أغوتا كريستوف، الكاتبة المجرية التي صنعت من المنفى واللغة الفرنسية الغريبة عنها، أدوات لنسج عوالم روائية فريدة، تترك القارئ أمام متاهة من المعاني الممزقة والصراعات الداخلية العميقة في أعمالها، مثل "الدفتر الكبير" و"البرهان" و"الكذبة الثالثة" (جميعها ترجمت إلى العربية) وهي لا تكتفي بتقديم قصص تقليدية، بل تبني فضاءات سردية تحاكي الواقع المرير الذي عاشته، وتستعيد من خلالها الأشياء المفقودة (الهوية، الحرية، المعنى) في محاولة للتصدي لضياعها الأبدي.
لا تبدو الأشياء في نتاج كريستوف الأدبي مجرد عناصر مادية، بل رموز تحمل أوزار التجربة الإنسانية. مثلا في رواية "الدفتر الكبير" يصبح الدفتر نفسه الذي يسجل فيه توأمان تجاربهما القاسية، أكثر من مجرد أداة كتابة. إنه خزان الذاكرة والمعرفة في مواجهة عالم مدمر بالحرب. إنها تحاول أن تمنح الأشياء معنى جديدا عبر تجريدها من دلالاتها التقليدية، فالقلم ليس للكتابة البريئة، بل لتسجيل القسوة والنجاة. والمنزل بدل أن يكون ملاذا، يتحول إلى سجن يحتضن الجدة المتوحشة. ويكشف هذا التحول في الدلالة عن رؤية كريستوف للمعنى كشيء غير ثابت، يعاد تشكيله عبر العنف والفقدان. فهو لا يمنح مجانا، بل ينتزع من أنقاض الحياة.
في كتابها السير- ذاتي الموسوم "الأمية"، تروي كيف كانت القراءة مرضا يمتلكها، وكيف أصبحت الكتابة وسيلة لاستعادة ما سلب منها (الوطن، اللغة الأم، الطفولة) هذا الجهد يتجلى في محاولة الشخصيات استعادة معنى الأشياء المفقودة، سواء كان ذلك من خلال الكتابة كما في ثلاثيتها، أو عبر الحنين المؤلم في رواية "أمس". لكن هذه الاستعادة ليست انتصارا، بل صراع مستمر ينتهي غالبا إلى العدمية، حيث يبدو المعنى وهما يتلاشى بمجرد الاقتراب منه.
الكتابة فعل مقاومة
الكتابة عند كريستوف سلاح ضد ضياع المعنى وانحلال الهوية. في "الدفتر الكبير" يمارس التوأمان تمارين القسوة والكتابة معا، كأن الكتابة نفسها تدريب على البقاء في عالم ينهار. هنا، تتحول الكتابة إلى فعل استعادة. استعادة السيطرة على الذات، وعلى الذاكرة، وعلى الحياة التي تسلب بفعل الحرب والمنفى. لكن هذه الاستعادة محفوفة بالغموض والتناقض، فالشخصيات لا تعرف حقا ما تستعيده: هل هو الماضي الحقيقي أم مجرد ظلال مشوهة له؟