هل تعيش الليبرالية الغربية أزمة وجودية؟ بعد أن بلغت الليبرالية ذروتها في أعقاب الحرب الباردة، حين بدا أنها ماضية في التمدد عبر العالم، باتت اليوم محاصرة حتى في معاقلها التقليدية في أوروبا وأميركا الشمالية. فقد أدى صعود الشعبوية اليمينية إلى تصدع الإجماع الليبرالي الذي ساد الغرب بعد الحرب الباردة، ما جعل المبادئ الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية على حد سواء عرضةً للتحدي. ومع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، تسارعت هذه التحولات. فكيف تراجعت الليبرالية الغربية بهذه السرعة، وما هي حظوظها في البقاء؟
يمكن تلمس جذور الليبرالية في الفلسفة الشرقية واليونانية، إلا أن هناك إجماعا واسعا بين المؤرخين على أن نسختها الحديثة ظهرت في القرن السابع عشر مع جون لوك ومن تلاه. وكانت بريطانيا من أوائل من تبنوا الليبرالية، بيدَ أن الأفكار الليبرالية انتشرت في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط والأميركتين خلال القرن التاسع عشر.
أما في القرن العشرين فقد تعرضت الليبرالية للتحدي مع ظهور الفاشية والشيوعية كبديلين عامين عنها. وقد ساعدت هزيمة النازية في إحياء الليبرالية في أوروبا الغربية، إلى جانب استمرارها في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث عمل المحافظون والاشتراكيون ضمن أطر اجتماعية واقتصادية ليبرالية فضفاضة. إلا أن سقوط جدار برلين عام 1989 هو من شكل حقا ذروة الليبرالية الغربية. فبعد فترة وجيزة من انهيار الشيوعية تبنت حكومات أوروبا الشرقية الليبرالية الغربية، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وقد تفاخر فرانسيس فوكوياما عام 1992 بأن انتصار الديمقراطية الليبرالية يمثل "نهاية التاريخ".
وترافق صعود الليبرالية السياسية مع انتشار الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية على السواء. وبلغ مبدأ "إجماع واشنطن" ذروته في التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي شهد تشجيع الدول الغربية للدول النامية، "بعدوانية" كما يقول البعض، على تبني سياسات اقتصادية ليبرالية تتمثل في خفض الحواجز التجارية، وخصخصة الصناعات الحكومية، وتبني العولمة.
وقد تنامت الليبرالية الاجتماعية في الغرب منذ أواخر الخمسينات، مع إصدار تشريعات تضمن حقوق المثليين وحقوق الإجهاض وإلغاء عقوبة الإعدام في معظم الدول الأوروبية وأميركا الشمالية. كما اعتمدت دول غير غربية قوانين مماثلة تدريجيا في التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي في أثناء صعود الليبرالية. فيما وسعت الدول الغربية في الوقت نفسه نطاق الحقوق إلى أبعد من ذلك، حيث اعترفت هولندا بزواج المثليين لأول مرة عام 2000، ثم تلتها 38 دولة أخرى (معظمها غربية) في غضون العقدين التاليين.