هذه أيام الملحمة في أميركا. الإدارة الجديدة تشن حربا عاتية على سياسة "المساواة– التنوع– الاستيعاب" المسؤولة عن التراجع في الكثير من المجالات الحيوية التي ميزت الولايات المتحدة وصنعت "عظمتها" التي يجب أن تُصنع مجددا، بحسب شعار الرئيس دونالد ترمب الشهير.
وقد أطيح برئيس الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية السابق، سي كيو براون، لأنه كان يولي المساواة- التنوع– الاستيعاب، الكثير من وقته على حساب المهمات القتالية، بحسب ما قيل. كما أُبعد الكثير من كبار موظفي الهيئات الفيدرالية، الأمنية والاجتماعية، في سياق الحرب على السياسة هذه (التي تختصر عادة بالأحرف الثلاثة الأولى من كلماتها الإنكليزية (EDI) والتي وضعت أسسها في عهد الرئيس ليندون جونسون الذي تفوقت شهرة قيادته للفصول الأكثر دموية في حرب فيتنام، على مشاريعه الإنمائية والاجتماعية الكبرى في الولايات المتحدة مثل مشروع "المجتمع العظيم".
الذريعة التي تسوقها الإدارة الحالية ضد "المساواة– التنوع– الاستيعاب" هي أنها قد وصلت إلى حدود غير مقبولة من ناحية فرض مسؤولين وموظفين من خلفيات إثنية وجندرية ومن أقليات عرقية في مواقع حساسة، للحفاظ فقط على التعدد في المؤسسة الواحدة واستبعاد البيض، وخصوصا الرجال منهم، ولو على حساب الكفاءة والإنتاجية. بديهي أن النهج هذا يشابه الهجوم على ما يعرف بـ"التمييز الإيجابي" المعمول به في الجامعات الأميركية عند اختيار الطلاب المستحقين للمنح التعليمية حيث يسعى الطلاب السود، على سبيل المثال، إلى الانضمام لكليات معينة حتى لو لم تكن درجاتهم كافية أخذا في الاعتبار ظروفهم الاجتماعية والمعاناة التي مروا وأهاليهم بها. وهذا من الأسباب التي دعت الملياردير إيلون ماسك (نائب الرئيس غير المنتخب على ما يُسمى في الإعلام الأميركي) إلى الحث على شن حرب على الجامعات من دون أن يلقي بالا إلى أن التعليم العالي الأميركي هو من بين الجوانب القليلة التي لا تزال الولايات المتحدة تتفوق فيها على باقي دول العالم وبأشواط.
تكتمل رؤية الإدارة الأميركية بتشديدها على الولاء الشخصي للرئيس. ففي المقارنة بين الكفاءة والولاء، يفضل ترمب الولاء له قبل أي شيء آخر. مستشاره للأمن القومي في إدارته السابقة، جون بولتون الذي كان يفوق ترمب تطرفا في الشؤون الدولية، فقد منصبه لعدم إظهاره ما يكفي من الخضوع للرئيس.
الكفاءة والولاء مسألتان مطروحتان في كل دوائر السلطة حول العالم ومنذ القدم. ويتحول الاختيار بينهما إلى معضلة في الدول التي تعتمد النظام الرئاسي مثل الولايات المتحدة أو السلطة الفردية.
في دولنا العربية، وخصوصا منذ انتشار أجواء الانقلابات العسكرية والمؤامرات بين "رفاق السلاح" وسيطر الخوف من تلقي الطعنات في الظهر من الأقرباء والأصدقاء قبل غيرهم، حُسمت هذه المسألة لمصلحة الولاء أو "أهل الثقة" كما يقال، الذين قُدموا على أهل العلم. فمن الضروري في كل منصب أن يكون شاغله يظهر الولاء لرئيسه حتى ينال رضاه ويستمر حيث يترقى من دون أن يشكل تهديدا على "الرئيس القائد" و"الزعيم الرمز". وليس نادرا أن يبحث الرئيس عمن يتسم بانعدام كامل للكفاءة خشية أن يتحول يوما ما إلى منافس محتمل، مقابل التحلي بالولاء الأعمى. والأمثلة أكثر من أن تحصى.
الكفاءة والولاء مسألتان مطروحتان في كل دوائر السلطة حول العالم ومنذ القدم. ويتحول الاختيار بينهما إلى معضلة في الدول التي تعتمد النظام الرئاسي
بل بين الدول العربية من وجد حلولا أعمق ووزع المناصب ليس على الموالين فقط، بل على أفراد الجماعات الدينية والمذهبية وعينهم ممثلين لها في الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية وإداراتها العامة، على ما نشهد في لبنان والعراق، وعلى ما يجري اقتراحه على سوريا واليمن. وفي محاولة لإيجاد التوزيع العادل للسلطة بين المكونات الطائفية والعرقية والجهوية، انتقل الولاء هنا إلى طور مزدوج حيث ينبغي أن يكون موجها أولا لرأس الجماعة ثم للدولة ورئيسها.
غني عن البيان أن العدل في الحالات المشابهة شبه مستحيل ما دام الأمر يحسب على قدر الولاء، في الوقت الذي تبدو فيه الحلول المستندة إلى علمانية الدولة ومقولات المواطنة والمساواة- أي تخفيف درجة الولاء الخاص لمصلحة ولاء عام فضفاض وغامض الصفات- حلولا مخيفة للجماعات نظرا إلى أنها تعني تذويبها والقضاء على هويتها وإرثها وسط الأكثرية. وليس في عالمنا من لا يرى في هويته وإرثه ما يدعو إلى الاعتزاز وإصرار على التمسك به ونقله إلى أبنائه.
هي المعضلة القديمة تتخذ في كل عصر شكلا مختلفا لكنها تبقى قائمة بين الولاء وحسن الولاية.