كيف أخطأت ميلاني ماتاريز في قراءة الجزائر؟

كتاب فرنسي بنظرة أحادية مسبقة

غلاف كتاب الفرنسية ميلاني ماتاريز "كيف خسرت فرنسا مجددا الجزائر"

كيف أخطأت ميلاني ماتاريز في قراءة الجزائر؟

ينال كتاب الفرنسية ميلاني ماتاريز "كيف خسرت فرنسا مجددا الجزائر" الصادر أخيرا عن دار نشر "لا بريس دو لاسيتي"، استحسان المنابر الإعلامية الكبيرة في فرنسا، بما فيها المحسوبة على اليمين الفرنسي، حيث يحاول الكتاب تقديم قراءة للعلاقات الجزائرية-الفرنسية، ليس من منظور الحنين الاستعماري، كما قد يبدو للوهلة الأولى من عنوانه، بل من زاوية نقدية تتناول فشل فرنسا في التعامل مع الجزائر كدولة مستقلة ذات سيادة، فالكاتبة تنطلق من فرضية أن فرنسا لم تدرك بعد أن الجزائر لم تعد ساحة نفوذ طبيعي لها، مما يفسر إخفاق محاولاتها الدبلوماسية تجاه مستعمرتها السابقة.

خسارة أم تحوّل طبيعي؟

غير أن أطروحة ماتاريز، رغم أهميتها، تحتاج إلى تحليل دقيق يتجاوز عنوان الكتاب الذي يبدو أنه السبب الرئيس في اهتمام الإعلام اليميني به، وهذا عبر محاولة العثور على السبب الذي يجعل العلاقات الجزائرية-الفرنسية قابلة للانفجار في أي لحظة. فالكتاب يحمل عنوانا قد يوحي للوهلة الأولى بأنه استمرار للسردية الاستعمارية التي ترى في استقلال الجزائر خسارة لفرنسا، لكن القراءة المتعمقة تكشف أن الكاتبة لا تعبّر بالضرورة عن حنين استعماري، فهي تنتقد بوضوح فشل الدبلوماسيين الفرنسيين في قراءة التحولات الجزائرية، حيث يغادرون الجزائر، أو يطردون منها أحيانا، "محبطين" بسبب فقدان النفوذ، دون أن يتساءلوا عن الأسباب العميقة لهذا التحول.

لا تعبر الكاتبة بالضرورة عن حنين استعماري، فهي تنتقد بوضوح فشل الدبلوماسيين الفرنسيين في قراءة التحولات الجزائرية

مع ذلك، يظل هذا التحليل ناقصا، إذ لا يعالج بشكل كافٍ كيف أصبحت الجزائر تعيد تشكيل سياستها الخارجية وفق مصالحها الخاصة، وليس كرد فعل على باريس فقط. فالتحليل في كتاب "كيف خسرت فرنسا مجددا الجزائر" يبقى متمركزا حول رؤية فرنسية للأحداث، حيث يُفهم منه أن تقلص النفوذ الفرنسي في الجزائر هو نتيجة لأخطاء باريس، أكثر من كونه جزءا من مسار طبيعي في السياسة الدولية.

AP
القوات الفرنسية تطوق قصبة الجزائر الشهيرة، الحي العربي المكتظ الذي يعود تاريخه إلى 400 عام، في 27 مايو 1956

