في الوقت ذاته، كانت قرارات السلطة تتجه نحو التجريد والإقصاء الوظيفي، وحرمان المفصولين من التعويضات، ما بدا كإنذار استراتيجي بفاقَةٍ كبيرة ستصيبهم في الساحل. تزامن ذلك مع ملاحقات أمنية انتقائية دون أي شكل واضح من العدالة الانتقالية، ما عزز الشعور بأن السلطة، تعيد رسم الخارطة الاجتماعية والسياسية للمنطقة، بعيدا عن الامتيازات السابقة التي تمتعت بها الطائفة.
خلص المؤتمر الوطني الذي عقد في دمشق إلى نتائج مخيبة، سواء على مستوى التحضير أو المخرجات، وتلاه إعلان رسمي عن تشكيل اللجنة الدستورية، وتعيين مجلس الشعب دون انتخابات، مبررة ذلك بشعار "تمثيل جميع مكونات الشعب السوري".
تزامن ذلك مع ظهور علاقات بين عسكريين وأمنيين سابقين، أو متمردين صامتين على السلطة، مع شبكة تدعمها إيران. وجاءت التصريحات الإيرانية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، مؤكدة على دعمها للمقاومة في المنطقة، مشددة على أن هذا الدعم يشمل الجوانب السياسية والمادية، ضمن إطار استراتيجيتها الإقليمية.
تراكمت التوترات حتى يوم الخميس، عندما استغلت جماعات مسلحة في الساحل حالة الغليان، فشنت هجوما مباغتا على دورية عسكرية، أثناء محاولة إلقاء القبض على مطلوب في قرية بيت عانا، لكنها وقعت في كمين محكم، مما استدعى إرسال تعزيزات كبرى نحو ريف جبلة، إلا أنها تعرضت لهجوم آخر، لتتصاعد المواجهات بشكل سريع.
فجأة، بدأ قصف جوي ومدفعي، استهدف قرى ريف جبلة، بمشاركة مروحية قتالية ومدفعية ثقيلة. وزاد ظهور طائرة عسكرية روسية نفاثة، من الشعور بأن لحظة تغيير جوهري، قد تكون وشيكة في الساحل. على إثر ذلك، هاجم سكان محليون غير منظمين، وفقا للشهادات، فرقا تابعة للأمن العام، حيث كانت بعض هذه الفرق تمارس انتهاكات بحق السكان، بينما لم تكن الأخرى منخرطة في أعمال قمعية. لم يكن هذا التمرد منظما بوضوح، بل عكَس ديناميات عنف ارتجالية، أكثر من كونه حركة ذات قيادة موحدة، إذ جاءت الهجمات كرد فعل مباشر دون تنسيق استراتيجي واضح.
بعد ساعات، هاجمت مجموعة من العسكريين الشبان مخفر القرداحة، وتمكنت من السيطرة عليه، مما أثار حالة من الذعر والارتباك، إذ اعتقد كثيرون أن المواجهات قد تتخذ منحى غير متوقع. في ظل هذا التصعيد، أرسل الأمن العام في اللاذقية، بالتنسيق مع المحافظ، قوات إضافية إلى المنطقة، لكنها تعرضت هي الأخرى لهجوم أثناء تحركها، مما أدى إلى تصاعد المواجهات إلى مستوى غير مسبوق.
بالتزامن مع ذلك، صدر بيانان متوازيان عن جهتين مسلحتين تُعرفان باسم "المجلس العسكري" و"قوات تحرير الساحل"، ما أعطى انطباعا بأن الساحل السوري يشهد تمرد اضد السلطة الجديدة. تزامن ذلك مع هجمات متفرقة استهدفت سبعة حواجز للأمن العام، وتصاعد إطلاق النار في مدينة اللاذقية، مما دفع السلطة إلى إصدار أوامر عاجلة عبر وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية للتدخل والمساندة. حاول المقاتلون إغلاق الطرق المؤدية إلى اللاذقية وجبلة، عبر إطلاق النار على السيارات المدنية والعسكرية، بهدف زرع البلبلة وتعطيل التنقل، مما تسبب في حالة من الذعر والازدحام.
قوات الأمن تحرس بوابة قاعدة حميميم الجوية، في اللاذقية، سوريا في 13 مارس
في الوقت ذاته، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو، لمجموعات من المدنيين تدعو إلى النفير العام إلى جانب السلطة، بعضها انطلق من داخل الجوامع، حيث أعلنت بعض الشخصيات الدينية "الجهاد ضد فلول النظام"، مما زاد من حدة التوتر الطائفي.
ظهر أيضا تصعيد آخر تمثل في خروج مظاهرات في طرطوس، احتجاجا على قصف بيت عانا بالطائرات، حيث رفع المحتجون شعارات تعكس شعورا بالإقصاء والاضطهاد. واجهت قوات الأمن هذه المظاهرات بإطلاق النار في الهواء، في محاولة لمنع تحول المواجهة إلى صراع مباشر بين الشوارع.
