مصر تعيد البريق الى زراعة "الذهب الأبيض"

تسعى لاستعادة الريادة في زراعة القطن وصناعة الغزل والنسيج وتعزيز صادراتها الى الأسواق الدولية

Shutterstock
Shutterstock
نبات القطن المصري في موسم الحصاد

مصر تعيد البريق الى زراعة "الذهب الأبيض"

تحاول مصر استعادة مكانتها في السوق العالمية في مجال زراعة القطن وإنتاجه، الذي طالما كان يُعَد أحد أعمدة تفوقها الصناعي، بفضل سمعته العالمية وجودته الفائقة التي جعلته مفضلا لدى كبرى بيوت الأزياء. تسعى الدولة حاليا إلى تعزيز هذه المكانة من خلال زيادة المساحات المزروعة بالقطن، وإحياء صناعة الغزل والنسيج ذات التاريخ العريق والسمعة القوية، والتي تستند إلى الجودة الفريدة للقطن المصري على مدار سنوات عديدة.

تُعتبَر صناعة الغزل والنسيج صناعة استراتيجية تحمل فرصا واعدة للاستحواذ على حصة أكبر من الأسواق الخارجية، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك مع استكمال خطط التطوير الشامل للقطاع. ويُعَد قطاعا الملابس الجاهزة والغزل والنسيج ثاني أكبر القطاعات الصناعية في مصر، ويمثلان ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفران فرص عمل لنحو مليوني عامل.

ولطالما تميزت مصر بزراعة القطن الطويل التيلة، الذي يعكس تاريخها العريق في إنتاج المنسوجات القطنية. ونظرا الى أهمية هذا القطاع، بدأت الحكومة في تنفيذ خطة طموحة لتطوير صناعة الغزل والنسيج، تتضمن تقليص تصدير القطن الخام بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2025، بهدف تلبية احتياجات السوق المحلية، التي تستهلك حاليا نحو ستة في المئة فقط من الإنتاج، مع تشغيل المصانع المحلية التي تعتمد على خامات مستوردة لتلبية الطلب. يُذكَر أن باقي الإنتاج المصري يُصدَّر إلى 22 دولة، أبرزها الهند وباكستان والصين.

تمثّل صادرات القطن موردا حيويا للعملات الأجنبية، لا سيما في الدول المنخفضة الدخل، حيث تساهم في تغطية فواتير استيراد الغذاء. وتُعَد مصر واحدة من هذه الدول التي استفادت تاريخيا من القطن كمصدر رئيس للدخل القومي

ويُعتبَر القطن مصدرا رئيسا لمعيشة الملايين من أصحاب الحيازات الصغيرة والعاملين وأسرهم، إذ يوفر فرص العمل والدخل لهم على حد سواء. وعلى مستوى الدول، تمثل صادرات القطن موردا حيويا لجذب العملات الأجنبية، لا سيما في الدول المنخفضة الدخل، حيث تساهم في تغطية فواتير استيراد الغذاء.

كما تُعَد مصر واحدة من هذه الدول التي استفادت تاريخيا من القطن كمصدر رئيس للدخل القومي. غير أن ارتفاع تكلفة الإنتاج، وتراجع الجدوى الاقتصادية، ونقص العملة الأجنبية، كلها عوامل أثرت سلبا في إنتاجية القطن المصري وتسويقه، مما أفسح المجال أمام المنافسين العالميين في قطاع الغزل والنسيج لتوسيع حصصهم في السوق العالمية على حساب المنتجين المصريين.

"الذهب الأبيض" منذ زمن الفراعنة

لطالما اشتهرت مصر بتصدير القطن الذي عُرِف بـ"الذهب الأبيض". فالتاريخ الاقتصادي المصري، الممتد منذ زمن الفراعنة، يشهد كيف كانت الأقمشة الكتانية تُستخدَم لتزيين التماثيل الملكية الفرعونية. ومع افتتاح قناة السويس، أصبحت مصر مركزا عالميا لزراعة القطن المصري وتجارته وتصديره، فاكتسب شهرة واسعة بفضل جودته وارتفاع الطلب العالمي عليه. إلا أن الضغوط السياسية والاقتصادية التي فُرضت على البلاد في فترات سابقة، بما في ذلك ما تردد حول حظر زراعة القطن الطويل التيلة، أثرت سلبا في مكانة القطن المصري عالميا. كذلك ساهمت عوامل أخرى، مثل اختلاط أنواع الأقطان، في تراجع الإنتاجية والجودة.

