"كسر الصمت"... جندي يفضح جرائم حرب الجيش الإسرائيلي

خيبة أمل عميقة إزاء العقيدة العسكرية الإسرائيلية

Péter Csuth
Péter Csuth
نداف فايمان

"كسر الصمت"... جندي يفضح جرائم حرب الجيش الإسرائيلي

يُسجل نداف فايمان، المدير التنفيذي لمنظمة "كسر الصمت"،شهادته عن خدمته العسكرية في الجيش الإسرائيلي، ويتحدث في حوار مع "المجلة" عن خيبة أمل عميقة إزاء العقيدة العسكريةوالمعضلة الأخلاقية السائدة بين الجنود.

يتطرق فايمان خلال المقابلة إلى المنعطف الحاسم في مسيرته العسكرية، والذي جاء بعد سلسلة من العمليات التي شارك فيها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ضمن وحدة النخبة الخاصة. كانت مهمته المشاركة، تحت جنح الظلام، في اقتحام منازل الفلسطينيين والاستيلاء عليها لإنشاء مواقع عسكرية سرية، الأمر الذي كشف له عن فظاعة الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي.

ويسترجع فايمان لحظات مروعة، أبرزها العملية التي خاضها في مخيم جنين للاجئين، والتي شكلت صدمة نفسية عميقة، حين واجه طفلا صغيرا على نحو لم يكن يتوقعه، فاضطر إلى مواجهة الأثر المدمر الذي تخلفه أفعال الجيش الإسرائيلي. قدحت تلك اللحظة الشرارة التي أيقظت ضميره، إذ أدرك أن ما كان يُصور له باعتباره حماية لإسرائيل، إنما كان في جوهره إيقاع الألم والمعاناة بالأبرياء.

وقد شكلت تلك الحادثة نقطة تحول في حياته، دفعته إلى مسار طويل من التأمل الذاتي، قاده في نهاية المطاف إلى خيبة أمل عميقة إزاء العقيدة العسكرية القائمة على الهيمنة والسيطرة على الفلسطينيين.

واليوم، يُعد فايمان من أبرز الأصوات في منظمة "كسر الصمت". حيث تُجسد تأملاته شهادة دامغة على المعضلات الأخلاقية التي تفرضها سياسات الاحتلال، وعلى الحاجة الملحة إلى سردية أكثر عدلا وإنصافا في سياق الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.

وتضم منظمة "كسر الصمت" جنودا إسرائيليين سابقين خدموا منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقد أخذوا على عاتقهم فضح الواقع القاسي لحياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، من خلال تقديم الشهادات العلنية وتحفيز نقاش عام حول الثمن الباهظ الذي يُدفع في ظل واقع يُرغم فيه جنودٌ يافعون على مواجهة سكان مدنيين بشكل يومي، والتورط في ممارسات ترقى إلى جرائم حرب.

وفيما يلي النص الكامل للمقابلة:

* هل لك أن تشاركنا تجربتك مع الجيش الإسرائيلي؟ ما الذي دفعك للخدمة، وكم دامت فترة خدمتك؟

- نشأتُ في كنف عائلة ليبرالية ذات ميول يسارية في تل أبيب، وكما هو الحال مع أشقائي، شُجعت على قضاء سنة فاصلة بعد المدرسة الثانوية. تطوعت خلالها في ملجأ للأطفال، ثم التحقتُ بوحدة قتالية في الجيش الإسرائيلي عام 2005، حيث خدمت حتى عام 2008. كنتُ ضمن فريق استطلاع شارك في عمليات نُفذت في جنين ونابلس وغزة، وتركزت مهامنا على القنص وعمليات تُعرف باسم "النافذة القشية".

وأصبحت وحدتنا ذات كفاءة عالية يشار إليها بالبنان، ولا سيما في منطقة نابلس، حيث نفذنا العديد من تلك العمليات. كما شاركتُ في العمليات العسكرية في غزة عامي 2008 و2012، وواجهنا خلالها تحديات جسيمة وسط أجواء شديدة التوتر.

* ما المقصود بعمليات النافذة القشية؟

- هو اسم رمزي. كانت تلك العمليات تقوم على اقتحام منازل الفلسطينيين وتحويلها إلى مواقع عسكرية سرية. كنا نتسلل إلى المنازل تحت جنح الليل، وننصب قناصينا عند النوافذ دون أن يدرك السكان أو الجيران وجودنا.

كان كل شيء يبدأ بالاستطلاع، حيث نحلل صورا جوية لتحديد البيوت المناسبة، ويفضل أن تكون مرتفعة أو معزولة وتحتوي على نوافذ واسعة. بعد اختيار المنزل، كنا نتواصل مع جهاز "الشاباك" للتأكد من أن العائلة لا صلة لها بأي نشاط مسلح. وإذا اعتُبرت "بريئة"، حصلنا على الموافقة.

