آلان غريش لـ"المجلة": إسرائيل مصابة بـ"دوار النجاح"... و"حماس" أساءت تقدير موقف إيران

غالبية المجتمع الإسرائيلي تدعم سياسات التهجير والإبادة الجماعية... وهكذا تحولت فرنسا عن دعم القضية الفلسطينية

آلان غريش

آلان غريش لـ"المجلة": إسرائيل مصابة بـ"دوار النجاح"... و"حماس" أساءت تقدير موقف إيران

باريس- لم يكن التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" كافيا للاعتقاد أنّه سيؤدي إلى انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لأنّ الحرب نفسها أصبحت جزءا من ديناميكية سياسية واجتماعية وحتى إيديولوجية داخل إسرائيل، ولذلك لم يكن مفاجئا أن تستأنف إسرائيل حربها على القطاع وبوحشية استثنائية خلّفت حتى الآن مئات القتلى والجرحى غالبيتهم من النساء والأطفال.

قد لا تكون هذه المقدمة الخبرية مناسبة لتقديم مقابلة صحافية، لكن لمجرد أن تكون المقابلة مع آلان غريش الصحافي الفرنسي الذي ارتبط اسمه بفلسطين منذ عقود، فإن ذلك يتيح الخروج عن التقليد، والدمج بين الحدث والشخص وكأنهما مرتبطان على مدار الساعة بحيث يصبح الحديث عن فلسطين والفلسطينيين مع آلان غريش نوعا من العمل السياسي اليومي والمتواصل مع خلفية تاريخية وفكرية تحيط بالموضوع وتوسع آفاقه ومقارباته.

هو الذي أطل على "القضية" من مصر، وثم من باريس التي غادر إليها شابا يافعا، يقرأ المحطات والتحولات المتصلة بها سواء في المنطقة أو أوروبا، وبالتحديد فرنسا، ما يتيح ليس فهم الحاضر وحسب بل واستشراف المستقبل أو بعض ملامحه، ما دام شديد الحذر في توقّع ما يمكن أن يحدث، ويفضّل عوض ذلك فهم ما يحدث، وهذه رياضة صعبة في ظلّ تعقيدات المشهد. ثمة سؤال هنا قد تعيد الإجابة عليه قراءة أحداث قرن كامل: هل أخطأ اليهود المعادين للصهيونية، تحديدا في فرنسا، في عدم تعريف أنفسهم كيهود؟

وفي الآتي نص الحوار:

* بناء على خبرتك الطويلة في السياسة والإعلام، ما هي بنظرك المحطات الأهم في الصراع العربي- الإسرائيلي، والفلسطيني- الإسرائيلي التي شهدت تحولات جوهرية، أدت بشكل أو بآخر إلى ما وصلنا إليه؟

- بالطبع، يعتمد ذلك على المرحلة التي نبدأ منها، لكن يمكن القول إنه بشكل عام بعد قيام إسرائيل وهزيمة الدول العربية في عام 1948، دخل الصراع في مرحلة امتدت حتى عام 1967، حيث كان في جوهره صراعا بين إسرائيل والدول العربية. بالطبع، كان للبعد الفلسطيني حضوره، لكن الحروبكانت تحصل بين الدول: مصر وإسرائيل، سوريا وإسرائيل، وكانت القضية الفلسطينية تُستخدم من قِبل الدول العربية بدرجات متفاوتة، لكنها لم تكن مركزية. بعد عام 1967، أصبحت القضية الفلسطينية مركزية، نتيجة ظرف سياسي لافت، حيث أدى انهيار مصر، وتراجع المد القومي العربي، وسقوط فكرة أن تحرير فلسطين سيكون ثمرة للوحدة العربية، إلى أزمة حقيقية للأنظمة العربية.

هذا الوضع دفع النظام المصري إلى تبني نظرة أكثر إيجابية تجاه الفدائيين الفلسطينيين، مما أتاح لهم فرصة قصيرة في التاريخ– امتدت لعامين فقط– تمكنوا خلالها من تنظيم أنفسهم بشكل مستقل في الأردن، قبل أن يتم ضربهم لاحقا خلال أحداث "أيلول الأسود". رغم ذلك، بدأت القضية الفلسطينية تأخذ تدريجيا موقعا مركزيا في الصراع. ورغم استمرار المواجهات العربية- الإسرائيلية، كما في حرب 1973، إلا أن طبيعة الصراع بدأت تتغير تدريجيا، ليصبح في المقام الأول صراعا فلسطينيا- إسرائيليا، خصوصا بعد اتفاقيات كامب ديفيد مع انسحاب مصر من المواجهة، وبالتالي تلاشت إمكانية وقوع حرب عربية- إسرائيلية شاملة، إذ لم يعد هناك توازن قوى ممكن من دون مصر.

ثم بين 1967 واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، تكرست قضية فلسطين كقضية مركزية، حيث تمكن الفلسطينيون، رغم الضغوط والصعوبات، من بناء تنظيم مستقل عن الأنظمة العربية، وإن ظلوا خاضعين لتأثيرات إقليمية، مثل علاقة "الصاعقة" بسوريا، أو "جبهة التحرير العربية" بالعراق. لكن مع ذلك توصلوا إلى بناء موقف مستقل، خصوصا مع بدء وجودهم في لبنان وأصبحوا قادرين على فرض أنفسهم، وإن كان ذلك في البداية عبر عمليات اعتبرت إرهابية مثل اختطاف الطائرات في السبعينات، لكن التحول التدريجي للمسألة الفلسطينية لأن تكون القضية المركزية في المنطقة كان يدفع "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى أن تلعب الورقة الدبلوماسية، رغم الخلافات داخلها.