.أ.ف.ب
مزارع مصري يقطف نبات القطن في مدينة كفر الشيخ، 13 سبتمبر 2018

وحاليا، تعمل الدولة على إنشاء مصانع جديدة، إذ بدأت بتشييد أكبر مصنع للغزل والنسيج في الشرق الأوسط، إلى جانب تشغيل 15 مصنعا قائما. تعزز هذه الجهود خطة متكاملة لإحياء قطاع الغزل والنسيج وزيادة الاعتماد على القطن المصري العالي الجودة.

وتولي مصر حاليا أهمية خاصة لسلسلة حلقات زراعة القطن الطويل التيلة، وغزله، وتصنيع الملابس القطنية ومشتقاتها، بهدف تعزيز الصادرات وتوفير نحو ملياري دولار كانت تُنفَق على استيراد الملابس

وشهد محصول القطن المصري خلال السنوات المنصرمة تراجعا كبيرا في المساحات المزروعة، التي انخفضت من نحو 2,2 مليون فدان (نحو 9 آلاف كيلومتر مربع) عام 2002 إلى 120 ألف فدان (نحو 486 كيلومتر مربع) فقط عام 2022. إلا أنه مع اهتمام الدولة أخيرا، ارتفعت المساحة المزروعة إلى 311 ألف فدان (نحو 1260 كيلومترا مربعا) حاليا، بعد توفير البذور المناسبة ومع تطبيق نظام جديد للمزايدة العالمية وتحديد سعر ضمان قبل الزراعة لتحفيز المزارعين بناءً على رتبة القطن وجودته. يهدف هذا النظام إلى تمكين المزارعين من الحصول على أسعار تغطي تكلفة زراعة الفدان، التي تصل إلى نحو 12 ألف جنيه (242 دولارا) للقنطار في الوجه البحري بدلتا النيل و10 آلاف جنيه (202 دولار) في الوجه القبلي بصعيد مصر.

خطط لحماية صناعة القطن من الخصخصة

يؤدي القطن دورا محوريا في صناعة النسيج العالمية منذ قرون، إذ ينتج العالم نحو 25 مليون طن منه سنويا. ووصف خبراء اقتصاد استطلعت "المجلة" آراءهم اهتمام الدولة بتطوير صناعة الغزل والنسيج بأنه قرار صائب واستراتيجي.

ويساهم هذا التوجه في حماية الصناعة من الخصخصة وآثارها السلبية، مثل تسريح العمال، مما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة. وعلى المديين المتوسط والطويل، يمكن أن تحقق هذه الخطط الاستراتيجية فوائد متعددة. فهي تشجع المستثمرين على التوسع في تجهيز الأراضي الزراعية، وتطوير مراحل الزراعة، وإدخال التكنولوجيا الحديثة، وتدريب العمالة الماهرة. ستساهم هذه الجهود في تحسين معدلات النمو في المناطق الريفية، وزيادة المداخيل الحقيقية للمزارعين، واستعادة مظاهر القرية المنتجة في الريف المصري.

Shutterstock
فلاحون يقطفون القطن خلال موسم الحصاد في كفر الغاب، في محافظة دمياط المصرية

من جهة أخرى، تسعى الدولة إلى بناء مصانع غزل ونسيج ضخمة لتلبية احتياجات السوق المحلية والتصدير. وتولي مصر حاليا أهمية خاصة لسلسلة حلقات زراعة القطن الطويل التيلة، وغزله، وتصنيع الملابس القطنية ومشتقاتها، بهدف تعزيز الصادرات وتوفير نحو ملياري دولار كانت تُنفَق على استيراد الملابس. هذا التوجه يسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتقليل الخسائر الناتجة من تصدير القطن من دون تصنيعه، ولا سيما إلى دول شرق آسيا، التي تُعَد من أكبر مراكز صناعة النسيج في العالم.

توقف التصنيع كان أحد الأسباب الرئيسة للأحداث التي سبقت انتفاضة 25 يناير/كانون الثاني 2011، إذ عانى العاملون في مصانع الغزل والنسيج بمدينة المحلة الكبرى من تعطل مصانعهم

كذلك ستساهم هذه الجهود في تقليص فجوة النقد الأجنبي، ومعالجة عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وسيوفر القطاع المصرفي التمويل اللازم لمراحل الإنتاج، من الزراعة إلى التصدير.