بعدها، نقترب من المنزل بهدوء، ونطرق الباب، وبمجرد الدخول نسيطر بسرعة على أفراد العائلة. كنا نجمعهم في غرفة واحدة ونصادر هواتفهم لمنع أي تواصل مع الخارج.وربما استمرت هذه العمليات ساعات طويلة، أو حتى يومين، تُحرم خلالها العائلة من أبسط حقوقها، حيث يجب أن تطلب منا الإذن لقضاء حاجاتها الأساسية. كانوا أسرى في منازلهم.

* ما اللحظة التي دفعتك لاتخاذ قرار ترك الجيش؟ ولماذا؟

- وقعت تلك اللحظة خلال أول عملية لي في مخيم جنين للاجئين. بعد كل التدريبات، وجدت نفسي في موقف ضاغط حين واجهت فجأة جسما صغيرا في سريره عندما كان نائما ومختبئا. في تلك اللحظة، انكشف لي الأثر النفسي العنيف لهذه العمليات على الجنود والمدنيين على حد سواء.

* هل أدركت حينها أنه مجرد طفل؟

- نعم. عندما أمسكت به، شعرت كم كان هزيلا وخفيف الوزن. اندفع الأدرينالين في جسدي، وركزت على مهمتي، فنصبت الكاميرا الحرارية وبدأت بمسح المخيم. ثم داهمتني الحقيقة: أن ما أقوم به، بدعوى حماية إسرائيل، قد دمر ليلة هانئة لعائلة بأكملها.

تخيلت أطفالي. ماذا لو اقتحم أحد منزلنا وسحبهم من أسرتهم ليلا؟ سأغضب بشدة. أكثر ما أثار دهشتي في تلك العمليات هو مدى طاعة العائلات، والتي كانت بدافع الخوف بلا شك، لأننا نحمل السلاح.

تلك العيون- عيون الطفل الذي واجهته- لا تزال تطاردني حتى اليوم، بعد ما يقرب من عشرين عاما. نشأتُ في عائلة عسكرية، نشأت على الإيمان العميق بواجب الدفاع عن إسرائيل، والدي وإخوتي خدموا جميعا في وحدات النخبة. لكن بعد تلك المواجهة، بدأت أسأل نفسي: هل هذا هو الدفاع حقا؟

خلال ثلاث سنوات، اقتحم فريقي مئات المنازل الفلسطينية، ونفذنا عمليات كثيرة كانت تهدف بالأساس إلى إظهار وجودنا، لا إلى خوض اشتباكات حقيقية. كان الهدف هو بث الرعب وترسيخ السيطرة– عبر الحواجز واعتقال الناس في الشوارع ومداهمات الليل.

كنا نسعى لترسيخ منطق القوة والسيادة، وأن نُرِي الفلسطينيين من المتحكم في مصيرهم. كان هذا النوع من السيطرة مرعبا، لأنه ينتهك أخص خصوصيات الناس. سواء أطاعوا أو قاوموا، كنا نقتحم بيوتهم، ونزعزع أمنهم وكرامتهم لمجرد فرض سلطتنا.

تلك العيون- عيون الطفل الذي واجهته- لا تزال تطاردني حتى اليوم، بعد ما يقرب من عشرين عاما. نشأتُ في عائلة عسكرية، نشأت على الإيمان العميق بواجب الدفاع عن إسرائيل؛ والدي وإخوتي خدموا جميعا في وحدات النخبة. لكن بعد تلك المواجهة، بدأت أسأل نفسي: هل هذا هو الدفاع حقا؟

* ما مدى تكرار تلك العمليات؟ وماذا فعلت بعد تركك للجيش على صعيد البحث عن الذات؟ أو بالأحرى متى كسرت صمتك؟

- خلال خدمتي العسكرية، كانت معظم تجاربي تدور حول تنفيذ هذا النوع من العمليات. وعندما عدت إلى الحياة المدنية بعد انتهاء خدمتي، بدأت رحلة عميقة من التأمل ومراجعة ما اقترفت من أفعال، وطرحت على نفسي أسئلة جوهرية حول أخلاقيتها.

كخطوة أولى في مسار البحث عن الذات، سافرت مع أحد زملائي الجنود إلى أميركا الجنوبية لمدة عام. وضعنا لنفسينا قاعدتين: أن نسافر برفقة أصدقاء أجانب فقط، وأن لا ننفق المال على وسائل النقل أو الفنادق، فاخترنا التنقل بالتوصيلات المجانية والنوم في الخيام، لنغمر أنفسنا في قارة لم نعرفها من قبل.

