لم تكن الضربات الأميركية على مواقع "الحوثيين" في اليمن، مفاجئة. لكن توقيتها يحمل رسائل "ترمبية" إلى "المرشد" الإيراني علي خامنئي. فالقصف في صنعاء والرسالة إلى طهران.
واقع الحال، أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أعطى منذ وصوله إلى البيت الأبيض جميع الإشارات واتخذ جميع الخطوات التي تجعل مطالبته القوات الأميركية بقصف "بنك الأهداف" الموجود في خزائن إدارة جو بايدن، مسألة وقت لا أكثر. فإدارة ترمب انقلبت على مقاربة بايدن مع "الحوثيين" وأعادت تصنيفهم كمنظمة إرهابية أجنبية وفرضت عقوبات اقتصادية صارمة عليهم وحظرت استيراد النفط عبر ميناء الحديدة اعتبارا من بداية الشهر المقبل.
كما وجهت سلسلة من الإنذارات إلى "الحوثيين" لوقف تهديد خطوط الإمداد الدولية في البحر الأحمر. لكن توعد "الحوثي" باستئناف هجماتهم ضد السفن في البحر الأحمر وبحر العرب من جهة، ورد خامنئي "المخيب" على رسالة ترمب لمفاوضات جدية حول البرنامج النووي، من جهة ثانية، عجلا من قرار شن غارات، هي أوسع وأكثر استمرارا، مما كانت تقوم به إدارة بايدن.
سقوط مدنيين واستهداف اليمن مؤلم في المنطقة وفي هذا البلد الذي يعاني أهله الكثير منذ إمساك "الحوثيين" بالسلطة في 2014. لكن بالمعنى الجيوسياسي يمكن وضع الضربات الأميركية ضمن المشهد الأوسع في المنطقة من جهة، وتبادل الضربات والرسائل بين إدارة ترمب و"المرشد" خامنئي من جهة ثانية.
كان أكثر من مسؤول إيراني قد أعلن قبل سنوات أن طهران تسيطر على عدد من العواصم العربية، بينها بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. لكن الصورة انقلبت بشكل كبير في الفترة الأخيرة، وتعرض "الهلال الإيراني" إلى ضربات كبيرة قلصت نفوذ طهران العابر للإقليم والحدود.
موجات القصف أقرب إلى أن تكون ردا "ترمبيا" على رد خامنئي. وهذا ما عبر عنه مستشار الأمن القومي مايكل والتز بقوله: "لقد ضربناهم بقوة ساحقة وحذرنا إيران من أن الكيل قد طفح"
بعد انهيارات "حزب الله" العسكرية واغتيال قادته العسكريين بمن فيهم الأمين العام حسن نصرالله، وبعد سقوط نظام بشار الأسد في نهاية العام الماضي، لم يبق لأكسجين تمدد إيران الإقليمي سوى رئتي بغداد وصنعاء.
في العراق، هناك تنافس بين المتخاصمين، الأميركي والإيراني، وهناك تمترس من طهران في هذا البلد المجاور لتعويض خسائرها الإقليمية. أما في صنعاء، فقد واصل "الحوثيون" التأخر في الجنوح إلى المبادرات السياسية وزادوا من تهديد خطوط الإمداد البحرية، وحاولوا تغطية استهداف خطوط الإمداد البحرية الدولية إرضاء لإيران، بخطاب معاد لإسرائيل وداعم لفلسطين، للنهل من التعاطف مع المعاناة الفلسطينية، وسيحاولون الأمر نفسه بعد موجة الغارات الأخيرة بتوظيف القصف في خطابهم الدعائي المحلي.
قد يصح القول إننا في المرحلة الرابعة من المشهد الإقليمي، بعد التغييرات في دمشق وبيروت وغزة، لذلك غرد ترمب لـ "الحوثيين" بالقول: "حان وقتكم" إذ بات اليمن ساحة المواجهة الأميركية–الإيرانية. لذلك، فإن الغارات العسكرية الأخيرة لا تخرج عن التطورات الإقليمية والدولية، وتتضمن الكثير من الرسائل إلى طهران، وكأنها تواكب الرسالة التي أرسلها ترمب، ومفادها: إما مفاوضات جدية حول البرنامج النووي العسكري أو توقع عمل عسكري مباشر. وباعتبار أن خامنئي اعتبر هذه الرسالة "خدعة"، ورد بالقول إنه "إذا قررت إيران إنتاج سلاح نووي، فلن تكون واشنطن قادرة على منعها"، فإن موجات القصف أقرب إلى أن تكون ردا "ترمبيا" على رد خامنئي. وهذا ما عبر عنه مستشار الأمن القومي مايكل والتز بقوله: "لقد ضربناهم بقوة ساحقة وحذرنا إيران من أن الكيل قد طفح".
يدرك خامنئي أن إيران هي المستهدفة من الغارات. ويدرك أيضا أن بنيامين نتنياهو يحشد كل قدراته وعلاقاته للحصول على ضوء أخضر ودعم عسكري من أميركا لتوجيه "ضربة حاسمة" للبرنامج النووي الإيراني
حسب التقارير الأميركية، ستستمر الغارات "أياما أو ربما لأسابيع"، ما يعني أن التفاوض بين واشنطن وطهران لن يكون كما كان زمن إدارة بايدن أو باراك أوباما عبر حصرها في الملف النووي، واستبعاد بحث النفوذ الإقليمي، الأمر الذي أثار استياء عربيا كبيرا، بل إنه سيتناول التغلغل الإقليمي في وقت خسر فيه خامنئي الكثير من أوراقه التفاوضية سلفا، في ثلاث جبهات للتصعيد الإقليمي، أي سوريا ولبنان وقطاع غزة.
أيضا، هناك رسالة "ترمبية" داخلية مفادها أنه لن يتهاون مع الهجمات على المصالح الأميركية كما كان يفعل بايدن، لذلك فإن مسؤولي "البنتاغون" ركزوا على القول إن "الحوثيين" اليمنيين "هاجموا سفنا حربية أميركية 174 مرة، وسفنا تجارية 145 مرة منذ عام 2023"... خلال عهد بايدن.
لا شك أن "الحوثيين" سيردون وإيران قد ترد. لكن خامنئي يدرك ان بايدن لم يعد مقيما في البيت الأبيض، بل ترمب. يدرك أيضا أن إيران هي المستهدفة من الغارات، وأن بنيامين نتنياهو يحشد كل قدراته وعلاقاته للحصول على ضوء أخضر ودعم عسكري من أميركا لتوجيه "ضربة حاسمة" للبرنامج النووي الإيراني. ويدرك خامنئي كذلك أن إيران في 2025 ليست كما كانت في سنوات تمدد "الهلال".
لا شك أن هذه العناصر ستكون ضمن حسابات خامنئي ووكلائه لدى اتخاذ قرار كيفية الرد على "الرسائل الترمبية" الآتية من اليمن.