ومع مرور الوقت، بدأ الفلسطينيون يطالبون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء يتم تحريره من الأرض، وهو ما شكل خطوة نحو قبول فكرة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

اتفاق أوسلو كان ينطوي على اختلالأساسي. لقد تمثلت رمزية الاتفاق في اعتراف إسرائيل بـ"منظمة التحرير"، مقابل اعتراف الأخيرة بإسرائيل، لكن إسرائيل لم تعترف بحق الفلسطينيين في دولة

وبالرغم من التحديات، امتلك الفلسطينيون عناصر قوة عدة. أولا، حصلوا على دعم دولي واسع منذ السبعينات، حيث تبناهم المعسكر الاشتراكي، وساندتهم دول العالم الثالث، وحققوا اختراقات دبلوماسية في أوروبا، خصوصا في فرنسا. تدريجيا، أصبحت "منظمة التحرير" الممثل الوحيد للفلسطينيين، وهو أمر لم يكن محسوما في البداية. وقد تحقق ذلك بفضل حضورها العسكري كحركة فدائية، ثم من خلال توسع نفوذها في الضفة وغزة، إلى جانب انضمام النخب الفلسطينية إليها، مما سمح لها بتشكيل جبهة موحدة للتحدث باسم الفلسطينيين. ومع الوقت، أصبح واضحا أنه لا يمكن الوصول إلى حل دون إشراك "المنظمة"، وهو ما تجلى بوضوح مع اندلاع الانتفاضة الأولى، التي فتحت آفاقا جديدة، في ظل المتغيرات الدولية مع انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، وتسوية الكثير من الصراعات الدولية الكبرى مثل أنغولا وأفريقيا الوسطى، ما عزز إمكانية إيجاد حل للمسألة الفلسطينية.

* لكن كل هذا الحراك الفلسطيني لم يؤد في النهاية إلى حل، ألا يعتبر هذا سببا رئيسا في الوصول إلى الوضع الراهن؟

- أحد الأمور التي لا يفهمها الغرب، هي أن استخدام العنف أو الإرهاب بمعنى الاعتداء على المدنيين، رهن الظروف التاريخية، فكما سبق أن أشرت فإن حركة "فتح" أنشأت في عام 1970، منظمة "أيلول الأسود"، التي استخدمت أساليب مثل اختطاف الطائرات وشن هجمات ضد المدنيين. لكن ما الذي دفعها في مرحلة ما إلى التخلي عن هذه الاستراتيجية؟ السبب الرئيس هو أن الأوروبيين والسوفيات بدأوا تدريجيا في قبولهم كمحاورين سياسيين، ما فتح أمام الفلسطينيين آفاقا دبلوماسية وسياسية، وهو ما استغلوه في تحركاتهم اللاحقة. لكن هل لعبوا هذه الورقة بشكل جيد أم لا؟ هذا أمر متروك لهم لتقييمه.

أ ف ب
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين أثناء توقيع "اتفاق أوسلو" في سبتمبر 1993 في البيت الابيض

ثم مع بداية التسعينات، وبالتحديد مع انعقاد مؤتمر مدريد، ثم المفاوضات بين إسرائيل من جهة والفلسطينيين والأردن من جهة ثانية، ظهرت فرصة انتهزها ياسر عرفات للوصول إلى اتفاق أوسلو. لكن، في رأيي، اتفاق أوسلو كان ينطوي على اختلالأساسي، لأنه لم يكن اتفاقا بين طرفين متكافئين. لقد تمثلت رمزية الاتفاق في اعتراف إسرائيل بـ"منظمة التحرير"، مقابل اعتراف الأخيرة بإسرائيل، لكن إسرائيل لم تعترف بحق الفلسطينيين في دولة. رغم ذلك، خاض عرفات هذا الرهان، وإن كان مدركا للمخاطر، إلا أن المجتمع الدولي في النهاية خذله، إذ كانت الضغوط الغربية خلال مسار المفاوضات حتى الانتفاضة الثانية، تُمارس عليه لتقديم تنازلات، لأن القوى الغربية لم تكن مستعدة للضغط على إسرائيل لأنها تعلم أن الضغط على الطرف الأقوى سيكون أصعب بكثير، وبالتالي مارست الضغط على الطرف الأضعف، مما أدى تدريجيا إلى تقويض شرعية السلطة الفلسطينية نفسها. وبالتالي عندما اندلعت الانتفاضة الثانية، كان الشارع الفلسطيني قد وصل إلى حالة من الإحباط، حيث تم بناء مئات الآلاف من الوحدات الاستيطانية، ولم يطرأ أي تحسن على حياة الفلسطينيين، وهذا الوضع دفعهم إلى القيام بالانتفاضة الثانية. وفيما بعد، إذا أردنا فهم سبب فوز حركة "حماس" في انتخابات 2006، فلا داعي لتعقيد الأمور بتحليلات أيديولوجية أو دينية، فببساطة لقد فاز الطرف الذي قدم نفسه كبديل.