يُعتبر القطن المصري الأفضل عالميا لجودته العالية وصفاته الغزلية والتكنولوجية الفريدة. وينقسم القطن المصري نوعين رئيسين: الأقطان الطويلة التيلة التي تلائم الصناعة المحلية والتصدير، والأقطان الطويلة التيلة الممتازة ذات الصفات العالية المخصصة للتصدير.

توقف مصانع الغزل والنسيج كان أحد أسباب "ثورة" 25 يناير

يرى البعض أن اهتمام الدولة بقطاع القطن والغزل والنسيج يساهم في فتح آفاق جديدة للتعاون مع دول الخليج وأوروبا وآسيا، مما يضمن لمصر أسواقا مفتوحة تتيح لها تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة. ومن شأن ذلك أن يعود بالنفع على المزارعين، إذ ستشتري الدولة قنطار القطن بأسعار عادلة ومجزية، مما يحفز الفلاحين على التوريد. هذا الدعم يضمن استمرارية حركة التصنيع، وتشغيل خطوط الإنتاج من دون انقطاع.

.أ.ف.ب
عمال مصريون في مصنع لإنتاج المنسوجات، في مدينة العاشر من رمضان المصرية، 29 يوليو 2019

الجدير بالذكر أن توقف التصنيع كان أحد الأسباب الرئيسة للأحداث التي سبقت انتفاضة 25 يناير/كانون الثاني 2011، إذ عانى العاملون في مصانع الغزل والنسيج في مدينة المحلة الكبرى من تعطل مصانعهم. هذا الوضع استغلته حركة المعارضة، مثل حركة "كفاية"، التي جندت هؤلاء العاملين المحتجين وأشعلت الغضب، ولا سيما مع معاناة أصحاب مصانع الأقمشة واضطرارهم إلى الاستيراد بسبب نقص البذور والأقطان المصرية.

نبات القطن ثلاثي الفوائد، إذ تستخدم التيلة لتنشيط صناعة الغزل والنسيج التي تشغّل عمالة كبيرة، كما تُستخدَم بذور القطن بعد عصرها لاستخراج مادتين، الزيوت والأعلاف، مما يساهم في سد العجز الذي تعاني منه مصر في إنتاج المادتين

نقيب الفلاحين المصريين حسين أبو صدام

كانت مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى تُعد من أعمدة الصناعة المصرية، إذ حققت شهرة ونتائج ملموسة في الأسواق العالمية منذ تأسيسها كإحدى شركات "بنك مصر" عام 1927. ومع النهضة الأخيرة التي يشهدها القطاع، استطاعت هذه المصانع استيعاب كامل إنتاج مصر من القطن، مما أدى إلى تصنيعه محليا بدلا من تصديره كمادة خام.

جدوى اقتصادية عالية

أشاد نقيب الفلاحين، حسين أبو صدام، في حديث إلى "المجلة"، بالجدوى الاقتصادية العالية لزراعة القطن، ووصفه بأنه "نبات ثلاثي الفوائد، إذ يجري استخدام التيلة لتنشيط صناعة الغزل والنسيج، وهي صناعة تشغّل أعدادا كبيرة من العمالة، كما تُستخدَم بذور القطن بعد عصرها لاستخراج مادتين، الزيوت والأعلاف، مما يساهم في سد العجز الذي تعاني منه مصر في إنتاج المادتين، وهو مجال كانت مصر رائدة فيه لسنوات طويلة". 

تجدر الإشارة إلى أن مصر تستورد نحو 95 في المئة من احتياجاتها من الزيوت، مما يجعل زيادة مساحة زراعة القطن هدفا استراتيجيا لسد جزء من هذا العجز من خلال إنتاج زيت بذرة القطن محليا.

وأعرب أبو صدام عن مخاوفه من "أثر ركود الأسعار العالمية وتذبذب نظام المزايدة في الآونة الأخيرة، مما قد يؤدي إلى انتكاسة زراعة القطن". وأشار إلى "أن عزوف الشركات عن شراء القطن بسبب ارتفاع سعر الضمان يشكل تحديا كبيرا".

تبنت وزارة الزراعة المصرية استراتيجيا متكاملة للنهوض بمحصول القطن المصري. تركز على ضبط المنظومة التسويقية ووضع خريطة لتحديد مناطق زراعة أصناف القطن

الدكتور مصطفى عمارة، رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية بمعهد بحوث القطن

لذلك، دعا نقيب الفلاحين إلى دعم زراعة القطن وشراء المحصول بالسعر الذي حددته الدولة، "من أجل الحفاظ على الثقة بين المزارعين والحكومة، وضمان استمرار تطور هذا القطاع الحيوي".

