المجازر في الساحل السوري... المرتكبون والضحايا

من الخميس الدامي إلى الثلاثاء شبه الآمن

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أفراد عائلة على متن دراجة نارية يمرون بسيارة متفحمة في بلدة جبلة، محافظة اللاذقية الساحلية في 12 مارس

المجازر في الساحل السوري... المرتكبون والضحايا

لم يتمكن الساحل السوري حتى اليوم من تجاوز الصعوبات التي واجهها في واحدة من أكبر أزماته والتي لم يرغب السوريون في وقوعها. فالأزمة الطائفية تزداد ترسخا في بلد ينقسم فيه السكان حول طريقة إدارة السلطة للبلاد، إلى جانب أزمات أخرى أكثر حدة وإيلاما. لا يزال الساحل تحت حصار بعض الفصائل العسكرية التي لم تنسحب منه بعد، مما يثير الرعب بين سكانه، رغم محاولات الحكومة المتكررة لتجاوز المجزرة التي وقعت، سواء من خلال إرسال فرق إنقاذ أو عبر مبادرات اجتماعية تهدف إلى احتواء تداعيات ما حدث.

لم يخرج الساحل من الأيام الدامية حتى اليوم، إذ تؤكد جميع المقاربات السياسية والإعلامية أن هناك كارثة تنبغي معالجتها، ما يعكس صراعا واضحا بين محاولات السلطة لاحتواء المجزرة، ومجتمع علوي مذهول بحجم الكراهية التي واجهها، ما دفعه إلى مراجعة شاملة لوضعه ومقدراته، في ظل نظام جديد لا تبدو ملامحه متسامحة مع العلويين أو حتى متساهلة في معاملتهم. السؤال المطروح: هل ستتمكن الحكومة من لعب دور أكثر فاعلية في احتواء تداعيات خمسة أيام دامية غيرت المشهد تماما؟

يبدو الساحل السوري مصدوما، ورغم آثار الفرح بيوم الثورة، فإن الانقسام الطائفي يفرض نفسه، لكنه لا يزال غريبا عن المدينة. لا يخرج سكان بعض القرى من بيوتهم إلا لجلب حاجياتهم والعودة سريعا، متجنبين التواصل عبر الهاتف خشية أن تفتح الفصائل المسلحة جوالاتهم وتفتشها. في مواجهة هذا المشهد، تمارس السلطة أقصى ما لديها لحل مشكلات الخوف وتحاول دفع العلويين إلى تجاوز ما جرى، لكن القلق والترقب لا يزالان يسيطران على المشهد العام.

شهد يوم الخميس في السادس من مارس تطورا لافتا على مستوى سوريا، وبشكل خاص في الساحل الذي يتمتع بخصوصية تاريخية، نظرا لاعتماد النظام السابق عليه في تشكيل البنية العسكرية والأمنية للدولة

وفي محاولة للسيطرة على الوضع، تبذل السلطة السورية جهودا مستمرة لمعالجة الآثار التي يبدو أنها لا تنتهي، مما وضع السلطة والمجتمع السوري أمام لحظة حرجة تتعلق بكيفية الخروج من تبعات المجازر الجماعية وعمليات والسرقة. وتسعى السلطة إلى استعادة المسروقات، كما تحاول تنظيم الطرقات التي بات الريفيون يخشونها مع انتشار فصائل مسلحة غير معروفة للسكان، بعضها يتبع السلطة مباشرة ويتمتع بسمعة جيدة، بينما استحوذت فصائل أخرى على أراضٍ في اللاذقية وبانياس وطرطوس.

وفي هذا السياق، بدأت الحكومة باتباع نهج جديد في تسليم السلاح داخل القرى العلوية، وأعلنت نجاحها في ذلك وفقا لإعلامها الرسمي. كما حاولت تفادي الأخطاء السابقة عبر إرسال المحافظ إلى كل منطقة منكوبة للقاء سكانها والاستماع إلى مطالبهم. وفي بعض المناطق، بدا أن التواصل مع السلطة أصبح أكثر انفتاحا، إذ تحرص على الظهور من خلال مسارين: الأول عبر القادة العسكريين، والثاني عبر شخصيات مدنية مثل المحافظ، وقائد الشرطة، وشخصيات وازنة محسوبة على "هيئة تحرير الشام" أو قريبة منها.

