أزمة الليبرالية الغربية وظلال "الرجال الاقوياء"

بات الصعود الليبرالي أمرا من الماضي

غيتي
غيتي
اشخاص يمشون على جدار برلين قرب بوابة برندبورغ بعد فتح ثغرات فيه في 1989

أزمة الليبرالية الغربية وظلال "الرجال الاقوياء"

هل تعيش الليبرالية الغربية أزمة وجودية؟ بعد أن بلغت الليبرالية ذروتها في أعقاب الحرب الباردة، حين بدا أنها ماضية في التمدد عبر العالم، باتت اليوم محاصرة حتى في معاقلها التقليدية في أوروبا وأميركا الشمالية. فقد أدى صعود الشعبوية اليمينية إلى تصدع الإجماع الليبرالي الذي ساد الغرب بعد الحرب الباردة، ما جعل المبادئ الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية على حد سواء عرضةً للتحدي. ومع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، تسارعت هذه التحولات. فكيف تراجعت الليبرالية الغربية بهذه السرعة، وما هي حظوظها في البقاء؟

يمكن تلمس جذور الليبرالية في الفلسفة الشرقية واليونانية، إلا أن هناك إجماعا واسعا بين المؤرخين على أن نسختها الحديثة ظهرت في القرن السابع عشر مع جون لوك ومن تلاه. وكانت بريطانيا من أوائل من تبنوا الليبرالية، بيدَ أن الأفكار الليبرالية انتشرت في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط والأميركتين خلال القرن التاسع عشر.

أما في القرن العشرين فقد تعرضت الليبرالية للتحدي مع ظهور الفاشية والشيوعية كبديلين عامين عنها. وقد ساعدت هزيمة النازية في إحياء الليبرالية في أوروبا الغربية، إلى جانب استمرارها في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث عمل المحافظون والاشتراكيون ضمن أطر اجتماعية واقتصادية ليبرالية فضفاضة. إلا أن سقوط جدار برلين عام 1989 هو من شكل حقا ذروة الليبرالية الغربية. فبعد فترة وجيزة من انهيار الشيوعية تبنت حكومات أوروبا الشرقية الليبرالية الغربية، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وقد تفاخر فرانسيس فوكوياما عام 1992 بأن انتصار الديمقراطية الليبرالية يمثل "نهاية التاريخ".

وترافق صعود الليبرالية السياسية مع انتشار الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية على السواء. وبلغ مبدأ "إجماع واشنطن" ذروته في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي شهد تشجيع الدول الغربية للدول النامية، "بعدوانية" كما يقول البعض، على تبني سياسات اقتصادية ليبرالية تتمثل في خفض الحواجز التجارية، وخصخصة الصناعات الحكومية، وتبني العولمة.

وقد تنامت الليبرالية الاجتماعية في الغرب منذ أواخر الخمسينات، مع إصدار تشريعات تضمن حقوق المثليين وحقوق الإجهاض وإلغاء عقوبة الإعدام في معظم الدول الأوروبية وأميركا الشمالية. كما اعتمدت دول غير غربية قوانين مماثلة تدريجيا في التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي في أثناء صعود الليبرالية. فيما وسعت الدول الغربية في الوقت نفسه نطاق الحقوق إلى أبعد من ذلك، حيث اعترفت هولندا بزواج المثليين لأول مرة عام 2000، ثم تلتها 38 دولة أخرى (معظمها غربية) في غضون العقدين التاليين.

كانت الليبرالية الاقتصادية أكثر قوة في السنوات الأخيرة، غير أن السياسة الجديدة التي يتبناها ترمب في الحماية التجارية، تشكل الآن عاملا ضاغطا على الإجماع الاقتصادي

وبالانتقال سريعا إلى عام 2025، بات الصعود الليبرالي أمرا من الماضي. ففي الوقت الذي يتصدر فيه صعود الشعبويين مثل ترمب والمجري فيكتور أوربان والإيطالية جورجيا ميلوني عناوين الأخبار، تُظهر الدراسات أن الليبرالية السياسية العالمية في تراجع. وتشير منظمة "فريدوم هاوس" ومؤشر الديمقراطية لوحدة الأبحاث الاقتصادية التابعة لمجلة "إيكونوميست"، إلى أن مستويات الديمقراطية العالمية، آخذة في الانخفاض منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، في حين سمت مؤسسة "كارنيغي" 27 دولة، بينها الولايات المتحدة، تشهد "تراجعا ديمقراطيا" منذ عام 2005. وفي بعض الأماكن، تحدى الشعبويون القوانين الاجتماعية التقدمية، مثل قيود ميلوني تبني الأطفال للأزواج من الجنس نفسه، أو إلغاء سابقة القضية المشهورة في أميركا المعروفة باسم "رو ضد ويد" حول حرية الإجهاض عام 2022، ما شجع الكثير من الولايات الأميركية على حظر الإجهاض.