ومن الجدير بالذكر أن "حماس"، في تلك المرحلة، لم تكن تتبنى خطابا متشددا، بل أبدت استعدادا لمناقشة حل الدولتين والتوصل إلى تسوية. بالطبع، الحركة نفسها كانت منقسمة داخليا، لكن في النهاية فازت في الانتخابات. أما الآن عند الحديث عن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن ما يثير استغرابي في ردود الفعل الغربية عليه، هو أنهم لم يحاولوا الاستماع لما قاله قادة "حماس" حول أسباب الهجوم. لا يعني ذلك بالضرورة الاتفاق معهم، لكن إسماعيل هنية وآخرين فندوا الدوافع الرئيسة للعملية وقالوا بوضوح إن القضية الفلسطينية في طور الأفول. وهذا ليس بعيدا عن الواقع، فحتى بنيامين نتنياهو، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، عرض خريطة مستقبلية للمنطقة لم تكن فلسطين موجودة فيها. الأوروبيون أنفسهم بدأوا ينسون فلسطين، الآن الجميع يتحدث عن حل الدولتين لكن حتى فرنسا لم تعد تكرر دعمها لحل الدولتين كما في السابق.

إيران تبنت استراتيجية تتمثل في إعادة بناء علاقاتها مع دول الخليج العربي، وإذا أمكن، التفاوض مع الولايات المتحدة. لم تعد استراتيجيتها كما كانت في العقد الأول من الألفية

إذن، القضية الفلسطينية كانت في طريقها إلى التلاشي من المشهد الدولي، وبالنسبة لـ"حماس"، كان الهدف من هجوم 7 أكتوبر هو إعادة وضع فلسطين في صلب الاهتمام وكسر ديناميكية التطبيع في المنطقة. كان ذلك، من وجهة نظرهم، تقديرا عقلانيا. بالطبع، لاحقا ارتكبت جرائم خلال العملية، لكن من منظورهم، كان التحرك مدروسا في إطار منع اندثار القضية الفلسطينية. بالطبع، يمكن توجيه الكثير من الانتقادات لـ"حماس"، وشخصيا لست من المعجبين بها، ولكن لا يمكن إنكار أن الغرب، وبدرجة أكبر إسرائيل، ساهموا في تعزيز قوتها. الإسرائيليون أنفسهم، وتحديدا نتنياهو، سمحوا بتمويل "حماس"، وهذا أمر موثق.

رويترز
فلسطينيون يشقون طريقهم للفرار من منازلهم، بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء لعدد من الأحياء، في أعقاب غارات إسرائيلية عنيفة، في شمال قطاع غزة، 18 مارس 2025

* لكن هل كانت نتائج الحرب وأكلافها متناسبة مع أهداف "حماس" تلك؟ لقد نقل عن القيادي في "حماس" موسى أبو مرزوق قوله إنه لم يكن ليقبل بهجوم 7 أكتوبر لو علم بعواقبه، طبعا "حماس" قالت إن تصريحاته مجتزأة لكن لم تنفها بالمطلق، ما رأيك؟

- نعم، لقد تابعت هذه التصريحات، وهي ذكرتني بالتصريحات التي أدلى بها حسن نصرالله بعد حرب 2006. أنا أحاول هنا تجنب القول إن "حماس" كان عليها أن تفعل هذا أو ذاك. هذا ليس دوري. يمكنني تحليل سبب اتخاذهم لهذا القرار. هل ارتكبوا خطأ؟ هذا أمر يعود لهم لتحليله. لكن في الوقت نفسه، المشكلة تكمن في أنه لا يمكن وضع الناس في حالة يأس مطلق ثم الاستغراب من رد فعلهم والقول إنهم أشرار. هناك قول جميل لسارتر حول هذا الموضوع: إن العبيد الذين تدوسون رؤوسهم بأقدامكم، هل تعتقدون أنهم سينظرون إليكم بمحبة عندما ترفعون أقدامكم عنهم؟ بالطبع، يمكن توجيه اللوم إلى قيادة "حماس" لعدم قيامها بالتحليلات اللازمة، وما إلى ذلك. لكن هذا ليس دوري.

* ألا تعتقد أن "حماس" أساءت تقدير الظروف الإقليمية والدولية عند شنها العملية؟

- هم ليسوا الوحيدين الذين وقعوا في الأوهام. لم يكن أحد يتوقع انهيار "حزب الله" بهذه الطريقة. فقد قال معلق إسرائيلي عن الحرب بعد 7 أكتوبر: "نخوض حربين، حرب غزة التي لم نكن مستعدين لها على الإطلاق، وحرب لبنان التي نستعد لها منذ 20 عاما". لكن "حزب الله" لم يرَ ذلك قادما، وقد تم اختراقه بشكل استثنائي. وأعتقد أن جزءا من السبب يعود إلى تدخله في سوريا، إذ نعلم جميعا مدى غموض الأجهزة الأمنية السورية، وهذا ما جعله مخترقا تماما. ولا أعرف أي محلل جدي قال إن الحزب سينهار، كنا نعتقد أن لدى "حزب الله" قدرة على المقاومة. وهنا أود الإشارة إلى أن ارتباط "حماس" بإيران ليس نفسه ارتباط "حزب الله" بها، لكن ما لم يأخذوه في الاعتبار هو أن إيران تبنت استراتيجية تتمثل في إعادة بناء علاقاتها مع دول الخليج العربي، وإذا أمكن، التفاوض مع الولايات المتحدة. لم تعد استراتيجيتها كما كانت في العقد الأول من الألفية، عندما كانت تسعى إلى السيطرة على اليمن وجنوب لبنان ودعم "حماس".

