عن ثلاثية أغوتا كريستوف: مراوغة المعنى

الكتابة سلاح ضد ضياع المعنى وانحلال الهوية

Sophie Bassouls/Sygma  via Getty Images
Sophie Bassouls/Sygma via Getty Images
أغوتا كريستوف

عن ثلاثية أغوتا كريستوف: مراوغة المعنى

أغوتا كريستوف، الكاتبة المجرية التي صنعت من المنفى واللغة الفرنسية الغريبة عنها، أدوات لنسج عوالم روائية فريدة، تترك القارئ أمام متاهة من المعاني الممزقة والصراعات الداخلية العميقة في أعمالها، مثل "الدفتر الكبير" و"البرهان" و"الكذبة الثالثة" (جميعها ترجمت إلى العربية) وهي لا تكتفي بتقديم قصص تقليدية، بل تبني فضاءات سردية تحاكي الواقع المرير الذي عاشته، وتستعيد من خلالها الأشياء المفقودة (الهوية، الحرية، المعنى) في محاولة للتصدي لضياعها الأبدي.

لا تبدو الأشياء في نتاج كريستوف الأدبي مجرد عناصر مادية، بل رموز تحمل أوزار التجربة الإنسانية. مثلا في رواية "الدفتر الكبير" يصبح الدفتر نفسه الذي يسجل فيه توأمان تجاربهما القاسية، أكثر من مجرد أداة كتابة. إنه خزان الذاكرة والمعرفة في مواجهة عالم مدمر بالحرب. إنها تحاول أن تمنح الأشياء معنى جديدا عبر تجريدها من دلالاتها التقليدية، فالقلم ليس للكتابة البريئة، بل لتسجيل القسوة والنجاة. والمنزل بدل أن يكون ملاذا، يتحول إلى سجن يحتضن الجدة المتوحشة. ويكشف هذا التحول في الدلالة عن رؤية كريستوف للمعنى كشيء غير ثابت، يعاد تشكيله عبر العنف والفقدان. فهو لا يمنح مجانا، بل ينتزع من أنقاض الحياة.

في كتابها السير- ذاتي الموسوم "الأمية"، تروي كيف كانت القراءة مرضا يمتلكها، وكيف أصبحت الكتابة وسيلة لاستعادة ما سلب منها (الوطن، اللغة الأم، الطفولة) هذا الجهد يتجلى في محاولة الشخصيات استعادة معنى الأشياء المفقودة، سواء كان ذلك من خلال الكتابة كما في ثلاثيتها، أو عبر الحنين المؤلم في رواية "أمس". لكن هذه الاستعادة ليست انتصارا، بل صراع مستمر ينتهي غالبا إلى العدمية، حيث يبدو المعنى وهما يتلاشى بمجرد الاقتراب منه.

الكتابة فعل مقاومة

الكتابة عند كريستوف سلاح ضد ضياع المعنى وانحلال الهوية. في "الدفتر الكبير" يمارس التوأمان تمارين القسوة والكتابة معا، كأن الكتابة نفسها تدريب على البقاء في عالم ينهار. هنا، تتحول الكتابة إلى فعل استعادة. استعادة السيطرة على الذات، وعلى الذاكرة، وعلى الحياة التي تسلب بفعل الحرب والمنفى. لكن هذه الاستعادة محفوفة بالغموض والتناقض، فالشخصيات لا تعرف حقا ما تستعيده: هل هو الماضي الحقيقي أم مجرد ظلال مشوهة له؟

هذه الاستعادة ليست انتصارا، بل صراع مستمر ينتهي غالبا إلى العدمية، حيث يبدو المعنى وهما يتلاشى بمجرد الاقتراب منه

في "الكذبة الثالثة"، تتكشف الكتابة كلعبة خداع، حيث تتعدد الروايات وتتشابك الحقائق مع الأكاذيب. كريستوف تستخدم هذا التشتت لتعكس الصراع ضد ضياع المعنى: كل محاولة لاستعادة الحقيقة تؤدي إلى مزيد من الضياع، كأن الكتابة نفسها تتحول إلى مرآة مكسورة تعكس شظايا الواقع بدلا من صورته الكاملة. هذا الصراع هو انعكاس لتجربتها الشخصية كمنفية اضطرت لتعلم لغة جديدة لتكتب بها، فكأنها تحارب لاستعادة صوتها المسلوب في لغة ليست لها.

غلاف "الدفتر الكبير"

الحرية في روايات كريستوف غائبة حضورا، لكنها تلوح كشبح بعيد لا يدرك. في "الدفتر الكبير"، يعيش التوأمان تحت وطأة الجدة والحرب، محاصرين في فضاء مغلق يعكس فقدان الحرية الجسدية والنفسية. هذا السجن وجودي: الشخصيات لا تملك خيارا سوى التكيف مع القسوة أو الغرق فيها. في "أمس"، يظهر الحنين إلى الوطن كمحاولة لاستعادة الحرية المفقودة، لكنها محاولة محكومة بالفشل، إذ يبقى المنفى ظلا يلاحق الشخصيات كالقدر.