رويترز رويترز
الرئيس السوري أحمد الشرع

ورغم توقف عمليات القتل، لا يزال الخوف حاضرا، إذ تواجه السلطة مأزقا سياسيا يتجلى في ضعف قدرتها على بناء روابط سياسية ومواطنية حقيقية مع المجتمعات المحلية في المدن والأرياف، ما يهدد بجعل لغة السلاح هي الخيار الوحيد المتبقي. هذه المعادلة الخطرة تفتح الباب أمام احتمالات العنف المتجدد بدلا من ترسيخ الاستقرار.

وسط كل هذه الأحداث، تبدو محاولة قراءة المجريات الدامية في ضوء أزمات اليوم ضرورية لفهم ما جرى، أو على الأقل لإعادة تفكيك السرديات التي أدت إلى هذا التقاتل، في مسعى لفهم التعقيدات العميقة التي شكلت هذا المشهد القاتم.يحاول هذا المقال سرد الوقائع والإرهاصات التي أدت لما حدث كمحاولة للفهم.

شهد يوم الخميس في السادس من مارس/آذار تطورا لافتا على مستوى سوريا، وبشكل خاص في الساحل الذي يتمتع بخصوصية تاريخية، نظرا لاعتماد النظام عليه في تشكيل البنية العسكرية والأمنية للدولة. هذه الميزة أسست لدور خاص للساحل، تجلى بعد سقوط النظام في تغيرات اجتماعية وسياسية، تمثلت بتهميش دوره الذي كان محوريا في المشهد العسكري والأمني.

كانت قرارات الفصل من العمل، ومنع التعويضات عن ذوي القتلى الذين وصفتهم السلطة الجديدة بهذا المصطلح، بمثابة إنذار واضح بخسارتهم لكل الامتيازات، التي كانوا يحصلون عليها من الدولة

عقب السقوط، فر المسؤولون العسكريون والأمنيون للنظام، واستولى قادة الفصائل المقاتلة على منازل شخصيات بارزة مثل محمد محلا، ناصر ديب، وغيرهما من آل مخلوف والأسد والقادة الأمنيين السابقين. وتزامن ذلك مع إطلاق الأمن العام عمليات لترسيخ شكل جديد للسلطة في اللاذقية وطرطوس، حيث تم تعيين محافظين وقادة للأمن العام.

وخلال الأشهر الثلاثة الأولى، اعتقل المئات من المطلوبين، كما افتُتحت مكاتب للسلطة الجديدة، طالبت العسكريين والأمنيين بتسليم أسلحتهم وبطاقاتهم، وعوضوا ببطاقة أخرى على أمل إعادة النظر في توظيفهم. ومع ذلك، ووفقا لمصدر في الأمن العام، لم يتم تسليم كميات كبيرة من السلاح، ما دفع "الهيئة" إلى تكرار وتجديد طلباتها في هذا الشأن.

في هذه الفترة، سُجلت خروقات كبيرة على المستوى الاجتماعي، حيث تورط عناصر الأمن العام، وفصائل أخرى في انتهاكات لفظية ومعنوية بحق ابناء الطوائف الاخرى. وعلى الرغم من محاولات الأمن العام احتواء هذه التجاوزات، استمرت الخروقات، ما أدى إلى اندلاع مظاهرات ذات دوافع متعددة. ومع ذلك، بدا واضحا أن الفجوة بين العلويين وبين السلطة في دمشق آخذة في الاتساع، خاصة في ظل القرارات الحكومية، التي شملت فصل موظفين من أعمالهم، وامتناع وزارة الدفاع عن دفع التعويضات المالية لقتلى النظام خلال حربه التي استمرت نحو خمسة عشر عاما.

إضافة إلى ذلك، لم تجر إعادة المتطوعين من أبناء الساحل إلى الجيش أو الشرطة، ما خلق تصورا عاما بأن السلطة تسعى إلى إقصاء بعض الطوائف من الدولة، وتقييد حضور ممثليها الاجتماعي والسياسي ضمن إطارها. وتفاقم هذا الشعور بعد الإخفاقات التي شابت المؤتمر الوطني، والقرارات المتعلقة بتشكيل مجلس الشعب عبر التعيين بدلا من الانتخاب. وفي ظل هذه التطورات، برزت انتهاكات وتجاوزات تبدو ممنهجة أحيانا من قبل بعض العناصر، ما عزز حالة عدم الثقة بين المجتمع العلوي والسلطة الجديدة، وزاد من التوترات القائمة.

