يُسجل نداف فايمان، المدير التنفيذي لمنظمة "كسر الصمت"،شهادته عن خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي، ويتحدث في حوار مع "المجلة" عن خيبة أمل عميقة إزاء العقيدة العسكريةوالمعضلة الأخلاقية السائدة بين الجنود.
يتطرق فايمان خلال المقابلة إلى المنعطف الحاسم في مسيرته العسكرية، والذي جاء بعد سلسلة من العمليات التي شارك فيها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمن وحدة النخبة الخاصة. كانت مهمته المشاركة، تحت جنح الظلام، في اقتحام منازل الفلسطينيين والاستيلاء عليها لإنشاء مواقع عسكرية سرية، الأمر الذي كشف له عن فظاعة الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي.
ويسترجع فايمان لحظات مروعة، أبرزها العملية التي خاضها في مخيم جنين للاجئين، والتي شكلت صدمة نفسية عميقة، حين واجه طفلا صغيرا على نحو لم يكن يتوقعه، فاضطر إلى مواجهة الأثر المدمر الذي تخلفه أفعال الجيش الإسرائيلي. قدحت تلك اللحظة الشرارة التي أيقظت ضميره، إذ أدرك أن ما كان يُصور له باعتباره حماية لإسرائيل، إنما كان في جوهره إيقاع الألم والمعاناة بالأبرياء.
وقد شكلت تلك الحادثة نقطة تحول في حياته، دفعته إلى مسار طويل من التأمل الذاتي، قاده في نهاية المطاف إلى خيبة أمل عميقة إزاء العقيدة العسكرية القائمة على الهيمنة والسيطرة على الفلسطينيين.
واليوم، يُعد فايمان من أبرز الأصوات في منظمة "كسر الصمت". حيث تُجسد تأملاته شهادة دامغة على المعضلات الأخلاقية التي تفرضها سياسات الاحتلال، وعلى الحاجة الملحة إلى سردية أكثر عدلا وإنصافا في سياق الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
وتضم منظمة "كسر الصمت" جنودا إسرائيليين سابقين خدموا منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقد أخذوا على عاتقهم فضح الواقع القاسي لحياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، من خلال تقديم الشهادات العلنية وتحفيز نقاش عام حول الثمن الباهظ الذي يُدفع في ظل واقع يُرغم فيه جنودٌ يافعون على مواجهة سكان مدنيين بشكل يومي، والتورط في ممارسات ترقى إلى جرائم حرب.
وفيما يلي النص الكامل للمقابلة:
* هل لك أن تشاركنا تجربتك مع الجيش الإسرائيلي؟ ما الذي دفعك للخدمة، وكم دامت فترة خدمتك؟
- نشأتُ في كنف عائلة ليبرالية ذات ميول يسارية في تل أبيب، وكما هو الحال مع أشقائي، شُجعت على قضاء سنة فاصلة بعد المدرسة الثانوية. تطوعت خلالها في ملجأ للأطفال، ثم التحقتُ بوحدة قتالية في الجيش الإسرائيلي عام 2005، حيث خدمت حتى عام 2008. كنتُ ضمن فريق استطلاع شارك في عمليات نُفذت في جنين ونابلس وغزة، وتركزت مهامنا على القنص وعمليات تُعرف باسم "النافذة القشية".
وأصبحت وحدتنا ذات كفاءة عالية يشار إليها بالبنان، ولا سيما في منطقة نابلس، حيث نفذنا العديد من تلك العمليات. كما شاركتُ في العمليات العسكرية في غزة عامي 2008 و2012، وواجهنا خلالها تحديات جسيمة وسط أجواء شديدة التوتر.
* ما المقصود بعمليات النافذة القشية؟
- هو اسم رمزي. كانت تلك العمليات تقوم على اقتحام منازل الفلسطينيين وتحويلها إلى مواقع عسكرية سرية. كنا نتسلل إلى المنازل تحت جنح الليل، وننصب قناصينا عند النوافذ دون أن يدرك السكان أو الجيران وجودنا.
كان كل شيء يبدأ بالاستطلاع، حيث نحلل صورا جوية لتحديد البيوت المناسبة، ويفضل أن تكون مرتفعة أو معزولة وتحتوي على نوافذ واسعة. بعد اختيار المنزل، كنا نتواصل مع جهاز "الشاباك" للتأكد من أن العائلة لا صلة لها بأي نشاط مسلح. وإذا اعتُبرت "بريئة"، حصلنا على الموافقة.
بعدها، نقترب من المنزل بهدوء، ونطرق الباب، وبمجرد الدخول نسيطر بسرعة على أفراد العائلة. كنا نجمعهم في غرفة واحدة ونصادر هواتفهم لمنع أي تواصل مع الخارج.وربما استمرت هذه العمليات ساعات طويلة، أو حتى يومين، تُحرم خلالها العائلة من أبسط حقوقها، حيث يجب أن تطلب منا الإذن لقضاء حاجاتها الأساسية. كانوا أسرى في منازلهم.
* ما اللحظة التي دفعتك لاتخاذ قرار ترك الجيش؟ ولماذا؟
- وقعت تلك اللحظة خلال أول عملية لي في مخيم جنين للاجئين. بعد كل التدريبات، وجدت نفسي في موقف ضاغط حين واجهت فجأة جسما صغيرا في سريره عندما كان نائما ومختبئا. في تلك اللحظة، انكشف لي الأثر النفسي العنيف لهذه العمليات على الجنود والمدنيين على حد سواء.
* هل أدركت حينها أنه مجرد طفل؟
- نعم. عندما أمسكت به، شعرت كم كان هزيلا وخفيف الوزن. اندفع الأدرينالين في جسدي، وركزت على مهمتي، فنصبت الكاميرا الحرارية وبدأت بمسح المخيم. ثم داهمتني الحقيقة: أن ما أقوم به، بدعوى حماية إسرائيل، قد دمر ليلة هانئة لعائلة بأكملها.
تخيلت أطفالي. ماذا لو اقتحم أحد منزلنا وسحبهم من أسرتهم ليلا؟ سأغضب بشدة. أكثر ما أثار دهشتي في تلك العمليات هو مدى طاعة العائلات، والتي كانت بدافع الخوف بلا شك، لأننا نحمل السلاح.
تلك العيون- عيون الطفل الذي واجهته- لا تزال تطاردني حتى اليوم، بعد ما يقرب من عشرين عاما. نشأتُ في عائلة عسكرية، نشأت على الإيمان العميق بواجب الدفاع عن إسرائيل، والدي وإخوتي خدموا جميعا في وحدات النخبة. لكن بعد تلك المواجهة، بدأت أسأل نفسي: هل هذا هو الدفاع حقا؟
خلال ثلاث سنوات، اقتحم فريقي مئات المنازل الفلسطينية، ونفذنا عمليات كثيرة كانت تهدف بالأساس إلى إظهار وجودنا، لا إلى خوض اشتباكات حقيقية. كان الهدف هو بث الرعب وترسيخ السيطرة– عبر الحواجز واعتقال الناس في الشوارع ومداهمات الليل.
كنا نسعى لترسيخ منطق القوة والسيادة، وأن نُرِي الفلسطينيين من المتحكم في مصيرهم. كان هذا النوع من السيطرة مرعبا، لأنه ينتهك أخص خصوصيات الناس. سواء أطاعوا أو قاوموا، كنا نقتحم بيوتهم، ونزعزع أمنهم وكرامتهم لمجرد فرض سلطتنا.