كريستوف، التي هربت من المجر إلى سويسرا فرارا من الشيوعية، تعكس في أعمالها هذا الشعور بالحرية المسلوبة. فالكتابة تصبح ملاذا وهميا، لكنها لا تمنح الحرية الكاملة، بل تكشف عن عجز الإنسان أمام قيوده. في "البرهان"، يظهر الانفصال بين التوأمين رمزا لفقدان الحرية الداخلية، حيث يتحول كل منهما إلى نصف مشوه من كل ما كان موحدا. هذا التمزق يعكس رؤيتها للحرية كشيء لا يمكن استعادته بالكامل، مهما حاولت الكتابة أن ترممه.

بين العدمية والأمل المستحيل

من أبرز سمات عوالم كريستوف الروائية، ميلها إلى العدمية. فالمعنى يضيع، والحرية تسلب، والاستعادة تظل حلما بعيدا. لكن هذه العدمية ليست استسلاما تاما، بل تحد صامت. الكتابة، رغم قسوتها وجفافها الأسلوبي، تحمل بذور مقاومة خفية. فهي لا تقدم إجابات، بل تطرح أسئلة: هل المعنى ممكن في عالم مشوه؟ هل الحرية موجودة خارج أسوار اللغة والذاكرة؟

 Ulf Andersen/Getty Image
أغوتا كريستوف

أسلوبها البسيط المجرد من الزخرفة، الذي قد يراه البعض قاسيا أو جافا، هو في الحقيقة انعكاس لصراعها الشخصي مع اللغة الفرنسية، التي وصفتها بـ"العدو". هذا الأسلوب يعزز الشعور بالفراغ والضياع، لكنه يمنح القارئ مساحة للتأمل والتخيل، مما يجعل تجربة القراءة صراعا موازيا لصراع الشخصيات. مع ذلك، قد ينتقد عملها لميله الشديد إلى التشاؤم، حيث يغيب الأمل تقريبا، تاركا القارئ في مواجهة فراغ لا مخرج منه.

الكتابة تصبح ملاذا وهميا، لكنها لا تمنح الحرية الكاملة، بل تكشف عن عجز الإنسان أمام قيوده

تعد ثلاثية الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف، المكونة من "الدفتر الكبير" و"البرهان" و"الكذبة الثالثة"، من الأعمال الأدبية البارزة التي ترسم لوحة إنسانية معقدة تجمع بين قسوة الحرب وغموض الحياة. فهي تستمد مادتها الروائية من ذكرياتها الشخصية حيث عاشت تجارب النزوح والحرب في شبابها، لتقدم رؤية فريدة تتسم بالبساطة السردية والعمق الفلسفي، معتمدة على وجهة نظر توأم يواجهان العالم ببراءة مشوبة بالصلابة. أول ما يلفت الانتباه في ثلاثية كريستوف هو بساطة اللغة التي تتبناها. هذه البساطة ليست عادية، بل هي أداة فنية متعمدة تعكس عيني التوأمين اللذين يرويان الأحداث . تستخدم كريستوف جملا قصيرة ومباشرة، خالية من الزخرفة، لتصور العالم كما يراه طفلان وسط فوضى الحرب. هذا الأسلوب يعكس محدودية لغتهما كطفلين، ويحمل في الوقت نفسه إيحاء عميقا بأن الحرب تجرد الحياة من تعقيدها لتصبح سلسلة من التفاصيل القاسية والمباشرة. في "الدفتر الكبير" مثلا، يسجل التوأمان تجاربهما كأنهما يكتبان يوميات، دون تحليل أو انفعال زائد، مما يضفي على السرد طابعا موضوعيا باردا يتناقض مع وحشية الأحداث.

مرآة الازدواجية

تتمثل إحدى أبرز الخواص الفنية في الثلاثية، في استخدام التوأم كرمز للازدواجية الإنسانية. حيث يظهر التوأمان كيانا واحدا تقريبا، يتحدثان بصوت مشترك ويعملان بتناغم تام، مما يعكس فكرة الوحدة في مواجهة الاضطراب. لكن مع تقدم الثلاثية، في "البرهان" و"الكذبة الثالثة"، تنكشف الشقوق في هذه الوحدة، حيث ينفصلان جسديا ونفسيا، وتتعدد الروايات عن مصيرهما. هذا التفكك يتجاوز الحبكة الدرامية، ليغدو تعبيرا فنيا عن تأثير الحرب والمنفى في تمزيق الهوية. التوأم هنا تجسيد للصراع الداخلي بين البقاء والانهيار، بين الحقيقة والكذب، وهو ما يتجلى بوضوح في العنوان الأخير، "الكذبة الثالثة"، الذي يعيد النظر في كل ما سبق برؤية جديدة.

