيما في ظل ضعف القدرات العسكرية الأوروبية نتيجة عقود من نقص الاستثمار في قطاع الدفاع، بالإضافة إلى معارضة موسكو الشديدة لفكرة تمركز قوات أوروبية بالقرب من حدودها.

يُعد قلق موسكو من استمرار التوسع الغربي في أوروبا الشرقية أحد المبررات الرئيسة التي ساقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتبرير غزو أوكرانيا، حيث يعتبر الكرملين هذا التوسع تهديدا مباشرا لأمن روسيا.

دفع ذلك وزير الخارجية الروسي المخضرم سيرغي لافروف إلى التحذير من أن روسيا ستعارض "بشكل قاطع" أي اتفاق سلام يسمح بنشر قوات أوروبية لحفظ السلام في أوكرانيا.

كما برزت مخاوف جدية من أن تكون هذه القوة عرضة لهجوم روسي في حال عدم حصولها على دعم من الولايات المتحدة، نظرا لافتقار الأوروبيين إلى القدرات الجوية والاستخباراتية اللازمة للدفاع عن أنفسهم بشكل كافٍ.

وقد دفع ذلك بعض القادة الأوروبيين، وعلى رأسهم رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى التحذير من أن إرسال قوات أوروبية لحفظ السلام إلى أوكرانيا قد يكون "محفوفا بالمخاطر ومعقدا وغير فعال" إذا ما نشرت دون ضمان حماية كافية.

وبعد عقود من نقص الاستثمار الأوروبي في قطاع الدفاع، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت أوروبا تمتلك القدرات والموارد اللازمة لإنشاء قوة ذات صلابة وكفاءة بشكل كافٍ لتنفيذ مهمة حفظ سلام شديدة الخطورة في أوكرانيا.

font change