Supplied Supplied
نداف فايمان

وخلال تلك الرحلة، تعرضت لسيل من الأسئلة المحرجة حول إسرائيل– عن الاستيطان، وشرعية وجودنا العسكري، والقوانين الدولية. وجدت نفسي أدافع عن إسرائيل، كأنني سفير غير رسمي، رغم أنني كنت في داخلي مختلفا مع كثير من السياسات التي كنت أبررها.

قبل هذه الرحلة، كان قائدي السابق في القوات الخاصة، واسمه ساهار، قد نصحني بالانضمام إلى منظمة تُدعى "كسر الصمت". ولكنني رفضت الفكرة تماما آنذاك، إذ لم أكن أرغب بالتورط في أي شأن سياسي.بيد أن ساهار استمر على تواصل معي طوال العام. كنا نتبادل النقاشات السياسية عبر البريد الإلكتروني، وظل بمثابة مرشد لي. وبعد عودتي إلى إسرائيل، التحقت ببرنامج تأهيلي لأصبح معلما لمادة التاريخ، وحضرت محاضرة لأحد أعضاء "كسر الصمت"، أثارت اهتمامي. وبعد سنوات من الصراع الداخلي، قررت الانضمام إلى المنظمة. اتصلت بساهار لأخبره، فقال لي: "الآن تبدأ المعركة الحقيقية"، أي استكشاف واقع الاحتلال. وواصل توجيهي في هذه المرحلة الجديدة.

كانت تلك لحظة محورية في حياتي، فقد كنت أثق به بعمق. ولكن، يا للأسى! لقد قُتل ساهار في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وترك فقدانه أثرا بالغا في نفسي.

عندما عدت إلى الحياة المدنية بعد انتهاء خدمتي، بدأت رحلة عميقة من التأمل ومراجعة ما اقترفت من أفعال، وطرحت على نفسي أسئلة جوهرية حول أخلاقيتها

* كيف بلغك نبأ هجمات السابع من أكتوبر؟

- في ذلك اليوم، ما إن بدأت الهجمات، حتى سارعت بجمع أطفالي وفتحت "تويتر". أدركت سريعا أن ما يحدث ليس مجرد إنذار عادي أو اعتداء تقليدي؛ لقد كان حدثا غير مسبوق.كنت آنذاك نائب المدير في منظمة "كسر الصمت"، فسارعت إلى تنظيم الفريق. قسمنا قوائم التواصل مع الشهود، والداعمين، والمتبرعين القاطنين قرب غزة، لنتأكد من سلامتهم.

وكان أول اتصال أجريته مع ساهار. كان ضمن فريق الطوارئ الأول في كيبوتس باري، مدججا بالسلاح، وجاهزا لمواجهة الطوارئ. قاتل بشجاعة لمدة سبع ساعات لحماية العيادة الطبية، واعتنى بالجرحى حتى نفدت ذخيرته، ولقي حتفه.

ثم قص علي والده ما جرى في تلك اللحظات العصيبة، وأخبرني أن ساهار، وقبيل انفجار القنبلة بلحظات، توجه إلى مهاجميه من مقاتلي "حماس" بكلمات تختزل إنسانيته: "لستُ عدوكم". ولم ينجُ من بين من كانوا في العيادة سوى شخص واحد، وهو من روى لاحقا هذه الحكاية المؤثرة. واليوم، تخلد جدران العيادة ذكرى ساهار بكلمته الخالدة: "لستُ عدوكم"– شهادة على روحه السلمية ونزعته الإنسانية التي ظل يحملها حتى الرمق الأخير.

* ما العقبات التي واجهتك في استجماع شجاعتك لمشاركة قصتك- خاصة مع عائلتك- وكيف كانت استجابتهم؟

- حين أدليت بشهادتي عام 2011، كنت أرتجف خوفا من أن أزج بزملائي في السجن، ومن أن أُوصم بالخيانة. آنذاك، في غياب تطبيقات التواصل الحديثة مثل "واتساب"، كتبت رسالة مطولة في مجموعة مغلقة على "فيسبوك" مخصصة لفريقي العسكري. جاءت ردودهم فاترة؛ عبر بعضهم عن تعاطف شخصي معي، لكنهم لم يدعموا فكرة منظمة "كسر الصمت". ولكن الأمر كان برمته أشد وطأة مع عائلتي العسكرية. أذكر والدي وهو يصرخ في وجهي أثناء العشاء، واصفا إياي بالخائن، ومقترحا أن أذهب للعيش في سوريا أو غزة. أما والدتي، فكانت تغالب دموعها، خشية أن لا أجد عملا، بينما حمّلني أخي الأكبر– وهو من قدامى قوات النخبة– مسؤولية مقتل أصدقائه، ظنا منه أن نشاطي الحقوقي كان السبب، مع أن وفاتهم سبقت تأسيس "كسر الصمت" عام 2004.