تحليل قاصر أم موجه عن قصد؟

يركز الكتاب على تقلص النفوذ الفرنسي في الجزائر بسبب دخول قوى أخرى إلى المشهد على غرار تركيا وإيطاليا، لكنه لا يناقش بعمق ما إذا كان ذلك جزءا من إعادة تموضع طبيعي في العلاقات الدولية أم مجرد "خسارة" فرنسية. على سبيل المثل، يُصوَّر التقارب الجزائري-الإيطالي كأنه خروج عن المسار التقليدي للعلاقات مع باريس، متجاهلا أن الجزائر، كدولة مستقلة، تمتلك حق إعادة رسم سياساتها الخارجية بناء على مصالحها، وليس وفق توازنات موروثة من الماضي الاستعماري. هذا القصور في التحليل ينعكس أيضا على موضوع حرية الصحافة في الجزائر الذي حاولت الكاتبة تناوله بشيء من النقد، فهي ترى أن الصحافة الجزائرية تشهد تراجعا في الحريات منذ عام 2014، لكنها لم تضع هذا التراجع في سياقه الإقليمي أو العالمي، حيث أن التضييق الإعلامي ليس ظاهرة جزائرية فحسب، بل هو جزء من مشهد أوسع يشمل العديد من الدول، بما في ذلك فرنسا نفسها. كما يرى الكتاب أن حراك 2019 كان "لحظة ضائعة" بالنسبة إلى فرنسا، مما يؤكد أن الكتاب يسعى لتقديم رؤية فرنسية مركزية للأحداث الجزائرية، إذ يُنظر إلى الحراك كحدث يمكن استثماره، بدلا من كونه تعبيرا عن تحولات سياسية داخلية تعكس ديناميكيات محلية.

shutterstock
الاسبوع الثاني من الاحتجاجات في الجزائر، تزامنا مع يوم المرأة العالمي، حيث طالب المتظاهرون بسحب ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة

استغلال متبادل للذاكرة

يتهم الكتاب الجزائر باستغلال الذاكرة، وهو موضوع يستحق التحليل بلا شك، لكنه في المقابل لا يناقش كيف تستثمر فرنسا نفسها هذه الذاكرة لإعادة صوغ سرديتها الاستعمارية بطرق مختلفة. فبينما تدعو فرنسا إلى "طي صفحة الماضي"، تظل غير قادرة على الاعتراف الكامل بجرائمها الاستعمارية، بحيث أن الكتاب، رغم أهمية موضوع الذاكرة الاستعمارية بالنسبة إلى الجزائر وفرنسا على حدّ سواء، لا يقدم تحليلا معمقا حول كيفية تجاوز هذه الإشكاليات التاريخية وبناء علاقة صحية بين البلدين، لتجد ميلاني ماتاريز نفسها أقرب إلى تشخيص المشكلة من تقديم حلول عملية، عكس ما توحي به في كتابها.

هذا القصور في التحليل ينعكس أيضا على موضوع حرية الصحافة في الجزائر الذي حاولت الكاتبة تناوله بشيء من النقد

يعالج الكتاب أيضا مسألة الهجرة والجالية الجزائرية في فرنسا، وهي نقطة حساسة في العلاقات بين البلدين. لكنه يتناولها من منظور فرنسي في الأساس، حيث التركيز على تأثيرها على السياسة الداخلية الفرنسية أكثر من كونها عاملا مشتركا يمكن أن يكون جسرا للعلاقة بين الطرفين. في المقابل، لا يناقش الكتاب بشكل كافٍ كيف تنظر الجزائر نفسها إلى مسألة الهجرة أو كيف تؤثر في سياساتها الداخلية أو حتى الخارجية مع فرنسا على وجه التحديد. فالتحليل ينتقل دون سابق تقديم، ليتطرق إلى السياسة الفرنسية في أفريقيا بشكل عام وانعكاساتها على الجزائر، خاصة في ظل تصاعد النفوذ التركي والصيني في المنطقة. لكنه عوض أن يتناول هذا التحول كإعادة توزيع طبيعي للنفوذ، يصف ما يجري على أنه "انحسار" للنفوذ الفرنسي في المنطقة، وهو ما يعكس تحيزا ضمنيا في الرؤية. فالنظرة التي تهيمن على الكتاب ترى أن أي تراجع للدور الفرنسي هو خسارة، دون اعتبار أن البلدان الأفريقية، بما فيها الجزائر، تسعى لتنويع شراكاتها وفق مصالحها الوطنية.

