اعتقال رئيس بلدية إسطنبول.. وأدُ "انقلاب سياسي" في مهده؟

أكرم إمام أوغلو أحد المرشحين بقوة لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة أمام أردوغان

رويترز
رويترز
أنصار رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو يتجمعون بالقرب من مقر شرطة المدينة، 19 مارس

اعتقال رئيس بلدية إسطنبول.. وأدُ "انقلاب سياسي" في مهده؟

اهتز المشهد السياسي التركي مع اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، فجر الأربعاء، في عملية شارك فيها نحو 400 عنصر من الشرطة، حيث جرى اقتياده من منزله مباشرة من غرفة نومه.

لم يكن هذا التطور مفاجئا تماما، إذ كانت الحكومة تمارس ضغوطا متزايدة على إمام أوغلو بوسائل مختلفة، في حين كان مكتب المدعي العام يحقق معه منذ فترة. وقد تصدرت مسألة صحة شهادته الجامعية المشهد، حيث أعلنت جامعة إسطنبول، الليلة الماضية، عن إلغائها، بعد مرور 31 عاما على تخرجه. ومع ذلك، لم يكن هذا هو سبب اعتقاله صباح اليوم، بل وُجهت إليه اتهامات تتعلق بقيادة منظمة إجرامية وتقديم الدعم لـ"حزب العمال الكردستاني" (PKK)، المصنف كمنظمة إرهابية.

إلى جانب إمام أوغلو، جرى اعتقال 106 أشخاص آخرين حتى الآن، مع توقعات بارتفاع العدد خلال الساعات المقبلة. وشملت قائمة المعتقلين أيضا رئيسي بلديتي شيشلي وبيليك دوزو في إسطنبول، وكلاهما ينتمي إلى "حزب الشعب الجمهوري" (CHP)، الذي يمثل المعارضة الرئيسة في البلاد. كما طالت حملة الاعتقالات الصحافي البارز إسماعيل صايماز، إضافة إلى المغني والملحن الشهير إرجان ساتشي، حيث يُعتقد أن التهم الموجهة إليهما تتعلق بتقديم الدعم لمحاولة الإطاحة بالحكومة.

خلفية الادعاءات حول شهادة إمام أوغلو الجامعية

التحق أكرم إمام أوغلو بجامعة جيرنا الأميركية (GAU) في جمهورية شمال قبرص التركية في 5 سبتمبر/أيلول 1988، حيث درس إدارة الأعمال باللغة الإنجليزية. وبعد عامين من الدراسة، انتقل إلى جامعة إسطنبول، وهو إجراء شائع في تركيا، إذ يتم الانتقال بين الجامعات بناء على معايير محددة، من بينها المعدل التراكمي. وفي حال استيفاء الطالب لهذه المعايير، يُسمح له بالانتقال إلى الجامعة الجديدة لإكمال دراسته.

قُبل طلب إمام أوغلو للانتقال إلى جامعة إسطنبول، واستكمل فيها دراسته، وتخرّج رسميا عام 1994 بشهادة جامعية معتمدة.

ظهرت الادعاءات حول "تزوير" شهادة إمام أوغلو بعد انتخابه رئيسا لبلدية إسطنبول الكبرى في الانتخابات المحلية عام 2019. وفي 15 فبراير/شباط 2020، قدّمت شكوى إلى مركز الاتصال الرئاسي (CİMER)، وهو نظام حكومي يتيح للمواطنين الأتراك تقديم الشكاوى والتعليقات، وزعمت الشكوى حينها عدم انتظام إجراءات انتقال إمام أوغلو من جامعة جيرنا الأميركية (GAU) إلى جامعة إسطنبول عام 1990.

