نتنياهو وغزة… التشبث بالكرسي بأي ثمن

النية الإسرائيلية المبيّتة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الدمار الهائل في غزة جراء الحرب الإسرائيلية

نتنياهو وغزة… التشبث بالكرسي بأي ثمن

بعد وقف إطلاق النار وتوقف العمليات العسكرية 58 يوما متواصلا بين الجيش الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة "حماس" وجناحها العسكري "كتائب القسام" في قطاع غزة، استأنفت إسرائيل ضرباتها الحربية فجر الثلاثاء 18 مارس/آذار الحالي دون سابق إنذار أو تحذير، بذريعة ممارستها الضغط على وفد "حماس" في عمليات التفاوض من أجل الإفراج عن نصف المحتجزين الإسرائيليين الأحياء والقتلى لديها دون شروط.

وبحسب مصادر سياسية إسرائيلية، تقول إن "حماس" لا يزال لديها 59 محتجزا إسرائيليا من بينهم 28 قتيلا على الأقل.

وكنتيجة للضربة الواسعة والاغتيالات التي شنها الجيش الإسرائيلي على أكثر من 100 هدف بحسب التصريحات الإسرائيلية، أعلنت وزارة الصحة في غزة عن وصول أكثر من 400 ضحية من بينهم 174 طفلا و89 امرأة و32 من كبار السن، فيما نعت حركة "حماس" اثنين من أعضاء مكتبها السياسي للحركة، هما: ياسر حرب، ومحمد الجماصي، ورئيس لجنة العمل الحكومي التابعة لـ"حماس" في غزة عصام الدعليس- حاولت إسرائيل اغتياله خلال الحرب إلا أنه نجى من الاستهداف حينها- ووكيل وزارة العدل أحمد الحتّة، ووكيل وزارة الداخلية التابعة لـ"حماس" اللواء محمود أبو وطفة، ومدير عام جهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان، جميعهم قصفوا في منازل مع زوجاتهم وأبنائهم.

يتساءل الكثيرون حول المزاعم والأسباب التي دفعت إسرائيل للعودة إلى العمليات العسكرية في غزة وتنفيذ الاغتيالات، وما إذا كانت تلك العمليات مفاجئة دون سابق تخطيط؟ ومدى مصداقية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وادعائه أنه قرر ومجلس وزرائه تنفيذ ضربات حربية لدفع "حماس" للعودة إلى طاولة المفاوضات والإفراج عن المحتجزين لديها؟ وما إذا كانت هذه الأسباب الظاهرية التي صرح بها هي دافعه الرئيس؟

وللتذكير، كانت حركة "حماس" وإسرائيل قد توصلتا لاتفاق وقف إطلاق نار وتبادل أسرى بدأ سريانه في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك بعد حرب إبادة جماعية إسرائيلية استمرت 470 يوما، وجولات تفاوضية بوساطة مصرية قطرية أميركية، حيث بدأت العملية بتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق والتي استمرت 42 يوما جرى خلالها إطلاق صراح "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية 33 محتجزا من بينهم 8 جثامين، في المقابل أفرجت إسرائيل عن قرابة 1900 من الأسرى الفلسطينيين من سجونها، بالإضافة إلى دخول شاحنات تحمل مساعدات إغاثية وسفر أعداد محدودة للمرضى، أقل من المتفق عليه وفق الاتفاق، مقابل انسحاب جزئي إسرائيلي من مناطق وسط المدن والمخيمات إلى المناطق الحدودية داخل القطاع، حيث كان من المفترض أن يجري الانسحاب الكامل واستكمال عملية تبادل الأسرى ضمن المرحلة الثانية، إلا أن إسرائيل ماطلت في عقد جلسات التفاوض حول تلك المرحلة ثم طالبت بتمديد المرحلة الأولى، وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع.

بدأت المماطلات الإسرائيلية والمؤشرات حول عدم جدية إسرائيل في تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار واستكمال مراحله الثلاث، خلال تنفيذ المرحلة الأولى

بدأت المماطلات الإسرائيلية والمؤشرات حول عدم جدية إسرائيل في تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار واستكمال مراحله الثلاث، خلال تنفيذ المرحلة الأولى، حيث كان من المفترض وبحسب نص الاتفاق الذي نشرته "المجلة" في حينها، أن يبدأ الطرفان في جولات التفاوض حول تنفيذ بنود المرحلة الثانية في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، استمر في المماطلة وإشغال الوسطاء في تذليل العقبات أمام تنفيذ بنود المرحلة الأولى، كذلك لم يسمح بدخول عدد شاحنات المساعدات الإغاثية المتفق عليه، ولم يسمح إلا بدخول عدد محدود جدا من الكرفانات وبعض الجرافات المصرية لفتح الشوارع ورفع الأنقاض.

