كتابة الحرب في اليمن: جهد ذاتي يتحدى المصاعب الاجتماعية

سرد آثارها لا وقائعها المباشرة

الروائية فكرية شحرة

كتابة الحرب في اليمن: جهد ذاتي يتحدى المصاعب الاجتماعية

اشتعلت حروب عديدة في اليمن، ولم يكن للروايات أو القصص حضور لافت في تصوير أحداثها أو ما تتسبب به من تداعيات، باستثناء تلك التي ظهرت لاحقا لتلك الأحداث، مثل قصص وروايات محمد عبد الولي وأحمد محفوظ عمر وزيد مطيع دماج وحسين سالم باصديق وعلي محمد زيد، في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وعلى قلتها، بدت هذه الأعمال غير معنية بتصوير تفاصيل الحروب أو سردها كإشكالية بذاتها، بل مضت في التعامل معها من زوايا أيديولوجية، منحازة إلى أحد أطراف الصراع.

يستغرب البعض غياب إنتاج أدبي يواكب الحروب اليمنية السابقة، باستثناء الشعر، وينطلقون في ذلك من مقولة شائعة في الثقافة العربية تشير إلى أن المعاناة تخلق الأبداع. قد تكون هذه المقولة صحيحة لأولئك الذين يراقبون الأحداث المهولة عن بعد أو حتى من قرب، ما دامت لا تمسهم شخصيا، أما الذين يعيشون هذه المعاناة بالفعل، فإنها لا تنطبق عليهم. فحال الأدباء والفنانين في اليمن يؤكد إن المعاناة مع الحرب، في المستوى الذي يعيشونه، لا تخلق الآداب والفنون، بل تخنقها، لأن المعاناة تخنق الحياة. فلا يمكن الكاتب أن يكتب بينما يحيط به القتل والانفجارات.

لا أتحدث هنا عن قدرة الفرد على تحمل المعاناة، التي تختلف بين كاتب وآخر أو فنان وآخر، بل عن معاناة قهرية لا فكاك منها. فمن واقع معايشتي هذه الأوضاع في الشهور الأولى من الانقلاب والحرب (2014 -2015) أو حتى المواجهات السابقة ضد نظام الرئيس السابق صالح في 2011، أدركت أنه لا يمكن مع هذه الأوضاع أن تكتب أو أن ترسم. فلا ماء ولا كهرباء، وليس لديك أي دخل مالي لتغطية احتياجاتك من غذاء وغيره بعد أن تعطلت كل الوظائف وانقطعت الموارد، أما إذا كنت مستأجرا فمصيرك سيكون السكن في الشارع.

تشدد وتهديدات

كيف يمكن أن تكتب وأنت تختبئ من القاذفات أو تسمع صراخ أسرة في الجوار على ابنها الذي أصابته مقذوفة مدفعية بينما يمشي في الشارع؟ لمن تكتب وأنت أمام فوهة موت ستبتلعك مهما قاومت، ستدمر أعصابك يوميا، سواء من الرعب المفاجئ الذي قد يأتي في أي لحظة، أو من متطلبات الحياة اليومية التي لن تستطيع إيجادها. وفي حال كهذا، تصبح القراءة هي الأخرى، عابرة وغير مستقرة وبلا تنظيم، فلا معارض للكتب منذ عشر سنوات أو أكثر، وليس من مجال لاستيراد كتب جديدة إلى اليمن، والقراءات الإلكترونية ليست سهلة بسبب صعوبات الإنترنت والكهرباء وعدم الحصول على المال اللازم لتوفير هذه الخدمات.

لمن تكتب وأنت أمام فوهة موت ستبتلعك مهما قاومت، ستدمر أعصابك يوميا، سواء من الرعب المفاجئ أو من متطلبات الحياة اليومية

ولقد صارت صفحات التواصل الاجتماعي وأبرزها "فيسبوك"، الذي يستخدمه اليمنيون أكثر من أي وسيلة أخرى، الفضاء الوحيد المتاح للتعبير، بعد أن أغلقت الصحف وتوقفت مناشط اتحاد الأدباء والكتاب ومؤسسات السينما والمسرح، على رغم تواضع إنتاجها، وكذلك توقفت فرق الموسيقى والرقص والمؤسسات الثقافية الأهلية التي إما أغلقت أو تعرضت للقصف.

في موازاة ذلك، انتشرت الثقافة الدينية المتشددة، سواء في صنعاء أو تعز أو عدن أو مأرب، وتلقى عدد كبير من الأدباء والمثقفين تهديدات بالقتل، كما تعرض بعضهم لمحاولات اغتيال، بسبب منشورات ناقدة لرجال دين أو ساسة في وسائل التواصل الاجتماعي.

هكذا، في ظل حرب مستمرة دمرت أكثر البنى الثقافية الأساسية، وأغلقت وجمدت نشاط معظم المؤسسات الثقافية، إلى جانب انتشار النزعات المتشددة المتكئة على المذهب والقبيلة والمنطقة، وانعدام مقومات الحياة الأساسية من أمن وغذاء وماء ومسكن، فإن أي إنتاج أدبي يأتي من اليمن اليوم يُعد جهدا ذاتيا جبارا، يقدم نفسه رغم كل الصعوبات التي ذُكرت هنا.

