أيا يكن المسار الذي ستمضي فيه العلاقة بين واشنطن وكييف، بعد الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين وخصوصا بعد المشادة الكلامية الحادة في البيت الأبيض بين ترمب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوم 28 فبراير/شباط الماضي، فالخسارة تنتظر الرئيس الأوكراني في آخره أو قبل ذلك.
يحاول زيلينسكي الآن أن يبقى عائما وسط أمواج عالية وعواصف عاتية. الإعصار الترمبي جاء أشد مما كان متوقعا، ووضع زيلينسكي في مفترق طريقين أفضلهما وعر، وبات عليه أن يختار أحدهما. خياران مختلفان ولكنهما يقودان إلى نتيجة واحدة، أو أقله نتيجتين متقاربتين. فهو خاسر أيا يكن خياره، سواء حافظ على الموقف الذي اتخذه في النقاش مع ترمب ونائبه جيه دي فانس وانتهى إلى طرده من البيت الأبيض، أو تراجع عنه واعتذر بطريقة ترضي الرئيس الأميركي.
خيار القوة التي تُضعف:
قبل اختيار زيلينسكي طريق المصالحة والتهدئة، كان يبدو أنه لو اختار الثبات عند الموقف الذي أغضب ترمب وفانس، أو تراجع عنه جزئيا بطريقة لا يرضيان بها، ربما يبدو في صورة زعيم قوي لا يخاف ويصر على الموقف الذي يرى مصلحة بلاده فيه. ولكن هذه القوة ليست إلا شكلا يحجب وضعا بالغ الصعوبة، ويغطي ضعفا عسكريا ومن ثم سياسيا، ويؤدي إلى مزيد من الهشاشة في موقف أوكرانيا إزاء روسيا.
يحاول زيلينسكي، منذ انتهاء القمة الأوروبية غير الرسمية التي ذهب إليها في لندن فور طرده من البيت الأبيض، استرضاء ترمب وفريقه. كشف الرئيس الأميركي، في خطاب حالة الاتحاد في 4 مارس/آذار الجاري، أنه تلقى رسالة من زيلينسكي. وسعى الرئيس الأوكراني في الوقت نفسه إلى تجاوز ما سمّاه "الأمر المؤسف" الذي حدث في البيت الأبيض. وقال إنه يريد العمل تحت قيادة ترمب للتوصل إلى سلام، ويريد توقيع الاتفاقية التي كان مقررا إبرامها في البيت الأبيض. ولكنه لم يعتذر بشكل صريح وواضح على النحو الذي يرضي ترمب، ولم يقل إنه يقبل الاتفاقية بالصيغة التي يريدها الأميركيون بل بـ"صيغة مناسبة". وسمّاها "اتفاقية المعادن والأمن". وهذا هو جوهر الخلاف بشأنها. فهو يريد أن يُضاف إليها نص أو أكثر عن ضمانات أمنية أميركية لأي اتفاق يمكن التوصل إليه لوقف الحرب، وخاصة مشاركة جنود من الولايات المتحدة في قوة حفظ السلام التي يرى ترمب أن تكون أوروبية.
أصبح موقف زيلينسكي أضعف مما كان عليه. فالأرجح أن ترمب لن يغفر له محاولته الظهور في مظهر الند أمام وسائل الإعلام، ومن ثم العالم، حتى إن اعتذر بطريقة لا لبس فيها
ويتمحور الخلاف في هذا المجال حول مفهوم الأمن لدى الطرفين. فالأمن لدى زيلينسكي مادي يتجسد بوجود عسكري أميركي في إطار عملية حفظ السلام حال بلوغه، فيما هو عند ترمب معنوي يضمنه وجود استثمار اقتصادي طويل المدى في المعادن الثمينة والنادرة في أوكرانيا بما يعنيه من مصلحة مشتركة تفرض على الولايات المتحدة الدفاع عنها.
"صمود" زيلينسكي، إذن، كان قصير المدى. لو لم يتراجع لكان ازداد موقف أوكرانيا العسكري صعوبة، وقد تُحقّق القوات الروسية اختراقا كبيرا وتستولى على مزيد من الأراضي الأوكرانية، الأمر الذي سيُضعف شعبيته مجددا بعد أن ازدادت نسبيا إثر الموقف الذي اتخذه في البيت الأبيض. وربما يُغري هذا الضعف بالسعي إلى استبداله، برغم صعوبة ذلك سواء سياسيا أو عسكريا. على المستوى السياسي يتعذر إجراء الانتخابات المؤجلة منذ مارس/آذار في العام الماضي بسبب فرض حالة الطوارئ لزوم الحرب ضد روسيا. فليس ممكنا إجراء انتخابات حقيقية في ظل حالة طوارئ. كما أن الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها أجهزة الأمن في ظل هذه الحالة تُبعد احتمال حدوث تمرد مدني داخلي على النحو الذي حدث عام 2005 مثلا.