ظهرت نزعات تمرد متفرقة في حمص وريف اللاذقية وطرطوس. مسلحون من فلول النظام، أو من المهربين، كانوا يطلقون النار، أو يحاولون منع الأمن العام من القبض على مُتهم ما، لكن معظمها انتهى سريعا، حيث تمكنت قوات الأمن العام والفصائل المسلحة من احتوائها. ومع ذلك، برزت في اللاذقية حالة أكثر تعقيدا، تمثلت في شخص يُدعى مقداد فتيحة، وهو ضابط سابق في الحرس الجمهوري، وأحد مرتكبي الجرائم الموثقة بالصوت والصورة، إذ انتشرت له صور وهو يدهس جثثا. كان مقداد فتيحة يتوعد السلطة الجديدة بالانتقام، ويطلق تهديدات متكررة ضد "الهيئة". سبق ذلك مقتل أحد عناصر الحرس الجمهوري، إثر اختطافه لعناصر من الأمن العام واحتجازهم كرهائن، ما أدى إلى تصعيد خطير في الموقف الأمني. وأصدر العميد السابق في "الفرقة الرابعة" بيانين يدعو فيهما الى التمرد. 

تزامن ذلك مع تصاعد التوتر، حيث حاولت دورية تابعة للأمن العام القبض على أحد المتهمين في إحدى قرى ريف جبلة، مما زاد من حالة الاحتقان، وأثار المزيد من التساؤلات حول مصير العلويين في ظل السلطة الجديدة. وأثار تساؤلا عن الطبيعة الإجرائية للعدالة الانتقالية، فحفلات الإذلال أثناء القبض على المُتهمين أفزعت المجتمع العلوي من تسليم أبنائهم، وقلما استطاع مشايخ العلويين الوصول للقيادة الجديدة لإيضاح مدى خطورة التأخر في إجراءات العدالة الانتقالية، قبل تسليم أبنائهم للمحاكم. 

كانت قرارات السلطة تتجه نحو التجريد والإقصاء الوظيفي، وحرمان العلويين من التعويضات، ما بدا كإنذار استراتيجي بفاقَةٍ كبيرة ستصيبهم في الساحل

في الوقت ذاته، كانت قرارات السلطة تتجه نحو التجريد والإقصاء الوظيفي، وحرمان المفصولين من التعويضات، ما بدا كإنذار استراتيجي بفاقَةٍ كبيرة ستصيبهم في الساحل. تزامن ذلك مع ملاحقات أمنية انتقائية دون أي شكل واضح من العدالة الانتقالية، ما عزز الشعور بأن السلطة، تعيد رسم الخارطة الاجتماعية والسياسية للمنطقة، بعيدا عن الامتيازات السابقة التي تمتعت بها الطائفة.

خلص المؤتمر الوطني الذي عقد في دمشق إلى نتائج مخيبة، سواء على مستوى التحضير أو المخرجات، وتلاه إعلان رسمي عن تشكيل اللجنة الدستورية، وتعيين مجلس الشعب دون انتخابات، مبررة ذلك بشعار "تمثيل جميع مكونات الشعب السوري". 

تزامن ذلك مع ظهور علاقات بين عسكريين وأمنيين سابقين، أو متمردين صامتين على السلطة، مع شبكة تدعمها إيران. وجاءت التصريحات الإيرانية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، مؤكدة على دعمها للمقاومة في المنطقة، مشددة على أن هذا الدعم يشمل الجوانب السياسية والمادية، ضمن إطار استراتيجيتها الإقليمية.

تراكمت التوترات حتى يوم الخميس، عندما استغلت جماعات مسلحة في الساحل حالة الغليان، فشنت هجوما مباغتا على دورية عسكرية، أثناء محاولة إلقاء القبض على مطلوب في قرية بيت عانا، لكنها وقعت في كمين محكم، مما استدعى إرسال تعزيزات كبرى نحو ريف جبلة، إلا أنها تعرضت لهجوم آخر، لتتصاعد المواجهات بشكل سريع.

فجأة، بدأ قصف جوي ومدفعي، استهدف قرى ريف جبلة، بمشاركة مروحية قتالية ومدفعية ثقيلة. وزاد ظهور طائرة عسكرية روسية نفاثة، من الشعور بأن لحظة تغيير جوهري، قد تكون وشيكة في الساحل. على إثر ذلك، هاجم سكان محليون غير منظمين، وفقا للشهادات، فرقا تابعة للأمن العام، حيث كانت بعض هذه الفرق تمارس انتهاكات بحق السكان، بينما لم تكن الأخرى منخرطة في أعمال قمعية. لم يكن هذا التمرد منظما بوضوح، بل عكَس ديناميات عنف ارتجالية، أكثر من كونه حركة ذات قيادة موحدة، إذ جاءت الهجمات كرد فعل مباشر دون تنسيق استراتيجي واضح.