بمرور السنوات، قادت النقاشات السياسية المستمرة مع عائلتي إلى تحول تدريجي في موقفهم، حتى باتوا يدعمون "كسر الصمت". خلال تلك الفترة، كان المجتمع الإسرائيلي عموما يظن أن الاحتلال قد انتهى، وأن نشاطنا قد توقف. لكن الهجمات على منظمتنا تصاعدت بعد نشرنا أولى شهاداتنا عن حرب غزة عام 2009، تزامنا مع "عملية الرصاص المصبوب". حينها، استهدفتنا الدولة ومؤسستها العسكرية، وفهمنا وقتها أن التطرق إلى غزة أكثر حساسية بكثير من الحديث عن الضفة الغربية.

وفي عام 2016، تعرضنا لهجوم آخر بالغ الخطورة، حين تسللت إلى منظمتنا جهة يمينية متطرفة، زرعت جواسيس وقدمت شهادات زائفة ضدنا. واستخدموا في ذلك عنصرا سابقا في "الشاباك" وجنودا نظاميين لجمع المعلومات ومضايقتنا والترويج لأكاذيب في الإعلام الإسرائيلي.

كذلك، واجهنا اعتداءات جسدية داخل إسرائيل، بما في ذلك الجامعات. ومع ذلك، نرفض أن نُخرس. المسألة واضحة: الصمت ليس خيارا. فالاحتلال يتعلق بثلاثة أطراف، الجنود، والمستوطنين، والفلسطينيين. وللأسف، لا يملك الفلسطينيون صوتا قويا. ومنذ عام 1967، منح الإسرائيليون شرعية استمرار الاحتلال. والخلاصة أن تجربتي كجندي ليست ملكي وحدي؛ إنها جزء من واقع جماعي لا بد من كشفه أمام الملأ.

واجهنا اعتداءات جسدية داخل إسرائيل، بما في ذلك الجامعات. ومع ذلك، نرفض أن نُخرس. المسألة واضحة: الصمت ليس خيارا

* ما النتائج التي تنوون نشرها خلال الأسابيع القادمة حول حرب غزة، وما أهميتها؟

- نستعد لنشر نتائجنا خلال الأسبوعين المقبلين. فمنذ السابع من أكتوبر، باتت مقابلاتنا مع الجنود أطول بكثير– تدوم خمس إلى ست ساعات، مقارنة بالمدة المعتادة التي تتراوح بين ساعتين وأربع. يروي هؤلاء الجنود تجارب مروعة وقعت خلال عام كامل من الصراع في الضفة الغربية، تشمل تدمير المنازل، وإلحاق الأذى بالفلسطينيين. وتستلزم عملية التحقق من كل شهادة وقتا وجهدا كبيرين، ولا يُسمح سوى للشهادات الموثقة بالخضوع للرقابة العسكرية.

سننشر شهادات وصورا كثيرة، بينها شهادة محورية من أحد مراكز الاحتجاز حازت موافقة الرقابة العسكرية، وتكشف التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون الفلسطينيون. كما كشفنا عما يسمى "بروتوكول البعوض"، الذي يشير إلى استخدام الفلسطينيين كدروع بشرية في غزة. هذه الوقائع خطيرة ولا بد من كشفها على الفور، لإطلاع الرأي العام الإسرائيلي والدولي على حقائق العنف وعمليات الانتقام التي تتم، بعيدا عن السرديات الرسمية المضللة التي تُسوق تحت عنوان "الأمن".

مهمتنا في "كسر الصمت" هي ضمان الشفافية، كي يفهم الناس حقيقة ما يجري، وأن لا يقعوا فريسة الخداع والتعتيم المتعمدين.

أ.ف.ب أ.ف.ب
متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يتجمعون أمام البيت الأبيض خلال "مسيرة واشنطن من أجل غزة" في واشنطن العاصمة، في 13 يناير 2024

* كيف تُشجعون جنود وضباط الجيش الإسرائيلي على الإدلاء بشهاداتهم؟ وهل يتواصلون معكم مباشرة أم عبر أصدقاء؟ وهل لديكم أي إحصائيات بشأن من يشعرون بالذنب حيال بعض الممارسات؟

- في الغالب، يتواصل معنا من يُدلون بشهاداتهم بصورة مباشرة، نظرا لأننا منظمة معروفة، بل واحدة من أكبر المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، ولا سيما في مجال مناهضة الاحتلال. في يناير/كانون الثاني الماضي، نظمنا أول فعالية علنية لنا في تل أبيب حول الحرب، حضرها ما بين 400 و500 شخص، من بينهم جنود بزيهم العسكري وجنود احتياط. وبعد الفعالية، تقدم عدد منهم لمشاركة تجاربهم معنا.