لطالما اعتقدت أن أي تغيير لا بد أن يمر من داخل المجتمع الإسرائيلي. وكنت أقول دائما إن الفلسطينيين لم يدركوا ذلك جيدا، أي إن بإمكانهم لعب ورقة المجتمع الإسرائيلي، ومخاطبته

أعتقد أن هذا خطأ تحليلي كبير، أي إن "حماس"، وكذلك قوى محور المقاومة الأخرى، لم تقدر أن إيران باتت سلطة ضعيفة للغاية. إنها سلطة واجهت احتجاجات شعبية عميقة، ومرفوضة من شريحة كبيرة من المجتمع. لا يمكن لأي سلطة خوض مقاومة، خصوصا ضد أميركا والإمبريالية، في الوقت الذي لا تستطيع فيه الصمود داخليا إلا من خلال القمع. وأعتقد أن هذا ما لم يأخذوه في الاعتبار. لكن في الوقت نفسه، العلاقة بين "حماس" وإيران كانت معقدة، لم تكن دائما بسيطة. لكن من المؤكد أنه كان هناك سوء تقدير من قبل "حماس".

أما بالنسبة لـ"حزب الله"، فلا أعرف بالضبط كيف جرت الأمور بينه وبين إيران، لكن من الواضح أن إيران تخلت عنه. لقد كانت استراتيجية إيران مبنية على أن "حزب الله" هو ورقة رابحة يجب المحافظة عليها ولهذا تجنبوا التصعيد أكثر، لكنهم لم يأخذوا في الاعتبار أن هذا قد ينقلب ضدهم.

أ ف ب
فلسطينيون في محيط مسجد مدمر في مدينة غزة في التاسع من اكتوبر 2023

* بالانتقال إلى إسرائيل، كيف ترى المعارضة الإسرائيلية اليوم، هل هي معارضة لنتنياهو في إطار الصراع على السلطة أم هي معارضة لسياسات حكومته خصوصا في ظل الحرب؟

- إذا وضعنا جانبا فلسطينيي الـ48، فإن غالبية المجتمع الإسرائيلي تؤيد السياسات القائمة، حتى لو لم تكن بالضرورة مؤيدة لنتنياهو، لكنها تدعم سياسات التهجير والإبادة الجماعية. هذا لا يعني عدم وجود قوى يهودية معارضة داخل إسرائيل تتمتع بشجاعة استثنائية. هناك أيضا الذين "يصوتون بأقدامهم"، أي الذين يغادرون البلاد، وهذه ظاهرة واقعية. لكن التيار السائد اليوم هو التيار الصهيوني الديني الأكثر تطرفا، والأكثر جنونا، والأكثر اتساقا مع الأيديولوجيات الخلاصية.

ولطالما اعتقدت أن أي تغيير لا بد أن يمر من داخل المجتمع الإسرائيلي. وكنت أقول دائما إن الفلسطينيين لم يدركوا ذلك جيدا، أي إن بإمكانهم لعب ورقة المجتمع الإسرائيلي، ومخاطبته، وذلك لسبب بسيط أن الحركة الصهيونية انتصرت، بمعنى أنها نجحت في إنشاء إسرائيل كدولة قوية ذات تحالفات دولية. لكنها فشلت أيضا، لأنها لم تستطع طرد عدد كافٍ من الفلسطينيين، ما أدى إلى وجود عدد متساوٍ تقريبا من اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين على أراضي فلسطين التاريخية، وبالتالي فإن أي حل يجب أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار. أي إنه لا يمكن تصور أن الفلسطينيين سيطردون الإسرائيليين، إلا إذا كنا نتحدث عن ألف عام قادمة، وهو أمر لا يهمني. وحتى العكس يبدو لي صعبا، رغم أن النزعات الإبادية باتت واضحة. وللحديث عن الضغط على المجتمع الإسرائيلي سأجري مقارنة بما حدث في تجربة فرنسا مع الجزائر. فرنسا انتصرت عسكريا في الجزائر خلال الخمسينات والستينات، لكن كلفة الحرب كانت باهظة، إذ تطلب الأمر نصف مليون جندي فرنسي للسيطرة على الوضع، وهو ما لم يكن المجتمع الفرنسي مستعدا للقبول به. المشكلة في إسرائيل، منذ ما قبل 7 أكتوبر، والتي تفاقمت بعده، هي أن الإسرائيليين يعيشون واقع الاحتلال، لكنهم نادرا ما يحتكون بالفلسطينيين، إن رأوهم أصلا، ويستمتعون بكل امتيازات البلدان الغربية، لديهم علاقات مع العالم ويُقدمون كدولة ديمقراطية. لهذا، لا أعتقد أن الأمور ستتغير ما لم تُفرض عقوبات على المجتمع الإسرائيلي، وليس فقط على الحكومة، فإذا أصبح من الصعب على مثقف أو مخرج سينمائي إسرائيلي السفر إلى أوروبا أو تعرض للمقاطعة، فقد يكون لهذا تأثير على المجتمع الإسرائيلي.