وفي سبتمبر/أيلول 2024، قُدّم طلب آخر مشابه إلى مركز الاتصال الرئاسي، ما دفع مكتب المدعي العام في إسطنبول لفتح تحقيق رسمي بتاريخ 22 فبراير/شباط 2025، بتهمة "تزوير مستندات رسمية". واستند الادعاء إلى "تقرير بحثي" صادر عن مجلس الرقابة التابع لمجلس التعليم العالي (YÖK) بتاريخ 17 فبراير 2025، والذي أوضح أن إمام أوغلو استوفى بالفعل شروط الانتقال بين الجامعات. لكن التقرير أشار إلى أن جامعة جيرنا الأميركية لم تكن معترفا بها رسميا من مجلس التعليم العالي التركي في تلك الفترة.

قبل أيام قليلة، استقال أحمد كوسه، عميد كلية إدارة الأعمال في جامعة إسطنبول، والذي سبق له تأكيد عدم وجود أي مخالفات في شهادة أكرم إمام أوغلو الجامعية.

وأرجع كوسه سبب استقالته إلى "الإرهاق الناجم عن الإدارة طويلة الأمد والتطورات الأخيرة". في المقابل، عزا زعيم "حزب الشعب الجمهوري" (CHP)، أوزغور أوزَل، استقالة كوسه إلى "الضغوط التي مارستها الحكومة عليه"، بهدف دفعه إلى التراجع عن تقريره السابق الذي يؤكد سلامة شهادة إمام أوغلو.

على مدى الأسابيع الماضية، شهدت تركيا حملة واسعة من التحقيقات والاعتقالات طالت شخصيات بارزة من مختلف قطاعات المجتمع، شملت رؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلدية ومسؤولين في "حزب الشعب الجمهوري" (CHP)، إضافة إلى مديري وكالات فنية وصناعيين وصحافيين وقادة أحزاب سياسية.

تعددت أسباب هذه الاعتقالات؛ فبعض المحتجزين وُجهت إليهم تهم بسبب تصريحاتهم حول الوضع الاقتصادي العام، وآخرون واجهوا تهما تتعلق بالفساد، في حين تم توقيف آخرين على خلفية مشاركتهم في احتجاجات منتزه غيزي عام 2013

تعددت أسباب هذه الاعتقالات؛ فبعض المحتجزين وُجهت إليهم تهم بسبب تصريحاتهم حول الوضع الاقتصادي العام، وآخرون واجهوا تهما تتعلق بالفساد، في حين تم توقيف آخرين على خلفية مشاركتهم في احتجاجات منتزه غيزي عام 2013. وكانت موجة المظاهرات تلك، التي بدأت من إسطنبول وامتدت إلى أنحاء تركيا، قد تركت أثرا عميقا على الرئيس رجب طيب أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" (AKP).

وتعيش إسطنبول في الآونة الأخيرة حالة من التوتر المتصاعد، خاصة مع تزايد العمليات التي يجريها مكتب المدعي العام بحق البلديات التابعة لـ"حزب الشعب الجمهوري". وفي الأسابيع القليلة الماضية، تم اعتقال رئيسي بلديتي أسنيورت وبشكتاش ضمن هذه الحملة المستمرة.

من هو أكرم إمام أوغلو؟

يرى كثيرون أن الهدف الحقيقي وراء هذه الاعتقالات هو أكرم إمام أوغلو، الذي يعدّ من أبرز الشخصيات الصاعدة على الساحة السياسية التركية.

بدأ أكرم إمام أوغلو مسيرته السياسية رئيسا لبلدية بيليك دوزو، إحدى مناطق إسطنبول، قبل أن يترشح لمنصب رئيس بلدية إسطنبول الكبرى في الانتخابات المحلية لعام 2019، كمرشح عن "حزب الشعب الجمهوري" (CHP).

في تلك الانتخابات، فاز إمام أوغلو بحصوله على 48.77 في المئة من الأصوات (نحو 4 ملايين و169 ألفا و36 صوتا)، متفوقا على منافسه من "حزب العدالة والتنمية" (AKP) بفارق 13 ألف صوت فقط. لكن اعتراضات "حزب العدالة والتنمية" أدت إلى صدور قرار من المجلس الأعلى للانتخابات بإلغاء نتائج الانتخابات في إسطنبول، وأُقيل إمام أوغلو من منصبه، مع إعادة الانتخابات في 23 يونيو/حزيران 2019.