ولدينا أيضا أكشاك معلومات بانتظام في الجامعات في كافة أنحاء إسرائيل، حيث يتحدث إلينا الكثير من الطلاب الذين خدموا في غزة، وغالبا ما يُحيلون إلينا أصدقاء من وحداتهم ممن يرغبون بدورهم في الإدلاء بشهاداتهم. تبدأ معظم هذه الشهادات بإقرار الجنود بأنهم انضموا إلى الاحتياط بهدف تحرير الرهائن ومحاربة "حماس"، معتقدين أن مهمتهم كانت مبررة، ثم يدركون لاحقا أنهم، بدلا من إنقاذ الرهائن، كانوا يتسببون في إيذاء المدنيين ويشاركون في أعمال تتنافى مع نواياهم الأصلية.

روى أحد الجنود أنه تلقى أمرا بإحراق منازل– وهي ممارسة يبدو أنها شائعة– وأعرب عن شعوره العميق بالصراع الداخلي. فقد كان مهيأ للقتال، لكن إشعال النيران في المنازل وتدمير الكتب تجاوز خطا أخلاقيا بالنسبة له. وتعكس هذه الشهادات تحولا عميقا في الوعي مر به العديد من الجنود أثناء خدمتهم في غزة.

مهمتنا في "كسر الصمت" هي ضمان الشفافية، كي يفهم الناس حقيقة ما يجري، وأن لا يقعوا فريسة الخداع والتعتيم المتعمدين

* هل رفض أحد الجنود تنفيذ الأوامر، ولا سيما تلك المتعلقة بإحراق المنازل أو غيرها؟

- لم توثق منظمة "كسر الصمت" مثل هذه الحالات، غير أن منظمة إسرائيلية أخرى أفادت بأن 170 جنديا احتياطيا قاتلوا في غزة أعلنوا رفضهم العودة إلى الخدمة، مبررين ذلك بأنهم شاركوا في قتل رهائن. وخلال إحدى فعاليات هذه المنظمة، روى جندي أنه رفض أمرا بإحراق منزل أثناء المعارك، وعاد إلى إسرائيل دون أن يتعرض لأي عقوبة عسكرية. ورغم أن هذا الرقم ضئيل مقارنة بـ100 ألف جندي احتياطي، فإنه يحمل دلالة تاريخية كبيرة.

كما رفض بعض الجنود أوامر بهدم أحياء كاملة أو الدخول إلى مخيمات لاجئين كطُعم، بعد أن أدركوا أنهم لا يقاتلون "حماس" فعليا، وإنما يدمرون منازل ويعرضون المدنيين والرهائن للخطر.

* لماذا لم يرفض أي طيار إسرائيلي الأوامر بشكل علني؟ وهل من الممكن أن مثل هذه الحالات- إن حدثت- لا يتم الإبلاغ عنها داخل إسرائيل؟

- يعمل الطيارون في ظروف تختلف جذريا عن الجنود على الأرض، فهم معزولون عن الوقائع القاسية التي يواجهها الجنود، كمناظر الموت والدمار. وقد كشفت لنا الشهادات عن مشاهد مرعبة– مثل الكلاب التي تنهش بقايا بشرية– وهي أمور لا يراها الطيارون.

يتبنى الجيش الإسرائيلي عقيدة تقوم على إحداث دمار هائل لتحقيق أهداف عسكرية، خاصة في الحروب غير المتكافئة ضد مجموعات مثل "حزب الله" و"حماس". وعلى عكس الحروب التقليدية التي تقاس فيها الانتصارات بالسيطرة على أراضٍ، تسعى هذه النزاعات إلى إبقاء الخصم على مسافة من خلال تدمير البنى التحتية المدنية.

فعلى سبيل المثال، شهد استخدام المدفعية ارتفاعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، إذ تجاوز عدد القذائف 100 ألف في العمليات الأخيرة، مقارنة بصراعات سابقة. وهذا يؤدي إلى دوامة عنف متصاعدة، حيث يُنظر إلى استخدام القوة النارية المفرطة كوسيلة "لإرسال رسالة". ومع ذلك، يرى منتقدون أن هذه الاستراتيجية لم تُثبت فعاليتها في نزاعات سابقة، مثل جنوب لبنان وغزة.

