مدرسة حاتم علي لإخراج الدراما التاريخية

من أهم مناهج مدرسة حاتم علي اختياره الدقيق للممثلين

مدرسة حاتم علي لإخراج الدراما التاريخية

في زمن تتزايد فيه التحديات التي تواجه الهوية التاريخية العربية، لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذي لعبه المخرج السوري حاتم علي في تعزيز هذه الهوية من خلال أعماله الدرامية التي قدم خلالها أدوات متنوعة لإحياء التاريخ العربي، بكل ما يحمله من مراجع ومخطوطات ومناهج إخراجية قرّبت لنا صورة الأمس التليد حتى بدت لنا أكثر وضوحا.

كثيرا ما سافر بنا المخرج حاتم علي عبر الزمن، يروي لنا قصص الأبطال والملاحم التي شكلت تاريخنا، ومنحتنا فرصة لإعادة التفكير في ماضينا القديم لاستخلاص العبر، وإعادة التعايش معه بعدما ظل مخبأً بين المخطوطات والروايات ليتيح لنا أساليب حديثة للحفاظ على هويتنا، وفرصا لاستكشاف جذورنا التاريخية.

يقوم النص التاريخي داخل مدرسة حاتم علي بإعادة سرد الأحداث التاريخية لجعلها شديدة الارتباط بالواقع المعاصر. وفي وقتنا الراهن الذي يشهد تحديات عديدة في الحفاظ على الهوية الثقافية في ظل تدخلات الآلة والذكاءات الصناعية المتعددة تزداد أهمية هذه النوعية من الأعمال التي تعيد تأصيل الذاكرة الجماعية للوجدان العربي. وبأعماله التاريخية ساهم في بناء جسور من التواصل بين الأمم المختلفة، وأعاد قراءة الماضي بصورة إن لم تكن تخييلية مقاربة فمرجعية أصيلة.

جمعت مدرسته الفنية بين الالتزام الفني المبدع وتوثيق التراث العربي، ما جعله الأب الحديث للدراما التاريخية التي تعكس هوية الأمة بشكل أصيل وعميق، ولذلك تمكن من التعبير عن التاريخ بطريقة فنية كلاسيكية، عكست الحضارة والتراث الذي حفظته مراجع التاريخ العربي. لتحمل جميع أعماله رسائل واضحة، مفادها أن التاريخ ليس مجرد أحداث قديمة، بل هو حياة مستمرة تلهم الشعوب وتعيدها إلى التمسك بميراثها وتراثها.

بدأ حاتم علي حياته المهنية منذ تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عام 1986 كممثل في مسلسل "دائرة النار" ليكون أول ظهور له على الشاشة. ليدخل بعدها وبالتحديد في عام 1994 إلى عوالم الإخراج لتبدأ بذلك مرحلة مثيرة في مسيرته الفنية التي عكفت على تقديم الدراما التاريخية كـ"صقر قريش" الذي سلط فيه الضوء على تاريخ الأندلس وحضارتها العريقة. فـ"ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف" ثم مسلسله "الزير سالم" الأكثر خلودا بالذهنية العربية والذي أكدّ على نجاحه في تجسيد ملاحم تاريخية بطريقة درامية ممزوجة بالبعدين الثقافي والتاريخي الذي جعلها تحظى بشعبية واسعة لدى المشاهد العربي.

وبإخراجه لمسلسل "التغريبة الفلسطينية" تمكن من تأسيس مدرسته الخاصة التي جمعت بين القضية والإنسان والتاريخ في ثالوث لم يسبق لدراما تاريخية تقديمه بالجرأة ذاتها التي نقلت معاناة الشعب الفلسطيني وعكست القضايا السياسية الهامة التي عاشها الفلسطينيون في سبيل نضالهم.

من أهم مناهج مدرسة حاتم علي الإخراجية اختياره الدقيق للممثلين الذين يجسدون الشخصيات التاريخية بكل صدق ونطق وجداني. إضافة إلى تواصله مع كُتّاب النصوص المميزين وبينهم الأديب الفلسطيني الدكتور وليد سيف، حيث أسهما معا في رفع الأعمال التاريخية إلى أعلى مستوياتها. وأبرز الأمثلة على نجاح شراكتهما مسلسل "الناصر.. صلاح الدين الأيوبي" الذي أعاد للمشاهد العربي ذاكرة استعادة الأراضي الإسلامية من الصليبيين، وحياة "صلاح الدين" البطل الذي غيّر التاريخ. ثم مسلسل "عمر" الذي قدم للدراما التاريخية صورة حية عن عظمة الإسلام والمسلمين في مرحلة الفتوحات الإسلامية.

في أيامه الأخيرة كان يحضّر لإنتاج الدراما الملحمية "سفر برلك" ما يؤكد أن مدرسة حاتم علي كان لديها المزيد من التجارب الفنية لتقديمها للفن العربي

رحيل حاتم علي في ديسمبر/كانون الأول 2020 إثر أزمة قلبية في منفاه الأخير بمدينة القاهرة التي استقر بها بعد اندلاع الثورة السورية 2011، شكل صدمة حقيقية لعالم الفن العربي، حيث غادر في وقت كان في ذروة عطائه الفني، تاركا برحيله فراغا كبيرا في مدرسة الدراما التاريخية. هذا ما أكدته المسلسلات التي أخرجت بعد وفاته ولم تقتف أثره أو تعود لمدرسته للاستفادة من تجاربه ومختبراته الميدانية.

في أيامه الأخيرة كان يحضّر لإنتاج الدراما الملحمية "سفر برلك" ما يؤكد أن مدرسة حاتم علي كان لديها المزيد من التجارب الفنية لتقديمها للفن العربي، سواء من خلال منهجه في الإخراج أو إبداعه الفني.

لم يقتصر إرثه على الطريقة التي أسس بها مدرسته الفنية المتفردة، بل كونه جعل من الدراما التاريخية وسيلة لربط الأجيال المختلفة بتاريخهم، لتصبح مصدر إلهام وإيمان كشف عن ثراء الخزانة العربية من الحضارة التي أسست بمناهجها وعلومها العالم الحديث.

إذا كانت الدراما التاريخية العربية قد شهدت نقلة نوعية بفضل حاتم علي فمن الواجب أن تستمر مدرسته الفنية في التأثير والتطوير. فكل عمل قدمه كان بمثابة منهج جديد للدراما العربية؛ لهذا يجب أن تبقى مناهج إخراجه متداولة على الدوام، ويمكن لابنه المخرج عمرو حاتم علي بالتعاون مع معاهد الفن، وشركات الإنتاج باستثمار إرثه الفني عن والده ليستمر إلهامه للأجيال القادمة في صناعة الفن التاريخي باعتباره جزءا لا يتجزأ من الهوية العربية الأصيلة...

font change