لكن القصة الأكثر إثارة للجدل كانت الطائرة العسكرية المروحية، المستخدمة في القصف، والتي أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي. بدأت مطالبات واسعة تدعو إلى حماية ريف جبلة من التهديدات المتصاعدة، في الوقت الذي استمرت فيه التعبئة العاطفية السريعةفي مناطق أخرى، لا سيما في حمص وحماة، حيث تصاعدت الدعوات للجهاد والتوجه نحو الساحل، مما زاد من حدة الاستقطاب الطائفي في المشهد السوري.
على مدى 12 ساعة متواصلة، تعرض الأمن العام لهجمات مكثفة، بعضها بدا منظما، بينما اتسمت الأخرى بالعشوائية. لم يظهر في اللاذقية أي تشكيل مسلح واضح، بل بدت التحركات أقرب إلى عمليات كوماندوز متفرقة، حيث أطلق بعض الأفراد النار من النوافذ والأسطح، بينما استهدف آخرون بشكل فردي حواجز الأمن العام ومخافر الشرطة في ريف القرداحة، مدخل مدينة جبلة، وريفها، بالإضافة إلى استهداف التعزيزات القادمة من الداخل السوري نحو الساحل.
رغم تصاعد العنف، لم تحظَ هذه التحركات بدعم واسع، حيث لم يظهر إجماع طائفي حولها، بل بدا أن العلويين ككل، لم يُشكلوا مقاومة منظمة للدفاع عن الساحل عقب سقوط النظام. على العكس، استسلم الكثير منهم للتغيير، وبعضهم احتفل بسقوط النظام، فيما خضع الآلاف لتسويات، سلموا خلالها أسلحتهم وأوراقهم الأمنية. يمكن تفسير ذلك بحالة الإرهاق العسكري الجماعيالتي أصابت أبناء الطائفة نتيجة سنوات طويلة من القتال دون أي مكاسب حقيقية، حيث ظل الفقر والموت أقرب واقع يعيشه عموم العلويين.
من جهة أخرى، أدى هذا التصعيد إلى حالة من الفزع العامبين الجمهور السني في اللاذقية وعموم سوريا، حيث انتشرت المخاوف من أن يتطور الوضع إلى اقتتال أهلي مفتوح. في استجابة لهذا التوتر، خرجت مظاهرات مؤيدة للأمن العام نحو مناطق العلويين، لكنها وُوجهت بتدخل مباشر لمنع انزلاق الموقف إلى حرب طائفية شاملة.
مع انتهاء المعارك، ارتفعت أصوات الاستغاثة في ريف بانياس، ثم تبعتها قرى متعاقبة في ريف جبلة، مطالبة بتخليص السكان من المجازر المستمرة، والتي وثّقها "المرصد السوري لحقوق الإنسان". تباينت الروايات بين تفسير الأحداث كصراع عسكري وبين اعتبارها حربا طائفية مفتوحة. حاول إعلام السلطة إعادة تشكيل السردية، حيث صوّر التنظيمات المعادية للدولة على أنها جيش كامل، رغم عدم وجود دلائل فعلية على ذلك.
لم نشهد تحقيقات شفافة، ولم يجر أسر قادة التمرد المزعوم، فيما ظل مقداد فتيحة متوعدا مرة أخرى، بينما أكدت الصور القادمة من الساحل، أن القتلى كانوا في الغالب مدنيين، مما يعزز فرضية أن دوافع القتل كانت انتقامية وطائفيةبحتة.
عشرات الفيديوهات الصادمة انتشرت، توثق التفاخر بالقتل والنحر والضرب الوحشي، مما شكّل صدمة عالمية، حيث تجلت وحشية غير مسبوقة، عززت من التوتر الإقليمي والدولي تجاه ما يجري في الساحل.
أما الادارة الجديدة، فقد تلقت ضربة قاسية، بعدما عجزت عن إيقاف الفصائل المسلحة أو فرض سيطرتها عليها، ما عمّق حالة الفوضى وأكد انهيار قدرتها على ضبط المشهد الأمنيفي الساحل السوري. ومع تزايد الضغط الدولي والإقليمي، حاولت الإدارة العسكرية تبرير العنف، لكنها سرعان ما اضطرت لتوجيه الأوامر بإخراج الفصائل غير المنتمية للمؤسسة الأمنية والعسكرية، دون أن يُنفذ شيء على الأرض.
أدى أثر الذعر واستهداف الأمن العام إلى حالة من الفزع بين الجمهور السني في اللاذقية وعموم سوريا، حيث انتشرت المخاوف من أن يتطور الوضع إلى صراع مفتوح. وفي استجابة لهذا التوتر، اندفعت مظاهرات مؤيدة للأمن العام نحو مناطق العلويين، لكنها وُوجهت بتدخل مباشر من وجهاء المدينة والكثير من الوطنيين الحريصين على عدم انجرار المشكلة إلى مكمنٍ آخر. وحتى الأمن العام نفسه أوقف أي حراك نحو اقتتال أهلي.