وغالبا ما تُحدد أهداف الجيش الإسرائيلي بناء على تحركات الأصول العسكرية، مما يعقد مسألة تحديد "الهدف الشرعي". فعلى سبيل المثال، قد يُعتبر المنزل هدفا عسكريا إذا احتوى على ذخائر لـ"حماس"، لكن ذلك يثير تساؤلات أخلاقية خطيرة، خاصة إذا كان المدنيون عرضة للخطر. كما أن مرور الوقت يجعل عملية التحقق من الأهداف صعبة ولا يمكن اعتمادها، ومع غياب ممارسة "طرق سطح المنزل" كتحذير، يزداد احتمال وقوع خسائر في صفوف المدنيين. وفي ظل الطبيعة المتقلبة للنزاع، فإن مجرد وجود عنصر من "حماس" قد يحول فجأة منشأة مدنية إلى هدف عسكري، ما يطرح معضلات أخلاقية عميقة.

Supplied Supplied
نداف فايمان

* هل تعتبر ما جرى في غزة خلال الأشهر الستة عشر الماضية إبادة جماعية؟

- لسنا قانونيين ولا متخصصين في القانون الدولي، لذا لا يمكنني إصدار حكم قاطع بشأن توصيف ما يحدث بأنه إبادة جماعية. غير أنني أستطيع القول بثقة إن ما يحدث في غزة يفوق أي تصور مألوف لدينا. لطالما تحدثت مع الإسرائيليين عن عملية "الجرف الصامد" عام 2014، التي أسفرت عن مقتل 2200 شخص في غزة، بينهم 529 طفلا، منهم 93 رضيعا. وغالبا ما يُقابل حديثي هذا بالإنكار، ويتهمني البعض بالكذب، مدعين أنه من غير الممكن أن يكون هذا العدد من القتلى قد وقع، وأنه في أقصى التقديرات لا يتجاوز عدد المدنيين الأبرياء الألف. والحقيقة المؤلمة أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى بكثير.

علاوة على ذلك، وصلتنا شهادات من غزة تؤكد أنه ما إن يقتل شخص ما، حتى يتم تصنيفه فورا كـ"إرهابي،" دون الحاجة إلى إثبات وجود سلاح أو تقديم مبرر للقتل.

كنت كثيرا ما أتساءل أمام الإسرائيليين: كيف يمكنكم إنكار مقتل 500 طفل؟ وها نحن اليوم، وبعد مرور عام على اندلاع الحرب، نشهد فصولا جديدة من المأساة. ما بات جليا بما لا يدع مجالا للشك هو حالة التجريد الممنهجة من الإنسانية التي تطال الفلسطينيين، ليس فقط داخل الجيش، بل أيضا في أوساط الرأي العام الإسرائيلي ووسائل الإعلام المحلية.

تبدو وسائل الإعلام الإسرائيلية أسيرة حالة من الإنكار، إذ تكتفي بعرض مشاهد محدودة من غزة. بل إن العالم بأسره– في أماكن مثل لندن وغيرها– أصبح أكثر إلماما بحقائق الوضع في غزة من المواطن الإسرائيلي العادي.

ما يحدث في غزة يفوق أي تصور مألوف لدينا. تبدو وسائل الإعلام الإسرائيلية أسيرة حالة من الإنكار، إذ تكتفي بعرض مشاهد محدودة من غزة. بل إن العالم بأسره– في أماكن مثل لندن وغيرها– أصبح أكثر إلماما بحقائق الوضع في غزة من المواطن الإسرائيلي العادي

* مع أن غزة لا تبعد عنكم أكثر من 60 أو 70 كيلومترا...

- خمسون دقيقة بالسيارة من مكتبنا إلى أول حاجز. إنها مفارقة تدعو للدهشة.في لندن، التقيت في المركز اليهودي في فنشلي يهودا بريطانيين من جيلي، كانوا أكثر وعيا بما يحدث من أي شخص شاهدته في الإعلام الإسرائيلي– بل وكانوا يحتجون علنا.

منذ السابع من أكتوبر، فقد الإعلام الإسرائيلي بوصلته الأخلاقية. لقد كان ذلك اليوم أسوأ هجوم إرهابي في تاريخنا، لكن ما نحتاج إليه اليوم هو وضوح الرؤية بشأن ما تفعله إسرائيل في غزة، بعيدا عن مقاطع الفيديو المُنقحة التي تبثها قوات الجيش، والتي تُظهر الدمار دون أن تعرض الواقع الحقيقي– أطفال جياع، رُضع يتجمدون ليلا، وأطراف مبتورة.