أحمد محفوظ عمر

إشكاليات الحرب

مع هذا، فبالرغم من أهوال الحروب وفجائعها، أنتج الأدباء في اليمن الكثير من الروايات والقصص والقصائد عن الحرب التي استمرت لأكثر من عشر سنوات. بل إن الإنتاج الأدبي، خاصة في مجال الرواية، قد يكون الأكثر غزارة، مقارنة بأي سنوات أو عقود سابقة. وسواء كان الأدباء يعيشون داخل اليمن أو خارجه، فإن ما أنتجوه خلال السنوات الماضية يدل على تفاعلهم الاجتماعي مع ما يحدث في بلدهم، لا سيما في تناولهم إشكالية الحرب، مسبباتها وأطرافها المتصارعة والمآسي التي خلفتها وما زالت تعاش في الواقع.

زيد مطيع دماج

فالأدباء والأديبات في الداخل، رغم انقطاع رواتبهم الشهرية وفقدانهم بعض احتياجات الحياة، وجدوا، ربما، في التكافل الاجتماعي بين العائلات والأصدقاء، ما يغطي بعض احتياجاتهم اليومية، إضافة إلى نشاط البعض في الكتابة الصحافية. لذلك، قرأنا خلال هذه السنوات أعمالا لافتة لوجدي الأهدل وسمير عبد الفتاح وريان الشيباني ونادية الكوكباني والغربي عمران وبدر أحمد ولطف الصراري وانتصار السري وعيدروس سالم الدياني وبسام شمس الدين وعيشة صالح.

سواء كان الأدباء يعيشون داخل اليمن أو خارجه، فإن ما أنتجوه خلال السنوات الماضية يدل على تفاعلهم الاجتماعي مع ما يحدث في بلدهم

كما أنتج الأدباء الذين يعيشون خارج اليمن، مثل أحمد زين وحبيب سروري ومروان الغفوري وهمدان دماج، ومن لحقهم في الهجرة مثل محمد عبد الوكيل جازم وفكرية شحرة ونجلاء العمري ولمياء الارياني وسامي الشاطبي، الكثير من الأعمال المضافة إلى منجزهم السابق.

وصارت معظم عناوين الكتب، الصادرة خلال هذه الفترة، تشير إلى هذه الحرب: "رماية ليلية" لأحمد زين" و"السماء تدخن السجائر" لوجدي الأهدل و"الرجاء عدم القصف" للطف الصراري و"لحرب واحدة" لانتصار السري و"تعالي إلى صدري ولو على هيئة رصاصة" لقيس عبد المغني. كما صدرت مجموعة قصصية بعنوان "صراع"، بإشراف وجدي الأهدل، ضمت إحدى عشرة قصة قصيرة لأحد عشر كاتبا وكاتبة، أظهرت تصوراتهم للحرب وتداعياتها على الفرد والمجتمع.

عبد الحكيم باقيس

كذلك، استعاد بعض الكتاب في رواياتهم حروبا سابقة مثل "عقرون 94" لعمار باطويل و"عقلان" لمحمد عبده الشجاع، وبعض روايات الغربي عمران ومنير طلال ونجيب نصر وعبدالله عباس الإرياني. بعضها تناول الحروب الأهلية المحلية، بينما تناولت روايات أخرى مقاومة اليمنيين للغزاة الخارجيين. وكانت رواية "وقش" للراحل وليد دماج من أكثر الروايات إثارة في تناول الصراع اليمني عبر استعادة التاريخ، حيث تناولت فرقة "المطرفية"، التي تعرضت في القرن الحادي عشر للكثير من التنكيل والتصفية على يد الإمام عبدالله بن حمزة، بسبب تفكيرها العقلاني واجتهاداتها الفلسفية.

أثارت هذه الظاهرة في الكتابة عن الحرب انتباه بعض النقاد اليمنيين، فكتب الدكتور عبد الحكيم باقيس دراسات عن بعض الروايات التي كان موضوعها الحرب الجارية. وأصدر الدكتور عبده منصور المحمودي كتابا بعنوان "رواية الحرب في اليمن"، ويكاد القارئ يستنتج من خلاله أن معظم الروايات التي أنتجت في اليمن هي روايات حرب أو صراع، تكون الحروب عادة خلفية لأحداثها وسلوك شخصياتها. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن أكثر هذه الروايات يبدو أنها تسرد آثار الحروب الاجتماعية أكثر مما تسرد المعارك أو حروب الجبهات المسلحة.

علي محمد زيد

يمكن القول إن معظم هذه النتاجات بقيت على مسافة من كل أطراف الصراع، مع انحيازها لقيم المواطنة المتساوية والحداثة، فيما تبنى القليل من كتاب هذه الروايات خطابا سياسيا هجائيا ضد حزب أو جماعة بعينها، مفضلين بذلك الموقف السياسي على الجوانب الفنية التي يتطلبها السرد.

 

font change

مقالات ذات صلة