ضبط المنظومة التسويقية

أحد التحديات التي واجهت القطن المصري كان اتجاه المصانع المحلية نحو غزل الأقطان القصيرة التيلة المستوردة من الخارج ونسجها، وعزوف الشركات عن شراء القطن المصري. كذلك تراجع دور الدولة والجمعيات الزراعية في تسويق القطن ودعمه خلال السنوات المنصرمة.

وأوضح رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية بمعهد بحوث القطن التابع لمركز البحوث الزراعية الدكتور مصطفى عطية عمارة، لـ"المجلة" "أن وزارة الزراعة المصرية تبنت استراتيجيا متكاملة للنهوض بمحصول القطن المصري. تركز هذه الاستراتيجيا على ضبط المنظومة التسويقية ووضع خريطة لتحديد مناطق زراعة أصناف القطن بناء على توصيات معهد بحوث القطن ووفق الاحتياجات الفعلية سواء للتصدير أو لتوفير المادة الخام لصناعة الغزل والنسيج محليا".

.أ.ف.ب
مصري يقوم بحياكة الخيوط في مصنع لإنتاج الملابس، في مدينة العاشر من رمضان المصرية، 29 يوليو 2019

وبالنسبة إلى المساحات والإنتاج، أوضح الدكتور عمارة "أن مساحة زراعة القطن عام 2023 بلغت نحو 255 ألف فدان (نحو 1032 كيلومترا مربعا)، وأنتجت نحو 1,05 مليون قنطار (نحو 116 ألف طن) من القطن. من هذه الكمية، جرى تصدير نحو 530 ألف قنطار (نحو 58 ألف طن) خام إلى الأسواق الدولية بقيمة 185 مليون دولار، مع الإشارة إلى أن نسبة الأقطان الطويلة التيلة بلغت 95 في المئة من إجمالي الصادرات، بينما كانت نسبة الأقطان الفائقة الطول 4,4 في المئة".

تتوجه نحو 90% من صادرات ألياف القطن المصري إلى دول آسيا، بينما يستحوذ الاتحاد الأوروبي على أكثر من نصف صادرات مصر من الأقطان الموجهة إلى الدول المتقدمة، مما يجعله الشريك الرئيس

أما عام 2024، فقد بلغت المساحة المزروعة نحو 311 ألف فدان (نحو 1260 كيلومترا مربعا)، بزيادة قدرها 23 في المئة عن العام السابق، وفق الدكتور عمارة، ومن المتوقع أن تعطي هذه المساحات إنتاجية تتراوح بين 1,7 و2,2 مليون قنطار (بين 187 ألفا و243 ألف طن) من القطن، مما يعكس نجاح الجهود المبذولة لتعزيز إنتاج القطن المصري واستدامته.

ما هي وجهات الصادرات المصرية؟

تظهر الصادرات المصرية من الأقطان تنوعا جيدا في وجهاتها، إذ تتوزع بين الدول النامية والمتقدمة، كما يعكس خصوصية ألياف القطن المصري. بالنسبة إلى الدول النامية، تتوجه نحو 90 في المئة من صادرات ألياف القطن المصري إلى دول آسيا، بينما يستحوذ الاتحاد الأوروبي على أكثر من نصف صادرات مصر من الأقطان الموجهة إلى الدول المتقدمة، مما يجعله الشريك الرئيس في هذا المجال. 

على الرغم من ذلك، لا يزال موقف مصر التنافسي في الأسواق العالمية لتصدير الأقطان متواضعا، إذ تحتل مصر المرتبة 21 عالميا، بمساهمة تقدر بنحو 0,8 في المئة من الصادرات العالمية الإجمالية للأقطان.

وفي ما يتعلق بالنمو في القطاعات المرتبطة، شهد قطاع الغزل والنسيج نموا بلغ خمسة في المئة خلال عام 2023، مع تحقيق صادرات بقيمة 1,12 مليار دولار. أما في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/أيلول 2024، فبلغت صادرات القطاع نحو 833 مليون دولار. وفي السياق ذاته، حققت صادرات قطاع الملابس الجاهزة خلال الفترة نفسها من عام 2024 نحو 2,43 مليار دولار، بزيادة ملحوظة نسبتها 18في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023.

font change