shutterstock
شارع أحمد بوزينة وسوقه الشهير المزدحم

انتقائية المصادر

من أبرز ما يجب انتقاده في هذا الكتاب، هو الانتقائية المفرطة للكاتبة في اختيار مصادرها. فهي تعتمد، في كثير من الأحيان، على وجهات نظر فرنسية أو على الإعلام المعارض للنظام الجزائري، دون تقديم صورة متكاملة عن الواقع السياسي من زوايا متعددة. هذا يجعل الكتاب يقتصر على رؤية معينة دون الانفتاح على قراءات أوسع. فقد كان يمكن الكاتبة، لتحقيق توازن أكبر، أن تدمج تحليلات تستند إلى مصادر محلية متنوعة، تشمل أصواتا رسمية وغير رسمية، بالإضافة إلى دراسات أكاديمية موضوعية تتناول التغيرات السياسية في الجزائر من زوايا متعددة. إلا أن غياب مثل هذا التنوع في المصادر ، يجعل السردية أحادية الجانب، حيث التركيز على نقد النظام الجزائري دون النظر في تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي داخل البلاد. علاوة على ذلك، لا يقدم الكتاب مقارنة بين كيفية تغطية الإعلام الفرنسي والغربي للقضايا الجزائرية، مقابل كيفية معالجتها في الإعلام المحلي، مما كان سيمنح القارئ فهما أكثر شمولية حول تأثير الاختلافات الإعلامية في تشكيل الرؤى المتبادلة بين فرنسا والجزائر.

AFP
سمير بن العربي (وسط)، أحد وجوه المعارضة الجزائرية في حركة "الحراك"

وجهة نظر فرنسية بحتة

رغم أن كتاب "كيف خسرت فرنسا مجددا الجزائر" يقدم تحليلا نقديا للسياسة الفرنسية في الجزائر، إلا أنه يختار في المقابل أن يكون محكوما برؤية فرنسية للأحداث، حيث تصوَّر التحولات الجزائرية على أنها تدور في فلك العلاقة مع فرنسا. في حين أن الجزائر، كدولة ذات سيادة، تتحرك وفق مصالحها الاستراتيجية. فالسردية التي يعتمدها الكتاب، تفترض ضمنيا أن السياسات الجزائرية هي رد فعل مباشر على القرارات الفرنسية، متجاهلة العوامل الداخلية التي تدفع الجزائر إلى اتخاذ خياراتها المستقلة.

السردية التي يعتمدها الكتاب تفترض ضمنيا أن السياسات الجزائرية هي رد فعل مباشر على القرارات الفرنسية، متجاهلة العوامل الداخلية

هذا المنظور لا يعكس الديناميكيات الحقيقية للقرار السياسي الجزائري، الذي يتأثر بعوامل جيوسياسية أوسع، تشمل علاقات الجزائر بدول الجوار، والتحديات الاقتصادية، والرهانات الإقليمية والعالمية. لتقديم رؤية أكثر توازنا، كان يمكن الكاتبة أن تدمج تحليلات أعمق حول كيفية رؤية الجزائريين أنفسهم لهذه العلاقة، بدلا من التركيز على ردود الفعل الفرنسية فقط.

shutterstock
سوق شعبي مزدحم في حي باب الوادي بالجزائر العاصمة

إضافة إلى ذلك، كان الكتاب سيكتسب مصداقية أكبر لو أنه ناقش بموضوعية دور فرنسا في استغلال التاريخ الاستعماري، بالطريقة نفسها التي ينتقد بها الجزائر. فبينما يسلط الضوء على ما يسميه "توظيف الجزائر للذاكرة الاستعمارية"، فإنه يتجاهل كيف تعيد فرنسا نفسها تدوير خطابها الاستعماري، سواء من خلال بعض الخطابات السياسية التي تبرر الماضي الاستعماري، أو عبر التردد المستمر في الاعتراف الكامل بالجرائم المرتكبة خلال تلك الحقبة.

font change