واليوم، لا يمكن مشاهدة هذه الفيديوهات إلا باستخدام الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN)، في تأكيد للسياسة طويلة الأمد التي تهدف إلى حجب الواقع الغزي عن الإسرائيليين.واعترف أحد الصحافيين في القناة 12 ذات مرة بأنه خلال حرب غزة عام 2014، طلب منهم مكتب نتنياهو عرض مزيد من مشاهد الدمار، لطمأنة الإسرائيليين بأن الدولة "تفعل شيئا"، وهذا نهج راسخ بعمق في الذهنية السياسية. وفي هذه الحرب، أصبح الجنود أنفسهم ينشرون مقاطع تُظهر عمليات نهب وهدم للمنازل وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم.

في نهاية المطاف، يعيش المجتمع الإسرائيلي داخل فقاعة، مع ساسة لا يتوقفون عن ترديد شعارات البراءة والضحية. ورغم امتلاكنا لأقوى جيش في الشرق الأوسط، لا تزال هناك حالة مستمرة من القلق والتخبط حول موقعنا الحقيقي في العالم.

أ.ب أ.ب
مجندات إسرائيليات يقفن لالتقاط صورة مع أنقاض غزة في الخلفية في 19 فبراير 2024

* كيف تنظر إلى فقاعة الإعلام الإسرائيلي؟

- يعتمد معظم الإسرائيليين في معرفة الأخبار على القنوات والصحف والمواقع الناطقة بالعبرية، مع قلة منهم يتابعون مصادر دولية مثل "سي إن إن" أو "بي بي سي،" بل إن الأخيرة تعتبر في إسرائيل جهة معادية. فعندما أخبرت أصدقائي في إسرائيل بأنني التقيت بمحرري "بي بي سي" في لندن، صُدموا، لأنهم يعتبرونهم أعداء.

في المقابل، لا يزال قادتنا السياسيون يكررون خطاب التبرير، مؤكدين أن الجيش الإسرائيلي هو "الأكثر أخلاقية في هذه المجرة". في مواجهة تهديدات من حركة "حماس"، التي يتهمونها بالاحتماء بالمدنيين واستغلال وكالات الأمم المتحدة. هذا الخطاب يغلق الأفق أمام الرأي العام، ويعزل المجتمع الإسرائيلي عن أي أصوات مخالفة، ولا سيما تلك التي تنتقد سياسات الحكومة.

ونادرا ما أجد وجهة نظري ممثلة على القنوات والشبكات الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، علق مراسل في القناة 12 مؤخرا على إطلاق سراح أسرى فلسطينيين بقوله: "كان ينبغي أن يُطلق النار عليهم في الرأس". هذا التشويه الصارخ يتجاهل أن الكثير من هؤلاء المفرج عنهم، ومنهم نساء وأولاد قصر، كانوا معتقلين دون توجيه تهم لهم.

لا يزال كثير من الإسرائيليين يعتقدون أنهم يعيشون في الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلا أن هذا الاعتقاد مضلل. الحقيقة أن إسرائيل لم تعرف فترة خالية من الحكم العسكري سوى ستة أشهر في عام 1967، أي منذ أكثر من خمسين عاما. هذا الإدراك المشوه رسخ حالة من التبلد والراحة، جعلت الجنود لا يترددون في نشر مقاطع توثق أعمالهم خلال النزاعات، سواء في جنوب لبنان أو سوريا.

لا يزال كثير من الإسرائيليين يعتقدون أنهم يعيشون في الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلا أن هذا الاعتقاد مضلل. الحقيقة أن إسرائيل لم تعرف فترة خالية من الحكم العسكري سوى ستة أشهر في عام 1967

* هل تعتقد أن الجيش الإسرائيلي بات تحت سيطرة متطرفين يمينيين، مما همش الأصوات الليبرالية؟

- على مدى الأربعين عاما الماضية، سعى التيار الاستيطاني إلى السيطرة على مؤسسات الدولة لتحقيق مشروع الضم. وقد نجح هذا التيار في التغلغل في المشهد السياسي، مستحوذا على وزارات عدة، منها وزارة التعليم. ومع ذلك، واجه صعوبات في فرض حضوره داخل الجيش الإسرائيلي، بسبب نمط الحياة المعزول للمستوطنين، وعدم وصولهم إلى الرتب العليا.

وللتغلب على هذا، أنشأ المستوطنون أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، تُعنى بإعداد الشباب لأدوار قيادية داخل الجيش. واليوم، هناك ما يقارب 150 من هذه الأكاديميات، معظمها ذات توجه يميني. وتشير التقارير إلى أن أكثر من 50 في المئة من الضباط المقاتلين الجدد في الجيش الإسرائيلي يتخرجون منها، رغم أن المستوطنين لا يمثلون سوى أقل من 10 في المئة من السكان. هذا التوجه ينعكس أيضا في صفوف كبار الضباط، حيث يشغل الكثير منهم مواقع حساسة، ما يدل على تحول أيديولوجي عميق داخل المؤسسة العسكرية.