بالإضافة إلى سماح إسرائيل بخروج عدد بسيط من المرضى والمرافقين للعلاج بالخارج عن طريق معبر رفح البري مع مصر، وأقل من العدد اليومي المتفق عليه، وهو ما أبدت حركة "حماس" اعتراضها عليه عدة مرات وطالبت الوسطاء بالضغط على إسرائيل لإلزامها بتنفيذ بنود الاتفاق، إلا أنها وبعد إيهام الجميع بمرونتها في التنفيذ وقالت إنها وافقت على إدخال المعدات الثقيلة لرفع الركام عبر معبر كرم أبو سالم، سمحت في اليوم التالي خلال التنفيذ، بدخول جرافتين فقط، كذلك فعلت في الكرفانات والبضائع والمساعدات.

رويترز
فلسطينيون يفرون من منازلهم، بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء لعدد من الأحياء، في أعقاب الضربات الإسرائيلية العنيفة، في شمال قطاع غزة 18 مارس 2025

كانت تلك مؤشرات واضحة حول النية الإسرائيلية المُبيتة والتي تهدف للحصول على أكبر عدد من محتجزيها لدى حركة "حماس" وفصائل المقاومة بأقل الخسائر بالنسبة لها. ويضاف إلى ذلك، التصريحات الأميركية والتي صدرت على لسان رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب حول نيته العمل على تهجير الفلسطينيين في قطاع غزة إلى الأردن ومصر أو دول أخرى بحجة الدمار الهائل الذي تعرض له القطاع، وعدم القدرة على تنفيذ إعادة الإعمار إلا بعد ترحيل الغزيين إلى دول أخرى، والتي تبعتها تهديدات صريحة ومباشرة لـ"حماس" بالإفراج عن كافة المحتجزين لديها دُفعة واحدة وإعطاء إسرائيل الضوء الأخضر للتصرف في حال لم تفعل ذلك "حماس".

كل ذلك، جرى خلال تنفيذ بنود الاتفاق في المرحلة الأولى، وفي أيامها الأخيرة، بدأ الحديث من خلال وسائل الإعلام، عن إعداد خطة من مبعوث الإدارة الأميركية للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، لطرحها، وتقضي بتمديد المرحلة الأولى لأكثر من 30 يوما، يجري خلالها تبادل نصف عدد المحتجزين لدى "حماس" مع أسرى فلسطينيين وفق اتفاق المرحلة الأولى، وفتح المعابر أمام دخول شاحنات المساعدات، إلا أن حركة "حماس" لم توافق على ذلك، إيمانا منها بأن صمودها وعدم التنازل عن موقفها سيقابله انصياع إسرائيلي لتنفيذ المرحلة الثانية.

ومع تشدد موقف الفريق المفاوض لحركة "حماس"، ولممارسة الضغط عليها، تعالت التهديدات الأميركية الداعمة للموقف الإسرائيلي، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ عدة خطوات عقابية، مثل قطع الكهرباء عن غزة، والتي تعاني من ظلام دامس نتيجة الحرب ودمار البنية التحتية إلا من خط كهرباء محدود يصل إلى محطة تحلية المياه في دير البلح وسط قطاع غزة، بالإضافة لإغلاق المعابر أمام دخول شاحنات المساعدات والبضائع بداية مارس/آذار الحالي، والسماح فقط بخروج عدد محدود جدا من المرضى والمرافقين لا يتجاوز يوميا الـ50 مسافرا، منهم المرضى والمرافقون عبر طريق معبر كرم أبو سالم وصولا إلى معبر رفح البري.

مع تشدد موقف الفريق المفاوض لحركة "حماس"، ولممارسة الضغط عليها، تعالت التهديدات الأميركية الداعمة للموقف الإسرائيلي، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ عدة خطوات عقابية، مثل قطع الكهرباء عن غزة

تتالت الخطوات والتهديدات الإسرائيلية، خاصة بعد الكثير من التقارير الإعلامية والأمنية التي تحدثت عن عودة بناء "كتائب القسام" التابعة لحركة "حماس" لقدراتها خلال فترة وقف إطلاق النار، وعودة رموز العمل الحكومي وكوادره التابع للحركة، لممارسة عملهم في فرض الأمن والرقابة داخل القطاع، وهو ما يعني استمرار "حماس" في الحكم، أي إنها كسرت واحدا من الأهداف الرئيسة للحكومة الإسرائيلية التي أعلنت عنها في أكتوبر/تشرين الأول 2023، مع بدء الحرب، وهو إسقاط حكم "حماس" وعدم السماح بعودتها للحكم.