 أ ف ب أ ف ب
امرأة تحمل لافتة كتب عليها "لا مكان للنازيين" في مظاهرة ضد نشاط اليمين المتطرف في مدينة ليبزيغ الالمانية في 25 أغسطس 2024

وكانت الليبرالية الاقتصادية أكثر قوة في السنوات الأخيرة، غير أن السياسة الجديدة التي يتبناها ترمب في الحماية التجارية، تشكل الآن عاملا ضاغطا على الإجماع الاقتصادي. فمتوسط الرسوم الجمركية العالمية، التي بلغت 25 في المئة تقريبا، وهو أعلى مستوى لها، في ثلاثينات القرن العشرين، انخفضت طوال النصف الثاني من القرن العشرين، لتصل إلى 3 في المئة تقريبا في العقدين الأول والثاني من القرن الحالي، وهو أدنى مستوى بلغته على الإطلاق. وتشير تقارير مجلة "إيكونوميست" إلى أن الرسوم الجمركية الجديدة التي يفرضها ترمب، ستعيد متوسط الرسوم الجمركية الأميركية إلى مستوياتها في الأربعينات، مما سيدفع بالمتوسط العالمي إلى الارتفاع إلى حد كبير. وإذا ردت الدول، كما هو متوقع، بفرض رسوم جمركية مضادة، فسوف يكون ذلك ضربة أخرى لعصر "إجماع واشنطن" بشأن التجارة الحرة الذي يصارع من أجل البقاء.

أيا كان السبب الدقيق، فقد انكمشت الليبرالية ليس فقط في جميع أنحاء العالم، بل أيضا في معاقلها الغربية

لا تزال الأسباب الحقيقية وراء تراجع الليبرالية موضع جدال. فيعزو البعض هذا التراجع إلى الأزمة المالية التي حدثت عام 2008 وما تلاها. فتلك الأزمة لم تكشف عن حدود الاقتصاديات النيوليبرالية فحسب، بل ساهمت أيضا في صعود الشعبويين اليمينيين الذين حمّلوا المهاجرين والنخب الحاكمة مسؤولية ضعف النمو والركود الاقتصادي اللذين أعقبا الأزمة. وثمة في المقابل من يشير إلى صعود الصين وروسيا، حيث ساعدت الصين في الحد من انتشار الليبرالية على مستوى العالم، عبر تقديمها نموذج "الرأسمالية المستبدة" كبديل للتنمية، وأثبت شعبيته في كثير من بلدان العالم غير الغربي، بينما أظهرت روسيا، التي تخلت ببطء عن الديمقراطية الليبرالية بعد وصول بوتين إلى السلطة عام 2000، لبعض الزعماء أن الليبرالية ليست الممر الإجباري والوحيد للتنمية. وأشار آخرون إلى أن التطورات داخل المجتمعات الغربية، مثل ظهور الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية، هي التي سمحت لمناهضي الليبرالية الذين كانوا منعزلين عن بعضهم بعضا سابقا، بأن يتجمعوا معا بسهولة أكبر لتحدي التوافقات الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية.