عندما يفكر الناس في غزة، فإنهم يفكرون في مخيمات اللاجئين والفقر، ولكن ينسون أن غزة هي ميناء على البحر الأبيض المتوسط ولها تاريخ مهم للغاية

لكنّ هذا عمل طويل الأمد، لأن إحدى المشاكل التي أفرزها هجوم 7 أكتوبر هو خلق صدمة نفسية عميقة لدى الإسرائيليين. وهذه الصدمة تحمل نوعا من التناقض، إذ إنها بمثابة إفاقة الإسرائيليين من حلم كانوا يعيشون فيه، إذ كانوا يعتقدون أنهم يعيشون بسلام وأمان، وأحد نجاحات "حماس" أنها أثبتت أن ذلك غير ممكن، أي إنه لا يمكن الجمع بين الاحتلال والطمأنينة. ولكن في الوقت نفسه، أدت هذه الصدمة حتى الآن إلى تعزيز التيارات اليمينية المتطرفة داخل المجتمع الإسرائيلي. أما بخصوص نتنياهو، فلا أراه ذا أهمية كبيرة. طبعا، من الجيد أن نرى الإسرائيليين يتظاهرون دفاعا عن المحكمة العليا، ولكن يجب التذكير بأن هذه المحكمة تدافع عن اليهود، لا عن الفلسطينيين. هم يدافعون عن "ديمقراطيتهم"، لكن هذه ديمقراطية لليهود الإسرائيليين فقط، وليست ديمقراطية تشمل المجتمع داخل إسرائيل بكل أطيافه.

* هل دفن السلام؟ وهل نحن أمام استراتيجية إسرائيلية لحرب دائمة؟

- كما قلت، إحدى الصعوبات التي تواجهها إسرائيل هي أنه يجب عليها التعامل مع الفلسطينيين الذين يعيشون هناك. بالتالي فإن انتصار إسرائيل جزئي، ولذلك هي تسعى للتخلص من مليوني فلسطيني. طبعا يمكن تصور ظروف معينة يستطيعون فيها فعل ذلك، لكن الواقع يثبت مدى صعوبة هذا الأمر، حتى في غزة، رغم الدمار الهائل، فإن السكان لا يغادرون لأنهم يعلمون أنهم إذا رحلوا فلن يعودوا أبدا.

من ناحية ثانية، فإن إحدى الأمور الرئيسة في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية منذ عام 1948 كانت الحروب القصيرة مع انتصارات مدوية. لكن هذه الحرب هي الأطول في تاريخ إسرائيل، ومن الواضح أنهم لم ينتهوا بعد. لكن هذا قد يكون قاتلا لهم أيضا. وهذا ما يسميه البعض بـ"دوار النجاح". بمعنى، نعم، نحتل الجولان، ثم سنستمر في احتلال جنوب لبنان، ثم سنتدخل لصالح الدروز، ثم سنساعد الأكراد، وهكذا. لست متأكدا من أن هذه استراتيجية ستنجح على المدى الطويل.

أ.ف.ب
الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بين مقاتليه في بيروت خلال الأيام الأولى للغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982

* هل تعتقد أنهم يسعون لتحقيق ما يسمى "إسرائيل الكبرى"؟

- بالنسبة لي، لا أعتقد بوجود خطة تاريخية تقوم على امتداد إسرائيل من النيل إلى الفرات. لكن، في كل مرة يمكنهم فعل ذلك، فإنهم يفعلون. وهذه المرة يفعلونها كما لم يفعلوا من قبل، لأننا نتحدث عن الجولان، جنوب لبنان، وغيرها. إضافة إلى ذلك، فإن تطور التيار الخلاصي داخل إسرائيل يخلق ظروفا معينة في هذا الاتجاه. لقد رأينا الناس الذين يذهبون للصلاة في جنوب لبنان، على سبيل المثال.لذلك، يمكن دائما العثور على مبررات تقول: "كنا هنا منذ 5000 سنة".

* في مقالك الأخير، كتبت أن غزة لطالما شكلت عقبة أمام المشروع الصهيوني، ماذا قصدت تحديدا؟

- عندما يفكر الناس في غزة، فإنهم يفكرون في مخيمات اللاجئين والفقر، ولكن ينسون أن غزة هي ميناء على البحر الأبيض المتوسط ولها تاريخ مهم للغاية. لذلك، يجب أن نأخذ ذلك في الاعتبار. ما يميز غزة هو أن معظم قادة "فتح" كانت لهم صلة بغزة. بمعنى أن أولئك الذين تولوا قيادة "فتح" في الخمسينات والستينات إما وُلدوا في غزة، أو نشأوا فيها، أو قاتلوا هناك. لماذا؟ لأنها كانت الأرض الوحيدة التي كان الفلسطينيون فيها مستقلين. لقد نشأتُ في مصر، وأتذكر أنه كانت هناك طوابع بريدية مصرية مكتوب عليها "جنوب غزة"، وكانت مخصصة فقط لغزة. ورغم أن النظام الناصري كان يحاول السيطرة على الفدائيين، فإنه كانت لغزة هوية سياسية. بالإضافة إلى ذلك، فقد عانت غزة من المجازر في عامي 1948-1949ثم في 1956. وما دام ثلث سكانها من اللاجئين فإن ذلك يجعل الوعي الوطني فيها أقوى.