بعد ساعات، هاجمت مجموعة من العسكريين الشبان مخفر القرداحة، وتمكنت من السيطرة عليه، مما أثار حالة من الذعر والارتباك، إذ اعتقد كثيرون أن المواجهات قد تتخذ منحى غير متوقع. في ظل هذا التصعيد، أرسل الأمن العام في اللاذقية، بالتنسيق مع المحافظ، قوات إضافية إلى المنطقة، لكنها تعرضت هي الأخرى لهجوم أثناء تحركها، مما أدى إلى تصاعد المواجهات إلى مستوى غير مسبوق.

بالتزامن مع ذلك، صدر بيانان متوازيان عن جهتين مسلحتين تُعرفان باسم "المجلس العسكري" و"قوات تحرير الساحل"، ما أعطى انطباعا بأن الساحل السوري يشهد تمرد اضد السلطة الجديدة. تزامن ذلك مع هجمات متفرقة استهدفت سبعة حواجز للأمن العام، وتصاعد إطلاق النار في مدينة اللاذقية، مما دفع السلطة إلى إصدار أوامر عاجلة عبر وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية للتدخل والمساندة. حاول المقاتلون إغلاق الطرق المؤدية إلى اللاذقية وجبلة، عبر إطلاق النار على السيارات المدنية والعسكرية، بهدف زرع البلبلة وتعطيل التنقل، مما تسبب في حالة من الذعر والازدحام.

رويترز رويترز
قوات الأمن تحرس بوابة قاعدة حميميم الجوية، في اللاذقية، سوريا في 13 مارس

في الوقت ذاته، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو، لمجموعات من المدنيين تدعو إلى النفير العام إلى جانب السلطة، بعضها انطلق من داخل الجوامع، حيث أعلنت بعض الشخصيات الدينية "الجهاد ضد فلول النظام"، مما زاد من حدة التوتر الطائفي.

ظهر أيضا تصعيد آخر تمثل في خروج مظاهرات في طرطوس، احتجاجا على قصف بيت عانا بالطائرات، حيث رفع المحتجون شعارات تعكس شعورا بالإقصاء والاضطهاد. واجهت قوات الأمن هذه المظاهرات بإطلاق النار في الهواء، في محاولة لمنع تحول المواجهة إلى صراع مباشر بين الشوارع.

لكن القصة الأكثر إثارة للجدل كانت الطائرة العسكرية المروحية، المستخدمة في القصف، والتي أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي. بدأت مطالبات واسعة تدعو إلى حماية ريف جبلة من التهديدات المتصاعدة، في الوقت الذي استمرت فيه التعبئة العاطفية السريعةفي مناطق أخرى، لا سيما في حمص وحماة، حيث تصاعدت الدعوات للجهاد والتوجه نحو الساحل، مما زاد من حدة الاستقطاب الطائفي في المشهد السوري.

على مدى 12 ساعة متواصلة، تعرض الأمن العام لهجمات مكثفة، بعضها بدا منظما، بينما اتسمت الأخرى بالعشوائية. لم يظهر في اللاذقية أي تشكيل مسلح واضح، بل بدت التحركات أقرب إلى عمليات كوماندوز متفرقة، حيث أطلق بعض الأفراد النار من النوافذ والأسطح، بينما استهدف آخرون بشكل فردي حواجز الأمن العام ومخافر الشرطة في ريف القرداحة، مدخل مدينة جبلة، وريفها، بالإضافة إلى استهداف التعزيزات القادمة من الداخل السوري نحو الساحل.

رغم تصاعد العنف، لم تحظَ هذه التحركات بدعم واسع، حيث لم يظهر إجماع طائفي حولها، بل بدا أن العلويين ككل، لم يُشكلوا مقاومة منظمة للدفاع عن الساحل عقب سقوط النظام. على العكس، استسلم الكثير منهم للتغيير، وبعضهم احتفل بسقوط النظام، فيما خضع الآلاف لتسويات، سلموا خلالها أسلحتهم وأوراقهم الأمنية. يمكن تفسير ذلك بحالة الإرهاق العسكري الجماعيالتي أصابت أبناء الطائفة نتيجة سنوات طويلة من القتال دون أي مكاسب حقيقية، حيث ظل الفقر والموت أقرب واقع يعيشه عموم العلويين.