في المقابل، وبالتوازي مع التصريحات وممارسات الحكومة الإسرائيلية، ركز الجيش الإسرائيلي وجهاز الشاباك خلال الهدنة العمل على جمع المعلومات الاستخبارية حول قادة "حماس" السياسيين والعسكريين ورموز العمل الحكومي، خاصة بعد تعيين رئيس جديد لهيئة أركان الجيش إيال زامير خلفا لهرتسي هاليفي الذي استقال نهاية فبراير/شباط الماضي، والذي قال في عدة تصريحات إنه يُعد الخطط للعمل على القضاء على "حماس" بغزة.

ركز الجيش الإسرائيلي وجهاز الشاباك العمل خلال الهدنة على جمع المعلومات الاستخبارية حول قادة "حماس" السياسيين والعسكريين ورموز العمل الحكومي 

يضاف إلى ذلك التقرير الذي نشرته منظمة "هيومان رايتس ووتش" في سبتمر/أيلول الماضي، حول استخدام إسرائيل أدوات رقمية، مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات المراقبة الدقيقة، لبناء بنك أهداف واسع، حيث وصلت إلى تحديد قرابة 37 ألف هدف من خلال استخدامها 4 تطبيقات رئيسة لجمع البيانات ومنها "لافيندر" و"غوسبل"، والتي اعتمدت على بيانات جُمعت عن طريق الهواتف النقالة وطائرات الدرونز، وكانت إحدى ركائز الضربة الجوية الواسعة التي تعرض لها قطاع غزة مؤخرا، بحسب الباحث والأكاديمي في السياسة والعلاقات الدولية إبراهيم ربايعة.

البقاء في الحكم بأي ثمن

مع كل المعطيات السابقة، والتي تشير إلى أن إسرائيل قررت العودة لعمليتها العسكرية والتي أطلقت عليها "العزة والسيف"، فإن هناك أسبابا سياسية إضافية. مع أواخر شهر مارس/آذار الحالي، يجب على حكومة نتنياهو أن تقدم الموازنة العامة للدولة في الكنيست للحصول على التصويت بأقلية 61 صوتا في القراءتين الثانية والثالثة لإقرار الموازنة وضمان عدم إسقاط الحكومة في حال فشل في تمريرها، وفي حال لم تحصل على التصويت والمصادقة، فذلك يعني إسقاط الحكومة الإسرائيلية وهو ما يحاول نتنياهو العمل على تجنبه لضمان بقائه في الحكم، لكن بسبب تشككه من ضعف الائتلاف الحكومي، كان لا بد له من العمل على إعادة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي استقال في يناير/كانون الثاني الماضي احتجاجا على التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار مع "حماس"، وقال في حينها إنه مستعد للعودة للحكومة في حال التراجع عن الاتفاق.

أ.ف.ب
دبابات ميركافا القتالية الرئيسية التابعة للجيش الإسرائيلي في موقع في جنوب إسرائيل تتحرك على طول السياج الحدودي مع شمال قطاع غزة في 18 مارس 2025

ومع عودة العمل العسكري، وبعد ساعات فقط، أعلن حزب "الليكود" وحزب "عوتسماه يهوديت" الذي يتزعمه بن غفير، التوصل إلى اتفاق يقضي بعودة حزبه للائتلاف الحكومي وعودته وزيرا للأمن القومي بعد رضوخ نتنياهو لشروطه، التي تضمنت مطالب الأول وقف المساعدات لغزة، واتخاذ خطوات لتنفيذ خطة الرئيس ترامب الخاصة بتهجير سكان غزة للخارج، والعودة إلى القتال.

عملت الحكومة الإسرائيلية خلال المراحل السابقة، على تطويع كافة الظروف لضمان استمرار بقائها في الحكم، حتى وصلت إلى اتفاق داخلي وتوافق مع الإدارة الأميركية على خطة العمل في قطاع غزة، دون الاعتبار لأكثر من مليوني فلسطيني غزي يعانون من القتل والترهيب والجوع والبرد والحرمان من أبسط مقومات الحياة الأساسية والغذائية والخدماتية، وتجلى ذلك بعد تراجع الإدارة الأميركية عن ترشيح مبعوثها الأميركي الخاص لشؤون الرهائن آدم بولر قبل أيام، وعدم إكمال مهمته التفاوضية مع "حماس" لإطلاق سراح المحتجزين، وتهديدات نتنياهو لـ"حماس" بالإفراج عن نصف المحتجزين لديها، والتفاوض حول تبادل الأسرى فقط، دون التطرق للانتقال لمراحل ثانية تقضي بانسحاب كامل للجيش الإسرائيلي وعودة "حماس" لفرض سيطرتها الحكومية بغزة.

font change