تعود ذكرى انطلاقة "14 آذار" في لبنان، وذاكرة أوائل المعارضين الشيعة ما تزال تحتفظ بتفاصيل المحاكمات الميدانية، التي تعرضوا لها، لإجبارهم على الرجوع إلى صفوف الطائفة. ولا تزال مدن البقاع، والجنوب على وجه الخصوص، تستذكر ضراوة حملات الملاحقة والترهيب التي واجهها "شيعة 14 آذار"، عقب مشاركتهم في المظاهرة الكبرى التي شهدتها ساحة الشهداء في بيروت.
ففي مدينة النبطية، على سبيل المثال، كمن مجهولون للعائدين من ساحة الشهداء واعتدوا عليهم، وطارد آخرون طبيبا معروفا، وأطلقوا عليه النار وأصابوه في قدمه، وعلى مقربة من المدينة، استباح ملثمون منازل معارضين، فأهانوهم واعتدوا عليهم جسديا، قبل أن يقتادوا بعضهم إلى التحقيق.
ولتبرير هذه الاعتداءات، أشاع المهاجمون أنهم ضبطوا مع العائدين وفي منازل المستهدفين أسلحة خطرة، وأجهزة تنصت، ووثائق تثبت تورطهم في التعاون مع فريق "14 آذار".
لكن رغم حساسية هذه الحوادث، فقد بقيت خارج التداول الإعلامي إلى حد كبير، كما لم تحظَ باهتمام يُذكر من قوى "14 آذار" نفسها، التي وضعتها في أدنى سلم اهتماماتها، إن لم يكن خارجها تماما.
في ذلك الوقت، كانت قوى لبنانية من مختلف الطوائف والأحزاب السياسية، تلتف حول ما عُرف بـ"ثورة الاستقلال"، في المقابل كان يتشكل ما سُمي لاحقا بـ"الثنائي الشيعي" رسميا. وفي ظل هذا الاستقطاب، برزت ملامح معارضة شيعية، سرعان ما وُوجهت بالنبذ من داخل بيئتها لعدم انسجامها مع مزاجها العام، كما لم تحظَ باحتضان قوى الاستقلال، ربما بسبب قصور في رؤيتها السياسية، كما تبين لاحقا.
يرى بعض المعارضين الشيعة، أن قوى "14 آذار" تتحمل مسؤولية إجهاض المعارضة الشيعية، وهو ما أدى لاحقا إلى استفراد "الثنائي" بقرار الطائفة، وذلك لأنها لم تخرج عن إطار نظام المحاصصة الطائفية في لبنان، ولم تختلف عقليتها عن عقلية القبائل السياسية اللبنانية التقليدية. فعلى الرغم من حشودها "المليونية" المتنوعة، فقد تشكلت وفق إرادة الزعماء لا الإرادة الوطنية، حيث التحق المسيحيون فيها بقرار من زعمائهم من سمير جعجع إلى أمين الجميل إلى ميشال عون، وانضم إليها الدروز بقيادة وليد جنبلاط، فيما اجتمع السنة تحت راية آل الحريري. وحدهم المعارضون الشيعة زحفوا إلى ساحة الشهداء مستقلين، متحدين إرادة زعاماتهم وقبائلهم، ما اعتُبر، وفق تلك العقلية، نقيصة لا ميزة.
قد لا تكون هناك معارضة شيعية منظمة بالمعنى التقليدي، لكن هذا لا يلغي وجود معارضين أشداء يواجهون قبضة حديدية داخل طائفتهم وبمواجهة حزبيها الاثنين لم تعرفها أي طائفة أو حزب في لبنان
ولا ينسى المعارضون الشيعة، كيف سُدّت في وجوههم كل السبل للانضمام كمكون سياسي، إلى انتفاضة الاستقلال، ولا تزال حادثة منع رئيس "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" حبيب صادق من حضور اجتماعات البريستول، وعدم البناء على خطاب الشخصيات الشيعية التي عقدت "لقاء العاملية"، شاهدة على هذا الإقصاء المتعمد.
ولم تكتفِ قوى "14 آذار" بالإعراض عن الصوت الشيعي المعارض، بل تحالفت مع خصومه، وخصومها هي عند أول فرصة، بدءا بالتحالف الرباعي وقت الانتخابات التشريعية لعام 2005، ثم حكومات الوحدة الوطنية المتتالية، متبنية طوال تلك المراحل معادلة "الجيش– الشعب– المقاومة"، التي شكّلت أكبر عامل ضغط نفسي ومصيري على المعارضة الشيعية وعلى البلد.
بالنظر إلى مآلات قوى المعارضة عموما، والتناقضات التي شهدتها مسيرة "14 آذار"، لم يبقَ تقريبا، إلا المعارضون الشيعة صامدين في مواقفهم ومواقعهم، رغم الضغوط والتهديدات الهائلة التي تعرضوا لها داخل بيئتهم وخارجها أيضا.
ولمن يسأل، قد لا تكون هناك معارضة شيعية منظمة بالمعنى التقليدي، لكن هذا لا يلغي وجود معارضين أشداء يواجهون عزلا، قبضة حديدية داخل طائفتهم وبمواجهة حزبيها الاثنين، لم تعرفها أي طائفة أو حزب في لبنان، ورغم أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من الانتظام في إطار سياسي موحد؛ وربما لا يرغبون في ذلك لأسباب شخصية في معظمها، فإنهم يشكلون القوة الحيوية الأكثر تأثيرا داخل الطائفة وعلى الصعيد الوطني. فالمواقف العقلانية التي تصدر عنهم، تتفوق إنسانيا ووطنيا على أصوات التهور التي تجر الطائفة والبلد، في كل مرة، إلى الهاوية، إضافة إلى أن تعدد المعارضين على حساب توحد المعارضة الشكلي، دليل عافية، ومثال على تنوع الآراء التي تفتقدها المكونات الوطنية الأخرى، ويعول عليه للانتقال بالطائفة الشيعية من إطار الصورة النمطية، إلى فضاءات التعدد والديمقراطية المحرومة منها.
على أية حال، لم يعد السؤال عن وجود معارضة شيعية منظمة ذا معنى اليوم، بعدما تحولت كل المعارضات المنظمة إلى سلطة، عدا أن هذا السؤال يوقظ لدى المعارضين الشيعة ذاكرة النبذ والإقصاء. ومع ذلك، فإن ما تعرضوا له في السابق، وما يواجهونه حاليا من تحديات نبذ جديدة، لا يزيدهم إلا عزما وإصرارا على مواصلة معارضتهم، والوقوف على اليسار من كل سلطة.