تاريخيا، كانت فرنسا في صف الفلسطينيين، واليوم أصبحت تدعم إسرائيل وإن لم تكن تتبنى الموقف نفسه الذي تتبناه الولايات المتحدة حيالها

هناك خطاب شهير لموشيه دايان في 1956، قبيل أزمة السويس، عندما اختطف فلسطينيون حارس أحد الكيبوتزات وقتلوه بطريقة مروعة. وقد أثار هذا الأمر ردود فعل قوية في إسرائيل. فقال دايان، الذي كان رئيس أركان الجيش حينها، في خطابه: "إن هذه الحادثة دليل على أنه يجب أن نحصل على الأسلحة، لكن يجب أن تفهموا أمرا، وهو أن الناس الذين يقيمون خلف الأسلاك الشائكة هم أناس أخذتم أرضهم وممتلكاتهم". كان قد فهم شيئا ما، وهو ما يغفله الكثير من الإسرائيليين اليوم، حيث يعتقدون أن الفلسطينيين يكرهونهم لأن ذلك مكتوب في مناهجهم الدراسية.

الفلسطينيون لا يحتاجون إلى مناهج دراسية، فالمجازر التي وقعت في 1956 ما زالت حية في ذاكراتهم. ثم كانت هناك كل المواجهات بين 1969 و1971 التي قادها آرييل شارون، وكل ذلك كان في غزة. ما كان مذهلا هو أنه في غزة لم يكن هناك دعم حقيقي من الأردن على غرار الضفة الغربية حيث كان الفدائيون حاضرين. ومع ذلك، فقد قاتل الغزيون. لقد زرت غزة، يكفي فقط أن ترى حال الناس وظروفهم هناك لتفهم ما يحدث.

أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي السابق، قال في تصريح له قبل تسلم الإدارة الجديدة: "لقد خسرت حماس 15 ألفا من مقاتليها، لكنها جندت 15 ألفا آخرين". وهذا أمر بديهي. إذا كنت مراهقا في الخامسة عشر من عمرك، ورأيت عائلتك تُقتل، فماذا ستفعل؟ ستذهب للقتال.

* هل ترى أن خطة ترمب لتهجير أهل غزة أصبحت وراءنا؟

- أولا، من الصعب دائما معرفة جوهر خطط ترمب. ما هو مؤكد هو أنه لن يذهب إلى غزة ولن يرسل أشخاصا إلى هناك لإعادة إعمارها. لذلك، لا أرى كيف يمكن أن يتحقق هذا المشروع، ولكن لا شيء مستحيل، يمكن أن تحدث مجازر. في الواقع ترمب معروف بتأييده لإسرائيل، لكن في نفس الوقت، فإن الطريقة التي يعامل بها إسرائيل اليوم لم يجرؤ أي رئيس ديمقراطي على القيام بها من قبل. ستيفن ويتكوف مبعوثترمب الخاص قال: "لسنا وكلاء لإسرائيل"، وهذا يدل على أن الأمر بينهما معقد، فمن ناحية هم يدعمون السياسة الإسرائيلية، لكن إلى الآن، فإن الأعمال القتالية لم تستأنف بسبب الضغط الأميركي على إسرائيل. ولكن إلى أي حد يمكن أن يستمر هذا الأمر؟ لا أعلم.

أ.ف.ب
رئيس الأركان الإسرائيلي ديفيد أليعازر (الثاني من اليمين) وإسحق رابين (أقصى اليسار) يهبطان بالقرب من الخطوط الأمامية في مرتفعات الجولان خلال الحرب، في 9 أكتوبر ١٩٧٣

من جهة أخرى، ترمب ليس جيوسياسيًا. لا يمكن القول إنه يمتلك رؤية واضحة. عندما حدثت المفاوضات الأولى بشأن "اتفاقات إبراهيم"، كان جاريد كوشنير هو من لعب الدور الرئيس، وكان هناك مشروع حقيقي يتضمن فكرة إقامة دولة فلسطينية على 50 في المئة من أراضي الضفة الغربية، وكان نتنياهو مضطراً لقبول ذلك. إذن، يعتمد الأمر على من يمارس الضغط عليهم. واليوم، أعتقد، أن بعض الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، تمتلك القوة والاستقلالية الكافية لممارسة الضغوط حتى لا نصل إلى مرحلة التهجير.

* هناك ديناميكيات متناقضة في الغرب تجاه ما يحصل في فلسطين. من ناحية، هناك دعم غير مسبوق لإسرائيل. ومن ناحية أخرى، شهدنا مظاهرات دعما للقضية الفلسطينية. وبالنسبة للحكومات الأوروبية أيضا، هناك دول مثل إسبانيا، وأيرلندا، وبلجيكا كانت مواقفها منددة بالسياسات الإسرائيلية.ما توصيفك لذلك كله؟

- أريد أن أتحدث أولا عن فرنسا. لماذا؟ تاريخيا، كانت فرنسا في صف الفلسطينيين، واليوم أصبحت تدعم إسرائيل وإن لم تكن تتبنى الموقف نفسه الذي تتبناه الولايات المتحدة حيالها. ومن المهم فهم أن هذا له علاقة بالقضية الفلسطينية وفي الوقت نفسه لا. فمنذ عام 1967 مع تصريحات الجنرال ديغول، وحتى جاك شيراك، كان الموقف الفرنسي واضحا إلى حد معين، وذلك على الرغم من المشاكل المتعلقة بالإرهاب، واختطاف الطائرات وغيرها. كانت الأمور واضحة بالنسبة للحكومة الفرنسية، لقد كانت قضية فلسطين قضية احتلال.