غلافا "الكذبة الثالثة" و"البرهان"

وعلى عكس الأعمال الأدبية التقليدية التي تجعل من الحرب محورا صاخبا، تتعامل كريستوف معها كخلفية صامتة لكنها قوية التأثير. في "الدفتر الكبير"، لا تذكر الحرب بشكل مباشر بأسماء أو تواريخ، بل تستشعر من خلال أفعال التوأمين وتفاعلاتهما مع الآخرين، الجدة القاسية، الجيران المشوهين، والتمارين الوحشية التي يفرضها التوأمان على نفسيهما لتحمل الألم، كلها تجليات غير مباشرة للحرب. هذا الأسلوب الفني يعزز واقعية السرد، إذ يقدم الحرب كما يراها الأطفال: ليست حدثا سياسيا بعيدا، بل واقع يومي يشوه الحياة ويفرض قواعده. في"البرهان" و"الكذبة الثالثة"، تتحول هذه الخلفية إلى نقطة انطلاق لاستكشاف ما بعد الحرب، حيث تظهر آثارها النفسية والاجتماعية على التوأمين والمجتمع المحيط.

كوميديا سوداء

تتسم الثلاثية بنبرة سوداوية تخترقها مفارقات كوميدية سوداء، وهي خاصية فنية تضفي عليها طابعا مميزا. التوأمان، ببراءتهما المزعومة، يواجهان المآسي بتصرفات غريبة وغير متوقعة، كمساعدة الآخرين بطرق صادمة أو تدريب نفسيهما على تحمل الجوع والضرب.

رؤيتها للأشياء بوصفها رموزا للذاكرة والصراع، واستخدامها الكتابة أداة مقاومة ضد الضياع، يجعلانها من أكثر الأصوات أصالة في الأدب المعاصر

هذه المفارقة بين البراءة والقسوة، تعكس رؤية كريستوف للحياة في زمن الحرب: لا مكان للخير أو الشر المطلق، بل هناك منطقة رمادية يتكيف فيها الإنسان بأي وسيلة. السوداوية تتجلى أيضا في النهايات المفتوحة والمربكة، خصوصا في "الكذبة الثالثة"، التي تترك القارئ يتساءل عن حقيقة ما حدث، معززة فكرة أن الحياة نفسها قد تكون كذبة كبرى. ويبرز الترقب باعتباره سمة فنية أساسية في الثلاثية. فالقارئ منذ "الدفتر الكبير"، يعيش في حالة انتظار دائم لما سيفعله التوأمان بعد ذلك، ثم يتحول هذا الترقب في الجزءين الثاني والثالث إلى تساؤل عن مصير كل منهما. هذا الغموض لا يخدم الحبكة فحسب، بل يعكس الحالة النفسية للشخصيات التي تعيش في عالم مضطرب لا يقدم إجابات واضحة. التوأمان، بصفتهما راويين وفاعلين، يجسدان هذا الترقب في بحثهما عن معنى وسط الخراب، سواء كان ذلك في مواجهة الحرب أو في محاولة استعادة ما فقداه.

Sophie Bassouls/Sygma  via Getty Images
أغوتا كريستوف

ثلاثية أغوتا كريستوف عمل فني يتجاوز الحدث ليستكشف الإنسان من خلال عيني توأم ببساطتها اللغوية: رمزية التوأم، خلفية الحرب الصامتة، سوداويتها الممزوجة بالمفارقة، وترقبها المستمر. تقدم الثلاثية رؤية أدبية عميقة تترك أثرا دائما في القارئ. إنها دعوة للتأمل في كيفية تشكيل العالم الخارجي لذواتنا، وكيف تبقى الحياة، حتى في أحلك لحظاتها، محيرة ومفتوحة للتأويل.

هكذا، فإن عوالم أغوتا كريستوف هي مرايا مكسورة تعكس الإنسان في أسوأ حالاته: مشردا، محروما من الحرية، باحثا عن معنى يتلاشى. من خلال الكتابة، تحاول استعادة ما فقدته، لكنها لا تقدم حلولا، بل تتركنا مع أسئلة تتردد في الفراغ. ورؤيتها للأشياء بوصفها رموزا للذاكرة والصراع، واستخدامها الكتابة أداة مقاومة ضد الضياع، يجعلانها من أكثر الأصوات أصالة في الأدب المعاصر. لكن في نهاية المطاف، تبقى عوالمها سجنا مفتوحا، حيث الحرية حلم لا يدرك، والمعنى شبح مراوغ باستمرار.

font change

مقالات ذات صلة