أ.ف.ب
رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في خطاب سياسي أمام أنصاره عام 2019

وفي جولة الإعادة، نجح إمام أوغلو في رفع نسبة الأصوات التي حصل عليها إلى 51.14 في المئة، ليوسع الفارق بينه وبين منافسه من 13 ألف صوت إلى 806.014 صوتا، ما اعتُبر هزيمة تاريخية موجعة لـ"حزب العدالة والتنمية".

وفي الانتخابات المحلية التالية عام 2024، ترشح إمام أوغلو مرة أخرى لمنصب رئيس بلدية إسطنبول، وفاز مجددا بنسبة 51.1 في المئة من الأصوات، متفوقا هذه المرة على منافسه من "حزب العدالة والتنمية" بفارق تجاوز 1.1 مليون صوت. وأحدثت هذه الهزيمة وقعا أشد وأكثر مرارة على "حزب العدالة والتنمية"، وهو ما يفسر إلى حد بعيد استمرار غضب الرئيس رجب طيب أردوغان إزاء هذه الخسارة.

في ظل الوضع الراهن، لم يعد بإمكان أكرم إمام أوغلو الترشح مجددا لمنصب رئيس بلدية إسطنبول، إذ تنص المادة 6 من قانون الانتخابات التركي على ضرورة امتلاك المرشح شهادة جامعية سارية المفعول كشرط أساسي لخوض الانتخابات.

ومع ذلك، فإن هذه المسألة ليست السبب وراء اعتقاله الأخير. ووفقا لبيان مكتب المدعي العام في إسطنبول، فإن من بين التهم الموجهة إلى إمام أوغلو قيادة منظمة إجرامية، والانتماء إلى منظمة إجرامية، إضافة إلى التزوير والتلاعب في المناقصات. كما وجه المدعي العام اتهامات أخرى لإمام أوغلو تتعلق بتقديم تسهيلات وفرص لأعضاء ومؤيدي "حزب العمال الكردستاني" (PKK) و"اتحاد مجتمعات كردستان" (KCK)، وهما منظمتان تصنفهما تركيا كمنظمات إرهابية.

وبما أن هذه التهم تُصنَّف وفق القانون التركي ضمن نطاق "الجرائم المنظمة"، فإن الحكومة تمتلك بموجب ذلك صلاحية تعيين "وصي" على بلدية إسطنبول، وهو ما يعني عمليا إمكانية تعيين شخص تختاره الحكومة لتولي رئاسة البلدية بدلا من إمام أوغلو.

ويحق لأكرم إمام أوغلو وفريقه القانوني الطعن في هذا القرار أمام المحكمة الإدارية، ثم مجلس الدولة في مرحلة لاحقة. ورغم عدم وضوح الخطوات المقبلة، فإن فريقه القانوني من المتوقع أن يقدم استئنافا في الوقت المحدد.

بما أن اتهامات أوغلو تُصنَّف وفق القانون التركي ضمن نطاق "الجرائم المنظمة"، فإن الحكومة تمتلك بموجب ذلك صلاحية تعيين "وصي" على بلدية إسطنبول، وهو ما يعني عمليا إمكانية تعيين شخص تختاره الحكومة لتولي رئاسة البلدية

فرضت محافظة إسطنبول حظرا على التجمعات والمظاهرات لمدة أربعة أيام، ابتداء من 19 حتى 23 مارس/آذار، كما منعت عقد المؤتمرات الصحافية وأعادت جدولة خدمات المترو والحافلات، مع تطبيق قيود على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وباختصار، يمكن القول إن السلطات فرضت حالة طوارئ غير رسمية في المدينة، بهدف منع أي مظاهرات مؤيدة لإمام أوغلو، وإحباط أي تحركات قد ينظمها أنصاره احتجاجا على اعتقاله.

ومنذ الانتخابات المحلية الأخيرة، برز السؤال حول هوية المرشح الذي سيختاره "حزب الشعب الجمهوري" (CHP) لمنافسة الرئيس رجب طيب أردوغان، ليصبح الموضوع الرئيس في أجندة الحزب وعلى الساحة السياسية التركية عموما.