من جهة أخرى، أدى هذا التصعيد إلى حالة من الفزع العامبين الجمهور السني في اللاذقية وعموم سوريا، حيث انتشرت المخاوف من أن يتطور الوضع إلى اقتتال أهلي مفتوح. في استجابة لهذا التوتر، خرجت مظاهرات مؤيدة للأمن العام نحو مناطق العلويين، لكنها وُوجهت بتدخل مباشر لمنع انزلاق الموقف إلى حرب طائفية شاملة.

مع انتهاء المعارك، ارتفعت أصوات الاستغاثة في ريف بانياس، ثم تبعتها قرى متعاقبة في ريف جبلة، مطالبة بتخليص السكان من المجازر المستمرة، والتي وثّقها "المرصد السوري لحقوق الإنسان". تباينت الروايات بين تفسير الأحداث كصراع عسكري وبين اعتبارها حربا طائفية مفتوحة. حاول إعلام السلطة إعادة تشكيل السردية، حيث صوّر التنظيمات المعادية للدولة على أنها جيش كامل، رغم عدم وجود دلائل فعلية على ذلك.

لم نشهد تحقيقات شفافة، ولم يجر أسر قادة التمرد المزعوم، فيما ظل مقداد فتيحة متوعدا مرة أخرى، بينما أكدت الصور القادمة من الساحل، أن القتلى كانوا في الغالب مدنيين، مما يعزز فرضية أن دوافع القتل كانت انتقامية وطائفيةبحتة.

عشرات الفيديوهات الصادمة انتشرت، توثق التفاخر بالقتل والنحر والضرب الوحشي، مما شكّل صدمة عالمية، حيث تجلت وحشية غير مسبوقة، عززت من التوتر الإقليمي والدولي تجاه ما يجري في الساحل.

أما الادارة الجديدة، فقد تلقت ضربة قاسية، بعدما عجزت عن إيقاف الفصائل المسلحة أو فرض سيطرتها عليها، ما عمّق حالة الفوضى وأكد انهيار قدرتها على ضبط المشهد الأمنيفي الساحل السوري. ومع تزايد الضغط الدولي والإقليمي، حاولت الإدارة العسكرية تبرير العنف، لكنها سرعان ما اضطرت لتوجيه الأوامر بإخراج الفصائل غير المنتمية للمؤسسة الأمنية والعسكرية، دون أن يُنفذ شيء على الأرض.

أدى أثر الذعر واستهداف الأمن العام إلى حالة من الفزع بين الجمهور السني في اللاذقية وعموم سوريا، حيث انتشرت المخاوف من أن يتطور الوضع إلى صراع مفتوح. وفي استجابة لهذا التوتر، اندفعت مظاهرات مؤيدة للأمن العام نحو مناطق العلويين، لكنها وُوجهت بتدخل مباشر من وجهاء المدينة والكثير من الوطنيين الحريصين على عدم انجرار المشكلة إلى مكمنٍ آخر. وحتى الأمن العام نفسه أوقف أي حراك نحو اقتتال أهلي.

بات العلويون يُصورون كحاضنة للتمرد، رغم أن الكثير منهم لم يشاركوا في المواجهات

مع تصاعد الفوضى، بدأ السنة في البلاد ينظرون إلى ما يحدث على أنه كارثة وطنية غير مسبوقة، ما دفع إلى موجة من الهلع، حيث تحولت مشاعر القلق من الفلول إلى استهداف أوسع للعلويين كطائفة، وليس فقط للمتمردين العسكريين. وتزايد الخطاب الحاد في الشوارع ووسائل التواصل الاجتماعي.

مع انتهاء المعارك العسكرية والاشتباكات، ارتفعت أصوات الاستغاثة في ريف بانياس، ثم تبعتها قرى متعاقبة في ريف جبلة، مطالبة بتخليص السكان من المجازر المستمرة، والتي وثّقها المرصد السوري لحقوق الإنسان. كان يوم الجمعة كئيبا على السوريين، حيث انقسمت التفسيرات بين رؤى طائفية ومقاربات انتقامية، بينما ساهم إعلام السلطة في إعادة تشكيل السردية، إذ عمل على إحالات خطابية صوّرت التنظيمات المعادية للدولة على أنها جيش كامل، رغم غياب أي دلائل فعلية تدعم هذا الطرح.