بالنسبة للأحزاب اليمينية المتطرفة، مثل حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وهو أكثر معاداة للسامية من "التجمع الوطني"، فالمسلمون هم التهديد الأساسي اليوم، أما اليهود فسيتعاملون معهم في وقت لاحق

لكن منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001، بدأ الوضع يتغير تدريجيا، والأمر لم يحدث بين ليلة وضحاها، إلا أن فرنسا أصبحت جزءا من جبهة الحرب ضد الإرهاب، أصبحت كليا في منطق الحرب ضد الإرهاب، خصوصا بعد الهجمات العنيفة التي حدثت في 2013، مثل الهجوم ضد "شارلي إيبدو" والهجمات الأخرى. وتدريجيا بدأنا ندرك أن السياسة لدى معظم الأحزاب السياسية، أصبحت تتمحور حول العلاقة مع المسلمين، والهجرة، وما إلى ذلك. بالنسبة لي، هناك علاقة واضحة بين الدعم لإسرائيل وارتفاع "الإسلاموفوبيا" في صفوف مختلف القوى السياسية في فرنسا، على خلفية أن الإسلام هو تهديد للمجتمعات الغربية.

هذا هو التغيير الكبير الذي حدث. وقد يكون هناك تغيير آخر، لنقل إنه في الستينات والسبعينات والثمانينات، كانت توجد أسس اقتصادية لسياسة فرنسية مستقلة. كانت هناك مصالح اقتصادية، مثل شركة "توتال" وغيرها. أما اليوم، فقد أدت العولمة إلى تدمير الاستقلالية الأوروبية والفرنسية. وبالتالي، أصبح من الصعب على فرنسا أن تواجه الولايات المتحدة، لكن هذا قد يتغير مع ترمب، فهناك شيء ما بدأ يتغير، وسنرى. اليوم جميع السياسيين الفرنسيين الذين ظلوا طوال عشرين عاما يروجون لفكرة أنه يجب أن نكون حلفاء مع الأميركيين، هم اليوم في حالة من الإرباك.

لكن لنعد إلى القضية الفلسطينية، أعتقد أن فرنسا ربما هي إحدى الحكومات الأكثر إسلاموفوبيا في أوروبا، بحجة فكرة عن العلمانية مشوهة ولا علاقة لها بقانون 1905 الذي تم تحريفه وتوظيفه. وبحسب هذا المنطق إذا كان الأمر يتعلق بحرب ضد الإرهاب، حرب بين الحضارة اليهودية- المسيحية، كما قال نتنياهو، والعالم الإسلامي، فإن إسرائيل تصبح حليفا لنا. وقد تبين أن هذا هو الموقف في معظم الأحزاب السياسية الفرنسية، ومن المدهش أن نرى أن ورثة شارل ديغول الجمهوريين، أصبحوا أكثر تأييدا لإسرائيل من الإسرائيليين أنفسهم.

هذا بالطبع له تأثير على النقاش السياسي في فرنسا. في الواقع، قبل السابع من أكتوبر، كنت أقول، عندما تسمعون المحطات التلفزيونية تتحدث عن غزة، وعندما تسمعونها تتحدث عن ضواحي باريس، يمكنكم ملاحظة أن الخطاب هو نفسه. والناس يتماهون مع هذا الخطاب، على قاعدة أن الأمر متصل في الحالتين بالإسلاميين، خصوصا أن هناك صعودا لليمين المتطرف الذي يستخدم كراهية المسلمين والمهاجرين.

كتاب لـ آلان غريش

وبالنسبة لي، فإن الحدث الأهم في فرنسا منذ السابع من أكتوبر هو أن جميع القوى السياسية، باستثناء "فرنسا الأبية"، قبلت أن "التجمع الوطني" (بزعامة مارين لوبان) هو قوة تواجه معاداة السامية. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023 كانت هناك مظاهرة ضخمة ضد معاداة السامية، وكل الأحزاب، باستثناء "فرنسا الأبية"، قبلت أن يكون "التجمع الوطني" جزءا منها. ونحن نعلم أن "التجمع الوطني" هو في جيناته معاد للسامية. وهي ظاهرة موجودة أيضا لدى ترمب، فجزء كبير من مؤيديه يدعمون إسرائيل وفي الوقت نفسه هم معادون للسامية. لماذا؟ هناك شيء يبدو غريبا بعض الشيء، كيف يمكن لهؤلاء المعادين للسامية أن يصبحوا مؤيدين لإسرائيل؟ وللإجابة على هذا السؤال سأستحضر مؤرخا جنوب أفريقي كتب عن السياسة الخارجية لبلاده، وهو تساءل كيف يمكن لحزب وصل إلى الحكم في 1948 وأقام نظام الفصل العنصري وكان مؤيدا لألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية أن يبني تحالفا استراتيجيا مع إسرائيل على الرغم من كونه معاديا للسامية؟ وقد أجاب: بالنسبة لهم، الإسرائيليون ليسوا يهودا، بل هم مستوطنون، مثلهم تماما. وأعتقد أن هناك الفكرة نفسها في الخطاب الأميركي، وهذا أمر خطير.