أما على المستوى العسكري فقد أسرع قائد الجيش أولكسندر سيرسكي إلى إعلان دعمه لزيلينسكي عقب مشادة البيت الأبيض. غير أن هذا لا يعني استمرار ولاء الجيش في حالة تأثره بوقف الإمدادات العسكرية الأميركية التي توقفت ثم استؤنف إرسالها. ربما يُحمّل قادة ميدانيون زيلينسكي المسؤولية عن تراجع قدرات الجيش. وقد يؤدي ذلك إلى محاولة الانقلاب عليه. وليس مستبعدا أن تسعى واشنطن لاستبداله. فقد تحدث ترمب عن أن من لا يقبل السلام لن يستمر طويلا. وكان بعض مساعديه أكثر صراحة مثل مستشار الأمن القومي مايك والتز الذي قال لشبكة "سي إن إن" في 8 مارس ما معناه إذا حالت دوافع زيلينسكي الشخصية والسياسية دون إنهاء الحرب "سنحتاج إلى زعيم يمكنه التعامل معنا، ومع الروس". وربما تُفضل واشنطن وزير الداخلية السابق أرسين أفاكوف، أو القائد السابق للجيش حتى فبراير/شباط 2024 فاليري زالوجني.
خيار السلام بطعم الاستسلام!
أصبح موقف زيلينسكي أضعف مما كان عليه. فالأرجح أن ترمب لن يغفر له محاولته الظهور في مظهر الند أمام وسائل الإعلام، ومن ثم العالم، حتى إن اعتذر بطريقة لا لبس فيها. قبل ترمب اعتذاره بالطريقة التي يراها كافية، وسيعمل معه لأنه يريد إنهاء الحرب في أوكرانيا. ولكن هذا السلام قد يكون أقرب إلى استسلامٍ أمام موقف روسيا الذي لا يترك، حتى اللحظة، مساحة لحل وسط حتى إذا كان في مصلحتها.
وإذا كان في إمكان ترمب التأثير في هذا الموقف، ربما لا يستخدم كل الأوراق التي كان في استطاعته الضغط بها على روسيا قبل أن يشتد غضبه على زيلينسكي.
تملص زيلينسكي من التوقيع على اتفاق سلام يتضمن ضم أربع مقاطعات أوكرانية إلى روسيا سواء صراحة أو ضمنا، قد لا يعني الكثير من الناحية الواقعية
وقد لا يكون لدى الرئيس الأوكراني وقت إذا وجد أن خيار السلام بهذا المعنى هو الأقل سوءا بالنسبة إليه. فكل يوم يمر يتيح للقوات الروسية فرصة لتعزيز مواقعها، خاصة في ضوء تعليق الإمدادات العسكرية لأوكرانيا. وإذا تمكنت هذه القوات من استعادة المناطق التي تحتلها قوات أوكرانية في إقليم كورسك منذ أغسطس/آب 2024، سيفقد زيلينسكي الورقة الأكثر أهمية من الناحية العسكرية في المفاوضات التي ستُجرى، ولن يكون في إمكانه التفاوض على "تبادل أراضٍ". فما زال في استطاعته حتى اللحظة أن يطلب تنازلا كبيرا مقابل الانسحاب من هذا الإقليم. وسيكون على موسكو أن تتفاوض بجدية كاملة لاستعادة أول إقليم روسي يُحتل منذ الحرب العالمية الثانية.
وإذا استعادت روسيا هذا الإقليم قد لا يكون أمام زيلينسكي إلا قبول واقع احتلال روسيا نحو 20 في المئة من أراضي بلاده. وربما لا يبقى له إلا السعي إلى إبقاء وضع هذه الأراضي مُعلقا من الناحية القانونية، ومن ثم محاولة تجنب قبول التخلي رسميا عنها. وقد يأخذ مثل هذا السعي صورة الاكتفاء باتفاقٍ لوقف الحرب، وعدم الذهاب إلى سلام كامل، ليتجنب قبول ضم أربع مقاطعاتٍ أوكرانية إلى روسيا.
غير أن تملص زيلينسكي من التوقيع على اتفاق سلام يتضمن ضم أربع مقاطعات أوكرانية إلى روسيا سواء صراحة أو ضمنا، قد لا يعني الكثير من الناحية الواقعية. فما إن توقف الحرب حتى تزداد الضغوط عليه لإجراء الانتخابات الرئاسية التي يُتوقع أن يخسرها إن خاضها. ولكن الأهم أن من سيخلفه ربما يكون أكثر استعدادا لتوقيع اتفاق سلام كامل، أي إكمال صفقة الاستسلام التي يُتوقع أن يحاول زيلينسكي عدم إكمالها.
فيا لها من ورطةٍ تاريخية بالنسبة إلى زيلينسكي، ولأوكرانيا بطبيعة الحال. فـالإعصار الترمبي يضربها بقوة أكثر مما يفعل في غيرها ربما باستثناء غزة والضفة الغربية.