في الوقت نفسه، بدأت تنتشر رسائل عبر تطبيق واتساب تحتوي على أوامر عسكرية مباشرة للتمردين، حيث تضمنت توجيهات حول كيفية التحرك العسكري، استهداف مقرات السلطة، وتعليمات للاختباء والانتشار بين المدنيين والبيانين من العميد السابق غياث دلا، الضابط السابق في "الفرقة الرابعة" بقيادة ماهر الأسد القريبة من إيران، المشار اليهما. أحدثت هذه الرسائل موجة من الذعر والتوتر، حيث تم تداولها بشكل واسع بين مؤيدي السلطة، مما زاد من الضغوط على الأجهزة الأمنية التي باتت تعتبر التمرد أكثر تنظيما مما كان يُعتقد في البداية. 

لم نشهد تحقيقات شفافة، ولم يتم أسر قادة الانقلاب المزعوم، بل ظهر مقداد فتيحة متوعدا مرة أخرى، بينما كانت صور الجثث القادمة من الساحل، تؤكد غياب أي تمييز بين الضحايا. ومع ذلك، كشفت عمليات التحقق من الهويات والخلفيات أن القتلى كانوا مدنيين، وأن دوافع القتل كانت طائفية بحتة.

عشرات الفيديوهات الصادمة انتشرت، توثق التفاخر بالقتل والنحر والضرب الوحشي، مما شكل صدمة عالمية، عززت من التوتر الإقليمي والدولي تجاه ما يجري في الساحل. أما السلطة، فقد تلقت ضربة قاسية، بعدما عجزت عن إيقاف الفصائل المسلحة أو فرض سيطرتها عليها، مما عمّق حالة الفوضى. ومع تزايد الضغط الدولي والإقليمي، حاولت الإدارة العسكرية تبرير العنف، لكنها سرعان ما اضطرت لتوجيه الأوامر بإخراج الفصائل غير المنتمية للمؤسسة الأمنية والعسكرية، دون أن يُنفذ شيء على الأرض.

رويترز رويترز
يتحقق أحد أفراد قوات الأمن السورية من هوية شخص، بعد مقتل المئات في أعمال عنف في اللاذقية، سوريا في ٩ مارس

مع نهاية الاشتباكات، كان المشهد السوري منهكا وممزقا، حيث وجد الجميع أنفسهم في دوامة عنف لا نهاية واضحة لها.

وكان الليل في الساحل السوري أثقل من أن يُحتمل، آلاف الجنود برصاص مسعور، مع صدى هتافات غاضبة وطائفية، وكأن تراكم السنوات كلها وفشل الدولة الجديدة في احتوائه قد وجد منفذا. لم يكن القتال مواجهة عسكرية واضحة، بل حفلة انتقام طائفي مفتوح، نداءات الأهالي واستغاثاتهم كانت شاهدة على ذلك، آلاف الرسائل الصوتية والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي طلبا للمساعدة، لكن دون جدوى. الموت كان عشوائيا، والقتل احتفاليا، وعمليات الإعدام كانت مصوّرة، فيما امتدّت المجازر من ريف بانياس إلى اللاذقية.

مع انتهاء العمليات العسكرية حتى صباح السبت، كانت المجازر قد حصدت أرواح حوالي المئتي مدني في 22 قرية تمتد من بانياس إلى اللاذقية. كشف انقسام الروايات عن بُعد طائفي عميق، مؤكِّدا أن ما شهدته سوريا كانت حربا طائفية بكل المقاييس. حتى صباح السبت، كان موالو الادارة الجديدة يتهمون التنظيم العسكري المتمرد بقتل العلويين. في المقابل، تغيرت رواية السلطة، لتبدأ باتهام بعض الفصائل المتفلتة بتنفيذ عمليات تصفية، وسرقة، ونهب، وحرق واسع للمناطق.

لكن على الأرض، لم يكن هناك من يوقف الفوضى، بل بدا واضحا أن السلطة اعتمدت إدارة الصراع بالتمويه، حيث قدمت سرديات متضاربة حول طبيعة العمليات، محاولة إخفاء الانهيار الداخلي في إدارة المواجهة وتنظيمها. ومع ذلك، كانت 48 ساعة دامية كفيلة بكشف تفكك كبير داخل المنظومة الحاكمة، إذ لم تُنفذ الأوامر، وانهارت الفصائل تنظيميا، وتحولت إلى كيانات تعمل باستقلالية رغم ارتباطها الرسمي بالمؤسسة الأمنية.