أ.ف.ب أ.ف.ب
جنود إسرائيليون من الكتيبة اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة "نيتسح يهودا" يؤدون صلاة الصباح أثناء مشاركتهم في تدريب وحدتهم السنوي في مرتفعات الجولان المحتلة من قبل إسرائيل، بالقرب من الحدود السورية في 19 مايو 2014

هناك اليوم عدد غير متناسب من المستوطنين داخل الجيش مقارنة بوزنهم الديموغرافي، خاصة في أوساط القتلى والجرحى في النزاعات الأخيرة. وغالبا ما يخدم هؤلاء في الوحدات النظامية والاحتياط، التي باتت في السنوات الخمس عشرة الماضية تميل أكثر فأكثر نحو المستوطنين.

هذا الواقع يُسهم في تفسير ما يجري في غزة. فالجيش الإسرائيلي يتبنى عقيدة "صفر خسائر"، تقضي بعدم سقوط قتلى من الجنود، حتى لو تطلب الأمر استخدام قوة مفرطة. وتشمل هذه التكتيكات اقتحام المنازل بوسائل عنيفة، مثل إلقاء القنابل واستخدام المتفجرات لتأمين المباني قبل دخولها. ورغم أن الهدف هو حماية الجنود، فإن النتيجة تكون مدمرة للمدنيين، إذ تشهد غزة دمارا واسع النطاق أشبه بما تخلفه الكوارث الطبيعية.

 لدي تحفظات جدية على تمجيد الموت والنزعة العسكرية المتطرفة التي يروج لها مسلسل "فوضى" وأمثاله. ما يقلقني بالدرجة الأولى هو أن المسلسل يصور الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين كأنه صراع متكافئ بين طرفين متساويين

* ما رأيك في مسلسل "فوضى" الإسرائيلي على منصة "نتفليكس"؟ لقد خدمت في القوات الخاصة ولديك خلفية عسكرية قوية. كيف تنظر إلى هذا العمل في ضوء تلك الخبرة؟

- بادئ ذي بدء، لدي تحفظات جدية على تمجيد الموت والنزعة العسكرية المتطرفة التي يروج لها مسلسل "فوضى" وأمثاله. ما يقلقني بالدرجة الأولى هو أن المسلسل يصور الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين كأنه صراع متكافئ بين طرفين متساويين، في حين أننا في الواقع نحن القوة المحتلة. ورغم أن المسلسل يتناول الاحتلال إلى حد ما، فإنني أرى أنه يقدم رسالة مضللة في المجمل.

كذلك، لا يعكس المسلسل بدقة التحديات الحقيقية التي تواجه الوحدات السرية. لقد شارك بعض أصدقائي في "كسر الصمت" تجاربهم من داخل تلك الوحدات، ويعانون من صدمات نفسية عميقة؛ إذ يواجه بعضهم صراعا داخليا بسبب هوياتهم المزدوجة التي تبلورت بفعل التجربة. أما عن نفسي، فأتذكر لحظات كنت فيها في قلب مدن فلسطينية مثل نابلس، مع فريق صغير لا يتجاوز عدده اثني عشر جنديا. كانت تلك الأوقات مروعة، فلو أن خطأ وقع، لكنا وحدنا في مواجهة الخطر. مثل تلك التجارب لا تزال تحفزني للتفكير بعمق في معاناة الجنود المشاركين في مثل هذه العمليات.

* كيف تتصور دور المجتمع الدولي في دعم تطبيع حقيقي للعلاقات بين إسرائيل والدول العربية؟

- علينا أولا أن نؤكد أننا نسعى لترسيخ مفهوم نؤمن به: وهو التطبيع الحقيقي. نقصد بذلك عملية حقيقية وصادقة تستند إلى "المبادرة السعودية"، التي يُشار إليها أيضا باسم "المبادرة العربية". نحن نتحدث تحديدا عن مبادرة الدول العربية عام 2002، التي دعت إلى حل الدولتين، بحيث تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية. هذا هو التطبيع الذي نطمح إليه.

ندرك تماما الدور المحوري الذي تضطلع به السعودية في هذا السياق، ونشعر بأن الوقت قد حان لرؤية تقدم ملموس على الأرض، بدلا من الاكتفاء بوعود ضبابية حول مسار مؤجل نحو إقامة دولة فلسطينية. وعلى مدى عقدين، نؤمن أن المبادرة السعودية تمثل أفضل طرح واقعي لتحقيق سلام دائم.

font change