كذلك بالنسبة للأحزاب اليمينية المتطرفة، مثل حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وهو أكثر معاداة للسامية من "التجمع الوطني"، فالمسلمون هم التهديد الأساسي اليوم، أما اليهود فسيتعاملون معهم في وقت لاحق، هذا ما يفكرون به.

وفي المحصلة فإن الخطاب الإسرائيلي هو خطاب البيض ضد "الملونين"، وضد المستعمرين. في عام 1967، وقد عشت ذلك في فرنسا، كان الجميع باستثناء ديغول والشيوعيين، يدعمون إسرائيل. حتى اليمين المتطرف، مثل جان ماري لوبان، كان يدعم إسرائيل، لأنه كان يرى فيها انتقاما من حرب الجزائر.

ما هو مهم برأيي أكثر من دعم الفلسطينيين هو دعم القانون الدولي. الأمر الذي يحرك اليوم معظم الشباب اليهود، وغير اليهود أيضا، هو مسألة القانون الدولي

* إلى ماذا ستؤول هذه الديناميكية المتناقضة والمعقدة؟

- صحيح أنه عندما نرى كل ذلك لا نستطيع أن نكون متفائلين. ومع ذلك، لدي ميل دائما للقول إن معظم المحللين غير قادرين على التنبؤ بما سيحدث بعد 15 يوما. وأعتقد أن الإجابة على سؤال ماذا يمكن أن نفعل؟ هي المواجهة. ما يمكننا قوله هو أن هناك ميزان قوى لصالح اليمين واليمين المتطرف، لكن هناك أيضا قوى تحاول مقاومة ذلك. وأعتقد أن ما يفعله ترمب قد يغير الأمور في أوروبا.

لكن إلى أي مدى سيكون الأوروبيون، أو بعض الدول الأوروبية، شجعانا بما فيه الكفاية ليقولوا: نحن بحاجة إلى سياسة مستقلة؟ اليوم ماذا يقول لنا الأوروبيون؟ علينا شراء الأسلحة. المشكلة هي أنه إذا اشترينا أسلحة بقيمة 100 مليار، فإن 50 مليارا منها ستذهب إلى الولايات المتحدة. الأمر ليس أننا سنصبح أقوى، بل سيقوي ذلك الصناعة العسكرية الأميركية.

* لقد عبر يهود حول العالم خصوصا في أميركا عن رفضهم للحرب الإسرائيلية، كيف قرأت ذلك؟

- هناك الآن جيل جديد من الشباب اليهود في أميركا، التقدميين للغاية، والمعادين للصهيونية في بعض الأحيان، أو ببساطة المعادين للسياسة الإسرائيلية. وهذا أمر مهم جدا، وقد قرأت مؤخرا استطلاعا للرأي يظهر أن شعبية إسرائيل لم تكن يوما متدنية إلى هذا الحد لدى الأميركيين، خصوصا لدى الديمقراطيين.أما في فرنسا، فالوضع مختلف قليلا، ولفهم ذلك، يجب فهم العلاقة مع الجماعات. في أميركا، يمكنك أن تكون أميركيا يهوديا شيوعيا، أما في فرنسا، فليس هذا الحال. أنا جيلي من الطلاب الشيوعيين، كان 80 في المئة منهم يهودا، لكنهم لم يكونوا يعرّفونأنفسهم كيهود. لذلك، بطريقة ما، إحدى المشاكل هي أننا تركنا المجال مفتوحا لليمين لتنظيم نفسه والتحدث باسم المجتمع اليهودي. لكن بالطبع، من المؤكد أن إسرائيل تحرك جزءا مهماً من المجتمع اليهودي في فرنسا.

* هل نشأ وعي عالمي مختلف حول القضية الفلسطينية برأيك؟

- ما هو مهم برأيي أكثر من دعم الفلسطينيين هو دعم القانون الدولي. الأمر الذي يحرك اليوم معظم الشباب اليهود، وغير اليهود أيضا، هو مسألة القانون الدولي. فأن تكون المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت أخيرا مذكرات توقيف، حتى وإن كنا ننتظر أن يسفر ذلك عن نتائج أو أن تصدر محكمة العدل الدولية حكما ضد إسرائيل، فهذا أمر بالغ الأهمية، لأنه لا يوجد خيار آخر. فالبديل هو قانون الغابة، فمن سيقول غدا للصين: "لا يجب عليكم اجتياح تايوان"، أو سيقول لرواندا: "لا يمكنكم اجتياح الكونغو"؟ صحيح أن القانون الدولي كان دائما ضعيفا، ولكن قبل 11 سبتمبر 2001 كانت جميع القوى الديمقراطية أو غير الديمقراطية تعترف به.والفرق اليوم أن الخطاب ضد القانون الدولي وضد القوانين المتصلة بحقوق الإنسان لم يكن مرة واضحا إلى هذا الحد.

* هذا دافع هؤلاء الشباب برأيك...

- الإسرائيليون يقولون إن ما يحرك هؤلاء الشباب هو معاداة السامية، لكن في الواقع الأمر يتعلق بأن هذه القضية تمثل رمزا للقانون الدولي. إضافة إلى ذلك، لأنها القضية الاستعمارية الأخيرة التي لم تُحل، ولكي أكون موضوعيا فإنه لا ظلم أكبر من ترك ملايين الأشخاص في هذه الحالة. وهذه القضية تُفهم كذلك من قبل الشباب، وأعتقد أن هذا عامل تفاؤل.

font change