بعد خطاب النصر الذي ألقته وزارة الدفاع وتهديدها لـ"الفلول" بعدم العودة، ظهر الرئيس أحمد الشرع في بيان رسمي، توعد فيه بمحاسبة المرتكبين، معلنا عن تشكيل لجنة خبراء لم يلقَ تشكيلها اعتراضا يُذكر من السوريين، في سابقة نادرة، إذ كان معظم أعضائها ممن يشهد لهم بالنزاهة، وفقا لكثير من الشهادات. لكن على الرغم من ذلك، استمرت عمليات القتل لثلاثة أيام متتالية، ولم تتوقف إلا مساء يوم الإثنين. ووثّق "المرصد السوري لحقوق الإنسان": "أكثر من أربعين مجزرة متفرقة بين بانياس ومدينة اللاذقية". وفي المقابل، حاول الإعلام التقليل من فداحة المجازر، محمِّلا المسؤولية لـ"عناصر منفلتة"، هي ذاتها التي قادت هذه الجرائم ووثقتها بالصوت والصورة. 

سارعت السلطة إلى تقديم وعود بمحاسبة المرتكبين، لكنها لم تتمكن خلال ثلاثة أيام في وقف الجرائم المتكررة. كانت سوريا تشهد أحد أشد أشكال الاستقطاب الاجتماعي، حيث تنازعت السرديات عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ففي حين دعا البعض إلى احتفالات النصر يوم الأحد، كانت الدماء تُسفك في القرى دون أي قدرة على ضبط الفوضى.

تسببت المجازر في هروب الآلاف إلى الجبال والأراضي النائية، ولجأ عشرة آلاف مواطن إلى قاعدة حميميم العسكرية، وفتح بعض سكان بانياس بيوتهم لإيواء الناجين، رغم تصاعد التحريض الطائفي في مناطق أخرى

عجزت قوى الأمن العام عن السيطرة على مداخل ومخارج القرى، مما سمح باستمرار عمليات النهب والسلب في أكثر من أربعين قرية، حيث سرقت الهواتف المحمولة، والذهب، والأموال من البيوت في مشهد تحوّل إلى حالة تفاخر مرعبة، زادها انتشار مظاهر الاحتفال والشماتة على وسائل التواصل الاجتماعي.

تسببت المجازر في هروب الآلاف إلى الجبال والأراضي النائية، بينما لجأ عشرة آلاف مواطن إلى قاعدة حميميم العسكرية، حيث افترشوا ساحتها خوفا من مجازر جديدة. في المقابل، فتح بعض سكان بانياس بيوتهم لإيواء الناجين، رغم تصاعد التحريض الطائفي في مناطق أخرى.

أما الادارة، فقد تلقت ضربة قاسية في أعين الجميع، بعدما عجزت عن إيقاف الفصائل المسلحة أو فرض سيطرتها عليها، مما عمّق حالة الفوضى. ومع تزايد الضغط الدولي والإقليمي، سرعان ما اضطرت لتوجيه الأوامر بإخراج الفصائل غير المنتمية للمؤسسة الأمنية والعسكرية. ومع ذلك، لم يُنفذ شيء على الأرض إلا بوقت متأخر، حيث استمرت عمليات التمشيط العشوائية دون أي التزام بالأوامر الصادرة من دمشق.

 في هذه الأثناء، تداخلت مشاهد النعوات مع الاحتفالات، حيث كانت صفحات التواصل الاجتماعي تنقل صور القتلى والدمار، بينما كانت أخرى تحتفل بسقوط مناطق بأكملها بيد الفصائل، وبالصفقة السياسية التي جمعت الأكراد مع رئيس الجمهورية. عمّت سوريا حالة من الصدمة والفوضى، حيث تصاعدت الهجمات على منتقدي السلطة، التي دفعت بآلاف الجنود لمعالجة تمرد عسكري غير منظم، ولم تخل التعبيرات السياسية والاجتماعية من ملامح وتعبيرات الانتقام والتشفي.