وعلى الرغم من أن موعد الانتخابات الرئاسية لا يزال يبعد نحو ثلاث سنوات، إلا إذا طرأت تطورات استثنائية، فإن الحزب كان قد اتخذ بالفعل قرارا داخليا بترشيح إمام أوغلو للرئاسة، وكان من المقرر أن يُعلن رسميا عن ترشيحه في اجتماع يعقد بتاريخ 23 مارس/آذار الجاري.

ويرى أنصار "حزب الشعب الجمهوري" (CHP) وكثيرون غيرهم أن الحملة الجارية ضد أكرم إمام أوغلو هي بمثابة "انقلاب سياسي" هدفه تشويه سمعته، وإقصاؤه عن المشهد السياسي، ومنعه من المنافسة في أي انتخابات رئاسية قادمة.

على الرغم من أن موعد الانتخابات الرئاسية لا يزال يبعد نحو ثلاث سنوات، إلا إذا طرأت تطورات استثنائية، فإن الحزب كان قد اتخذ بالفعل قرارا داخليا بترشيح إمام أوغلو للرئاسة

وفي خطوة لافتة، توجّه أوزغور أوزيل، زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، من أنقرة إلى إسطنبول لإظهار تضامنه مع إمام أوغلو بعد اعتقاله. كما أعلن أوزيل أنه سيعقد مؤتمرا صحافيا رغم الحظر المفروض من قِبَل محافظة إسطنبول على جميع المؤتمرات الصحافية والتجمعات العامة.

أما الموقف الذي كان أكثر ترقبا، فكان موقف منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة الكبرى، والمنافس الداخلي الرئيس لإمام أوغلو على ترشيح الحزب للرئاسة. فقد أعلن يافاش أنه لن يصمت تجاه حرمان إمام أوغلو من حقه في الترشح للرئاسة عبر ممارسات وصفها بأنها "غير قانونية وغير ديمقراطية"، مؤكّدا أنه سيعلق قراره الخاص بشأن الترشح إلى أن تُرفع هذه الضغوط والإجراءات غير المشروعة عن إمام أوغلو.

رويترز
أحد أنصار رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في تظاهرة احتجاجا على اعتقاله

كما صدرت ردود فعل واسعة من أحزاب المعارضة التركية تجاه اعتقال أكرم إمام أوغلو. زعيم حزب "إيي (الحزب الجيد)"، موساوات درويش أوغلو، وصف ما يحدث بأنه محاولة لإسقاط النظام الدستوري وتنفيذ "انقلاب مدني". كما علّق علي باباجان، أحد مؤسسي "حزب العدالة والتنمية" سابقا، الذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء المسؤول عن الاقتصاد لسنوات طويلة قبل تأسيس حزبه الجديد، واصفا التطورات الحالية بأنها "انقلاب حقيقي"، معتبرا أن تركيا شهدت تغييرا جوهريا في نظامها السياسي.

وعلى المستوى الاقتصادي، يشعر رجال الأعمال الأتراك بتوتر متزايد، في حين تتابع الأوساط التجارية الدولية والمستثمرون التطورات عن كثب. وشهد مؤشر بورصة إسطنبول خسائر كبيرة تراوحت بين 7-8 في المئة خلال الجلسة الصباحية وحدها، ما دفع إلى تفعيل آلية وقف التداول مرتين، الأولى في الصباح والثانية بعد الظهر. كما سجل الدولار الأميركي رقما قياسيا جديدا متجاوزا حاجز 41 ليرة تركية، فيما قفز اليورو إلى نحو 45 ليرة.

في هذه الأثناء، تزداد حالة التوتر الاجتماعي بشكل واضح، وسط مخاوف من أن يؤدي الاحتقان السياسي المتصاعد، مصحوبا بالصعوبات الاقتصادية المتفاقمة، إلى تداعيات سلبية على الاستقرار الداخلي لتركيا.

font change