 أ ف ب أ ف ب
فرنسيس فوكوياما في باريس في 21 اكتوبر 2002

أيا كان السبب الدقيق، فقد انكمشت الليبرالية ليس فقط في جميع أنحاء العالم، بل أيضا في معاقلها الغربية. ففي الولايات المتحدة، هُزم الديمقراطيون مرتين الآن أمام الجمهوريين الذين يتبنون شعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، ويتبنون قيما "أقرب إلى قيم روسيا فلاديمير بوتين أو قيم تركيا رجب طيب أردوغان"، منها لقيم الأحزاب الرئيسة الغربية الأخرى، كما يشير مشروع رصد القيم العالمية المنشور في "فايننشيال تايمز". وفي ألمانيا، على الرغم من فوز حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي يتبنى الليبرالية الاقتصادية، بالانتخابات الأخيرة، حل حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي في المرتبة الثانية، بينما حل اليسار المتطرف غير الليبرالي في المرتبة الرابعة. فيما يعاني حزب إيمانويل ماكرون، الذي اعتبر ذات يوم رمزا لليبرالية الغربية المتجددة، من هزائم مهينة أمام الشعبويين في كل من الانتخابات الأوروبية والبرلمانية العام الماضي. وفي كندا، أُجبر جاستن ترودو، الذي كان يعد أيضا رمزا لليبرالية، على الاستقالة وسط تراجع شعبيته.

هذا التأثير الشعبوي يدفع الليبراليين إلى التصرف بطريقة ليبرالية أقل مما قد يرغبون فيه. فعلى سبيل المثال، اضطر "حزب العمال" البريطاني إلى كسر تعهده الذي أعلنه في بيانه الانتخابي بالحفاظ على مستويات المساعدات، كي يمول زيادة الإنفاق الدفاعي بعد إعلان ترمب عدم ضمانه للأمن الأوروبي. وعلى نحو مماثل، روجت كثير من أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط الأوروبية مثل "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" و"حزب العمال"، لسياسات مناهضة للهجرة كوسيلة لمواجهة صعود اليمين الشعبوي.

الإجماع الليبرالي الغربي، يبدو أنه قد انهار مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض مرة أخرى. وينبغي على الليبراليين أن يعملوا على إيجاد طريقة تضمن عدم انكسار قيم الليبرالية ومُثلها بانكسار هذا الإجماع

 لكن الليبرالية الغربية على الرغم من كل ذلك، بعيدة كل البعد عن الموت، وهناك قصص نجاح وسط هذه الكآبة. وإسبانيا واحدة من هذه القصص، حيث يتولى "الحزب الديمقراطي الاشتراكي" السلطة منذ عام 2018، ويشرف على أسرع الاقتصادات الكبيرة نموا في أوروبا، ويتبنى نهجا ليبراليا للهجرة على عكس جيرانه في الاتحاد الأوروبي.

أيرلندا مثال آخر، حيث نما اقتصادها أسرع بكثير من اقتصاد المملكة المتحدة بقيادة زعماء ليبراليين من يمين الوسط المتعاقبين، وفي الوقت نفسه أيدت إصلاحات اجتماعية تقدمية مثل تشريع الإجهاض في عام 2018. وفي هذه الأثناء تعمل حكومة المحافظين الليبراليين من يمين الوسط في بولندا بعد فوزها بالسلطة عام 2023، على التخلص من آثار حكم الشعبويين اليمينيين الذي استمر عدة سنوات.

 أ ف ب أ ف ب
رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني ونظيرها الهنغاري فيكتور اوربان في روما في 4 ديسمبر 2024

وحتى في كندا، حيث بدا من المؤكد أن حزب ترودو الليبرالي سيخسر، كانت هناك زيادة في استطلاعات الرأي منذ هدد ترمب بالرسوم الجمركية، مما يشير إلى أن زعيمها الجديد قد يتغلب على الصعاب في الانتخابات التي ستجرى في وقت لاحق من هذا العام.

قد تمنح أمثلة كهذه الأمل لليبراليين، ولكن من دون أن يتوهموا بأن صعود تسعينات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي سيعود. فسيطرة الشعبويين المعادين لليبرالية على الحكم في أقوى دولة غربية، والمدافعة التاريخية عن الليبرالية، ستجعل الليبراليين يقضون السنوات القليلة المقبلة في النضال من أجل البقاء في بلدانهم، ومنع المزيد من التراجع الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي في الخارج، حيثما أمكنهم ذلك. غير أن ذلك سيشكل تحديا كبيرا لهم. فالإجماع الليبرالي الغربي، الذي كان بالفعل تحت ضغط شديد، يبدو أنه قد انهار مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض مرة أخرى. وينبغي على الليبراليين أن يعملوا على إيجاد طريقة تضمن عدم انكسار قيم الليبرالية ومُثلها بانكسار هذا الإجماع.

font change