كانت هذه الأحداث بمثابة هزيمة رمزية للطائفة، حيث جُرّدت من أي قدرة على فرض وجودها السياسي أو العسكري، بينما تُركت لتواجه مصيرها دون أي غطاء حقيقي من الدولة أو الحلفاء

في المقابل عرف سكان الساحل أن بعضهم قد سقط في فخ الإشاعات، إذ اعتقدوا أنهم سيحصلون على دعم حاسم من الحلفاء الروس، بينما حاول آخرون الاندفاع بالسلاح للدفاع عن النفس، مدفوعين بإحساس عميق بالخذلان من دولة لم تفقدهم فقط كل حقوقهم، بل عجزت حتى عن حمايتهم من عناصرها، وأخفقت في تأسيس أي إطار واضح للعدالة الانتقالية. كانت هذه الأحداث بمثابة هزيمة رمزية للطائفة، حيث جُرّدت من أي قدرة على فرض وجودها السياسي أو العسكري، بينما تُركت لتواجه مصيرها دون أي غطاء حقيقي من الدولة أو الحلفاء.

انقضى يوم الثلاثاء بنهاية كاملة لعمليات القتل الجماعي، مع استمرار عمليات نهب متفرقة. غادرت الفصائل المسلحة الساحل، وخرج معها آلاف المقاتلين الذين تدفقوا من المحافظات الأخرى تحت رايات الجهاد أو مقاومة الفلول. ومع ذلك، بقيت الصورة مشوشة، حيث أن السلطة ذاتها لم تتمكن من توضيح من هم هؤلاء المقاتلون القادمون إلى الساحل، خاصة في ظل وصول عناصر مثل "الخوذ البيضاء"ومحاولات الهلال الأحمر السوري للمساعدة في دفن الموتى، وانتشال الجثث التي ملأت المنطقة.

بعض المنازل فُقد سكانها بالكامل، بينما قُتل آخرون داخل بيوتهم، ومع مرور الأيام، استمرت المقاطع المصورة في الظهور، موثقة "انتصارات" الفصائل عبر مشاهد قتل صادمة، وأغانٍ تُغنّى فوق الجثث، واحتفالات بالشماتة بالعلويين وتهديدهم بالإبادة.

رويترز رويترز
سيارات متضررة بسبب أحداث جبلة الدموية، سوريا في 12 مارس

رغم هذه الفظائع، لم تُعلن الدولة أي حداد رسمي على الضحايا، بل حاولت ضخ دعاية مكثفة تدّعي اهتمامها بهم وتعويضهم، دون أن يكون لذلك أثر حقيقي على الأرض. وعلى الرغم من انتهاء العمليات العسكرية، لم يتم حل أي مشكلة سياسية أو اجتماعية.

هذاالقهر الرمزي والسياسي تجلّى في حرمان العلويين من التعبير عن فقدانهم، ومنعهم من تعليق صور قتلاهم كفخر بأنهم ضحوا من أجل الوطن، بالتزامن مع استهدافهم اقتصاديا عبر تجفيف مصادر دخلهم.

في ظل هذه الفوضى، ظهر شكل من الحرب الهجينة، حيث امتزجت العمليات العسكرية بالنشاط الإعلامي والتعبئة النفسية، وخلطا بين أوامر من إدارة عسكرية، وعمل فصائل ما دون الدولة، مما جعل المواجهة أكثر تعقيدا

تقف سوريا اليوم على حافة نفق، حيث تجذّرت أشكال الرعب الذي مورس على مناطق بأكملها، إنسانيا، ماديا، ورمزيا، بينما خسرت الادارة هيمنتها الاجتماعية والسياسة في الساحل، فنهب السكان وحرق بيوتهم وتخليصهم لما يملكونهُ سيجعلهم بالتأكيد ضدها، لكن لا أحد يعتقد بأنهم قد يقومون بمحاولة التلاعب عليها. ومع تزايد الضغوط المحلية والدولية، يظل سؤال التحقيقات الكبرى معلقا في انتظار الإجابات، التي قد تحدد مستقبل المنطقة ككل. في ظل هذه الفوضى، ظهر شكل من الحرب الهجينة، حيث امتزجت العمليات العسكرية بالنشاط الإعلامي والتعبئة النفسية، وخلطا بين أوامر من إدارة عسكرية، وعمل فصائل ما دون الدولة، مما جعل المواجهة أكثر تعقيدا. يبقى السؤال للسلطة، كيف وجهت أوامرها لفصائل ضمن الجيش وفجأة عادت هذه الفصائل خارجهُ ومنفلتة؟

font change