عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة

التسوية لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي- أميركي

أ ف ب
أ ف ب
تُظهر هذه الصورة الجوية مشيعين يحملون جثمان رجل قُتل في غارات إسرائيلية قبل يوم، خلال تشييع جنازته في مدينة درعا جنوب سوريا في 18 مارس 2025

عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة

كنت قد أحجمت عن الكتابة عن سوريا منذ السادس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من دخول "هيئة تحرير الشام" إلى دمشق والإطاحة بحكم الأسد. في ذلك الوقت، بينتُ أنه من واجب الدول العربية أن لا تسمح بانهيار الدولة السورية والإمساك بزمام المبادرة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأوضحتُ كذلك أنه، على الرغم من أن القرار "اعتُمد في عام 2015، عندما كانت الظروف مختلفة اختلافا كليا، فإنه يبقى الإطار المتفق عليه دوليا للوصول إلى تسوية ما وأنه يحتاج إلى خطة عمل لتسهيل تطبيق بنوده الأساسية المتمثلة في الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة". كما بينتُ أيضا أن هذا الأمر من شأنه أن "يخلق الظروف المناسبة لوضع حد للتدخل الأجنبي في سوريا".

ومنذ ذلك الحين، وأنا أراقب الأحداث التي راحت تتكشف في كافة أنحاء سوريا. تابعتُ التطورات بمزيج من الأمل والقلق، بل وربما ببعض الأسى أحيانا. الأمل في مستقبل أفضل للشعب السوري الذي رزح طويلا تحت وطأة نظام متعنت عجز عن ممارسة المرونة والابتكار، وحشد الإرادة السياسية لتلبية تطلعات شعبه. كنت مفعما بالأمل لأن أخلاقيات العمل المُثلى، والمثابرة، وروح الإبداع، والفطنة الريادية التي يتمتع بها أبناء الشعب السوري، كفيلةٌ بجعله قادرا على رسم مستقبل أفضل لبلاده.

أما القلق فسببه تعقيد المعضلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، التي تتطلب قيادة استثنائية قادرة على اجتراح الحلول لإنجاز الانتقال السياسي وصولا إلى نظام حكم "ذي مصداقية وتعددي وغير طائفي" كما ينص القرار 2254.

غير أن الذكرى السنوية الرابعة عشر للانتفاضة السورية، مقترنة بالتطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، ساعدتني في التغلب على ترددي في مشاركة آرائي حول الوضع الراهن، وكلي أمل أن تساعد مساهمتي الشعب السوري على تحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والازدهار.

وعلى الرغم من أن هذه التطورات ما زالت تندرج ضمن إطار الأمل والقلق، فإنها عززت قناعتي بأنه لا ينبغي ترك سوريا لتبحر وحيدة في المياه الغادرة للانتقال السياسي. إذ يقع على عاتق المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، والدول العربية أولا، واجب، بل مسؤولية، مساعدة الشعب السوري على تجاوز صعوبات الانتقال السياسي.

لنسلط الضوء أولا على مؤتمر الحوار الوطني. كان بيانه الختامي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن العملية المتسرعة، فضلا عن قصر مدتها المؤسف، تركت الكثير من السوريين، وكذلك عددا غير قليل من المراقبين الدوليين، متشككين في مصداقيتها. والأمر الذي يلقي بظلاله هو إذا ما استُخدمت الأساليب نفسها التي اعتُمدت في تنظيم المؤتمر عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وصياغة الدستور، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية، وغيرها من القضايا الحساسة، فلا شك أن هذا سوف يترك المزيد من السوريين في حالة من اليأس بشأن مستقبلهم.

تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال

ثانيا، الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار، ففي حين نجد أنه ينص على كل الأمور الصحيحة بشأن الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك... غير أنه يمنح الرئيس سلطة غير محدودة على كل من السلطتين التشريعية والقضائية للحكومة.

جدير بالذكر أن ما نقدمه هنا هو مجرد ملاحظات أولية. لا ينطوي الإعلان الدستوري على أي إشارة إلى الديمقراطية، ولو كهدف طموح، في حين أن جميع الدساتير الحديثة- بما فيها دساتير الدول العربية- تشير إلى الحكم الديمقراطي كركيزة من ركائز النظام السياسي.

إن غياب ذكر الديمقراطية يثير جملة من التساؤلات. ففي الوقت الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، فإنه يعين أيضا اللجنة التي تختار ثلثي الأعضاء الباقين، ما يعني عمليا أنه يستطيع ممارسة سيطرة كاملة على المجلس.

رويترز
جنود سوريون يجلسون فوق دبابة أثناء توجههم نحو الحدود السورية اللبنانية بعد اشتباكات مع جنود لبنانيين وجماعات مسلحة، في القصير، سوريا، 17 مارس 2025

كما أن تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال، باستثناء كونها لا تستند إلى أساس ديني أو عرقي. كذلك يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا. وتُمنح كل هذه الصلاحيات للرئيس دون أي ضوابط أو توازنات. وأخيرا، في حين أن الفترات الانتقالية القصيرة أفضت إلى نتائج عكسية حيث أنتجت دساتير وبرلمانات معيبة تفتقر إلى تمثيل حقيقي وموثوق للسكان، فإن فترة انتقالية مدتها خمس سنوات هي فترة طويلة للغاية. ونظرا لجوهر الإعلان، فهذه الفترة تطرح السؤال المشروع حول ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة لتوفير الوقت والمساحة اللازمة للسلطات الحالية كي تثبت أركان حكمها وتنتج نظام حكم يعتمد مبدأ "رجل واحد– صوت واحد" يقوم على صوت واحد لكل رجل وامرأة طيلة الوقت، ما يمنع أي نقل حقيقي للسلطة بعيدا عن السلطات الحالية.

لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور "قوات سوريا الديمقراطية" في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل

ثانيا، أثارت الأحداث المأساوية في كل من حمص واللاذقية وطرطوس، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، مخاوف جمة. وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء اندلاع العنف، فقد لقي مئات المدنيين الأبرياء حتفهم على يد الميليشيات المرتبطة بالسلطات في دمشق. ويُحسب للرئيس الشرع سرعة استجابته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ولجنة للسلم الأهلي. نأمل أن لا يقتصر عمل اللجنتين على الوقوف عند الأحداث بحد ذاتها، بل أن تتناولا أيضا السياق الذي وقعت فيه والعوامل الكامنة وراء العنف الذي اشتعل. ومن أبرز هذه العوامل التسريح الجماعي للعسكريين والمدنيين دون أي تعويض مادي.

ثالثا، الاتفاق بين "قوات سوريا الديمقراطية" والسلطات في دمشق، بوساطة حيوية من الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يبدو. إنه تطور بالغ الأهمية، ونأمل أن يفتح الباب لحل المشكلة الكردية المُتفاقمة منذ أمد بعيد في سوريا. بيد أن الاتفاق لا يضع سوى مبادئ ومعايير عامة للتسوية، فهو يترك الباب مفتوحا أمام مفاوضات مطولة لتسوية القضايا الأكثر حساسية وأهمية. على سبيل المثال، لا يُحدد الاتفاق كيفية دمج الهياكل العسكرية والإدارية في الشمال الشرقي مع تلك الموجودة في دمشق. والأكثر أهمية، ما زال الغموض يكتنف مسألة دمج قوات الأمن التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية مع الأفراد العسكريين الوطنيين، وكذلك كيفية توحيد الهياكل الإدارية وتحديد نموذج الحكم الذي سوف يُعتمد.

بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل. فلا عجب أن يأتي رد فعل "قوات سوريا الديمقراطية" على الإعلان الدستوري سلبيا. وباختصار، فإن تحويل الاتفاق إلى أي شيء ملموس يتطلب الكثير من حسن النوايا والعمل الجاد.

رابعا، في حين يعد الاتفاق بين السلطات في دمشق والطائفة الدرزية تطورا جديرا بالترحيب، فإن استمرار إسرائيل في التعدي على السيادة السورية إلى جانب إعطاء نفسها الحق في حماية الطائفة الدرزية في سوريا، لا يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تكتيك يهدف إلى تقويض الانتقال السياسي الشامل في سوريا.

ينبغي للشعب السوري بتراثه العريق وحكمته المتراكمة أن يكون قادرا على التوصل إلى تسوية تلبي تطلعات مجتمع متعدد الأديان والثقافات والأعراق

أخيرا، يعتبر عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشاورات غير رسمية بشأن سوريا بناء على طلب مشترك من روسيا والولايات المتحدة أمرا إيجابيا. فهي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا النوع من المشاورات منذ زمن طويل. فمنذ ذروة التعاون الروسي الأميركي الذي أثمر عن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الذي ما يزال الإطار المتفق عليه دوليا للتسوية في سوريا)، لم تُعقد أي مشاورات غير رسمية بناء على طلب مشترك من موسكو وواشنطن.

ولطالما أكدتُ أن التسوية في سوريا لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي أميركي، أو على الأقل بتفاهم بين الجانبين. كان هذا صحيحا قبل الثامن من ديسمبر، ولا يزال صحيحا الآن. وسيُجبر هذا الاتفاق الجهات الفاعلة الإقليمية على تعديل سياساتها وتبني مواقف بناءة أكثر بشأن التسوية. وهذا بدوره سيساعد على خلق دينامية داخلية تُفضي إلى تسوية.

يبدو اليوم أن هناك تقاربا وليدا بين موسكو وواشنطن. بعد اجتماع جدة في المملكة العربية السعودية، زادت احتمالية التوصل إلى تسوية في أوكرانيا بشكل ملحوظ. وإذا نجح هذا الأمر، فستتخذ العلاقات الروسية الأميركية مسارا تصاعديا، مع آثار إيجابية في سائر أنحاء العالم، ومن بينها سوريا.

لقد عززت التطورات المذكورة أعلاه قناعتي بأنه إذا تُرك السوريون دون دعم دولي كاف، فلن يتمكنوا من التوصل بمفردهم إلى اتفاق حول مستقبل البلاد يلبي تطلعات السكان ذوي التعدد الديني والعرقي والثقافي.

أ ف ب
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (وسط) على هامش مؤتمر بروكسل التاسع "الوقوف مع سوريا: تلبية احتياجات انتقال ناجح"، في مبنى أوروبا في بروكسل في 17 مارس 2025

وعلى الرغم من أن السلطات الحالية في دمشق لديها تحفظات واضحة على القرار 2254 وبالتالي على الدور السياسي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة، فهي لم توصد الباب في وجه التعاون مع الأمم المتحدة.

ونظرا لأن السلطات في دمشق تفتقر إلى الخبرة اللازمة، فضلا عن الموارد البشرية المؤهلة الكافية داخل سوريا للاضطلاع بهذه المهام الجسيمة، فينبغي لها أن ترحب بالمساعدة الدولية، التي تقودها الدول العربية والأمم المتحدة، لتوفير الدعامات والأسس اللازمة لحماية عملية الانتقال نحو نظام حكم موثوق وتعددي وغير طائفي. وهو ما ينطبق بشكل خاص على مجالات إعادة الإعمار وما يتصل بها من رفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين، والتحضير للانتخابات، كما ينطبق في الوقت نفسه على مسألة العدالة الانتقالية بالغة الأهمية. فالأمم المتحدة لها باعٌ طويل وخبرة واسعة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في الواقع السوري.

font change

مقالات ذات صلة