باريس- لم يكن التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" كافيا للاعتقاد أنّه سيؤدي إلى انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لأنّ الحرب نفسها أصبحت جزءا من ديناميكية سياسية واجتماعية وحتى إيديولوجية داخل إسرائيل، ولذلك لم يكن مفاجئا أن تستأنف إسرائيل حربها على القطاع وبوحشية استثنائية خلّفت حتى الآن مئات القتلى والجرحى غالبيتهم من النساء والأطفال.
قد لا تكون هذه المقدمة الخبرية مناسبة لتقديم مقابلة صحافية، لكن لمجرد أن تكون المقابلة مع آلان غريش الصحافي الفرنسي الذي ارتبط اسمه بفلسطين منذ عقود، فإن ذلك يتيح الخروج عن التقليد، والدمج بين الحدث والشخص وكأنهما مرتبطان على مدار الساعة بحيث يصبح الحديث عن فلسطين والفلسطينيين مع آلان غريش نوعا من العمل السياسي اليومي والمتواصل مع خلفية تاريخية وفكرية تحيط بالموضوع وتوسع آفاقه ومقارباته.
هو الذي أطل على "القضية" من مصر، وثم من باريس التي غادر إليها شابا يافعا، يقرأ المحطات والتحولات المتصلة بها سواء في المنطقة أو أوروبا، وبالتحديد فرنسا، ما يتيح ليس فهم الحاضر وحسب بل واستشراف المستقبل أو بعض ملامحه، ما دام شديد الحذر في توقّع ما يمكن أن يحدث، ويفضّل عوض ذلك فهم ما يحدث، وهذه رياضة صعبة في ظلّ تعقيدات المشهد. ثمة سؤال هنا قد تعيد الإجابة عليه قراءة أحداث قرن كامل: هل أخطأ اليهود المعادين للصهيونية، تحديدا في فرنسا، في عدم تعريف أنفسهم كيهود؟
وفي الآتي نص الحوار:
* بناء على خبرتك الطويلة في السياسة والإعلام، ما هي بنظرك المحطات الأهم في الصراع العربي- الإسرائيلي، والفلسطيني- الإسرائيلي التي شهدت تحولات جوهرية، أدت بشكل أو بآخر إلى ما وصلنا إليه؟
- بالطبع، يعتمد ذلك على المرحلة التي نبدأ منها، لكن يمكن القول إنه بشكل عام بعد قيام إسرائيل وهزيمة الدول العربية في عام 1948، دخل الصراع في مرحلة امتدت حتى عام 1967، حيث كان في جوهره صراعا بين إسرائيل والدول العربية. بالطبع، كان للبعد الفلسطيني حضوره، لكن الحروبكانت تحصل بين الدول: مصر وإسرائيل، سوريا وإسرائيل، وكانت القضية الفلسطينية تُستخدم من قِبل الدول العربية بدرجات متفاوتة، لكنها لم تكن مركزية. بعد عام 1967، أصبحت القضية الفلسطينية مركزية، نتيجة ظرف سياسي لافت، حيث أدى انهيار مصر، وتراجع المد القومي العربي، وسقوط فكرة أن تحرير فلسطين سيكون ثمرة للوحدة العربية، إلى أزمة حقيقية للأنظمة العربية.
هذا الوضع دفع النظام المصري إلى تبني نظرة أكثر إيجابية تجاه الفدائيين الفلسطينيين، مما أتاح لهم فرصة قصيرة في التاريخ– امتدت لعامين فقط– تمكنوا خلالها من تنظيم أنفسهم بشكل مستقل في الأردن، قبل أن يتم ضربهم لاحقا خلال أحداث "أيلول الأسود". رغم ذلك، بدأت القضية الفلسطينية تأخذ تدريجيا موقعا مركزيا في الصراع. ورغم استمرار المواجهات العربية- الإسرائيلية، كما في حرب 1973، إلا أن طبيعة الصراع بدأت تتغير تدريجيا، ليصبح في المقام الأول صراعا فلسطينيا- إسرائيليا، خصوصا بعد اتفاقيات كامب ديفيد مع انسحاب مصر من المواجهة، وبالتالي تلاشت إمكانية وقوع حرب عربية- إسرائيلية شاملة، إذ لم يعد هناك توازن قوى ممكن من دون مصر.
ثم بين 1967 واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، تكرست قضية فلسطين كقضية مركزية، حيث تمكن الفلسطينيون، رغم الضغوط والصعوبات، من بناء تنظيم مستقل عن الأنظمة العربية، وإن ظلوا خاضعين لتأثيرات إقليمية، مثل علاقة "الصاعقة" بسوريا، أو "جبهة التحرير العربية" بالعراق. لكن مع ذلك توصلوا إلى بناء موقف مستقل، خصوصا مع بدء وجودهم في لبنان وأصبحوا قادرين على فرض أنفسهم، وإن كان ذلك في البداية عبر عمليات اعتبرت إرهابية مثل اختطاف الطائرات في السبعينات، لكن التحول التدريجي للمسألة الفلسطينية لأن تكون القضية المركزية في المنطقة كان يدفع "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى أن تلعب الورقة الدبلوماسية، رغم الخلافات داخلها.
ومع مرور الوقت، بدأ الفلسطينيون يطالبون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء يتم تحريره من الأرض، وهو ما شكل خطوة نحو قبول فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.