"التنويع الاقتصادي" في الخليج... تباين في الإمكانات وتلاق في الأهداف

فرص في السياحة والصناعة والعقارات وتحديات ديمغرافية

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
فرسان خلال استعراض حول قاعة مرايا في العلا، 28 يناير 2024

"التنويع الاقتصادي" في الخليج... تباين في الإمكانات وتلاق في الأهداف

لم يتوقف الحديث عن إمكانات التنويع الاقتصادي في دول الخليج منذ بداية عصر النفط. كان هناك من يتصور تبني دول المنطقة استراتيجيات تنموية لصناعة الثروة من حصاد الإيرادات المتأتية من النفط.

لكن هذه الآمال لم تتحقق على الرغم من أهميتها على مدى عقود طويلة. يمكن الزعم أن دولا خليجية تمكنت إلى درجة جيدة من تطوير نشاطات اقتصادية متعددة وتعزيز مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي وخفض مساهمة القطاع النفطي. بيد أن الشوط لا يزال طويلا لبلوغ الأهداف المأمولة.

يطرح اقتصاديون إمكان تعزيز السياحة كقطاع حيوي قد يرفع الإيرادات الوطنية في دول خليجية ويساهم إلى حد ما في الناتج المحلي وخلق فرص عمل للمواطنين. كما أن هناك من يرى أهمية توسيع أعمال الصناعات التحويلية كلما برزت دلائل على الجدوى وتوفرت الميزات النسبية لصناعات محددة.

حصل الاقتصاد السعودي على دفعة مهمة بعدما تمكنت الحكومة من تطوير القانون الذي يسهل مشاركة الشركات والمستثمرين الأجانب في الأعمال الاقتصادية في البلاد

في خضم هذه التساؤلات والطروحات، تبرز مسألة الأبعاد البيئية لأي نشاط جديد، وبالتالي تكاليفه الاقتصادية والبيئية. ثم هل سيؤدي التوسع أو الانخراط في أنشطة اقتصادية موازية للقطاع النفطي إلى زيادة أعداد العمالة الوافدة نظرا لعدم توافر الأيدي العاملة الوطنية الكافية أو المؤهلة للعمل في هذه الأنشطة أو القطاعات الاقتصادية؟

التنويع الاقتصادي السعودي يسير بنجاح

على الرغم من تشابه دول الخليج في تضاريسها الاقتصادية والديمغرافية، إلا أنها تتفاوت في قدرات الإدارة السياسية والاقتصادية. كذلك، ثمة فروقات في السمات الاقتصادية للعديد من القطاعات. انطلقت السعودية منذ سنوات في اتجاه التنويع وعقدت العزم على تعزيز مساهمة مختلف القطاعات غير النفطية وفي الوقت نفسه تطوير الصناعات القائمة على مدخلات نفطية وتعزيز الاستفادة من الثروات المعدنية. كذلك عملت السعودية على إنجاز مشاريع ذات صلة بالطاقة المتجددة. يضاف إلى ذلك تعزيز دور قطاع السياحة والضيافة بشكل مثير. تملك السعودية إمكانات تؤهلها لتعزيز دورها في مجموعة الدول العشرين التي تمثل أهم الاقتصادات العالمية. قدر الناتج المحلي الإجمالي للسعودية في عام 2023 بـ1,1 تريليون دولار.

.أ.ف.ب
مترو الرياض يعبر مركز الملك عبد الله المالي، 1 ديسمبر 2024

كما أن السعودية تملك أكبر قاعدة سكانية في منطقة الخليج حيث بلغ عدد السكان 33 مليون نسمة يمثل السعوديون 58 في المئة منهم. ويشكل الشباب وصغار السن الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما غالبية السعوديين، بما يؤكد أهميتهم لسوق العمل خلال السنوات والعقود المقبلة، وبما يعزز دورهم في الأنشطة الجديدة. وحصل الاقتصاد السعودي على دفعة مهمة بعدما تمكنت الحكومة من تطوير القانون الذي يسهل مشاركة الشركات والمستثمرين الأجانب في الأعمال الاقتصادية في البلاد.

وتمكنت السعودية في عام 2024 من تحقيق معدل نمو بنسبة 1,1 في المئة بعد الانكماش في عام 2023 بنسبة 0,8 في المئة. ويعزو المراقبون هذا النمو الى القطاعات غير النفطية التي قدر معدل نموها بنسبة 4,6 في المئة. وقد تراجع نمو القطاع النفطي بسبب سياسات خفض الإنتاج المتفق عليها بين دول الـ"أوبك" والدول النفطية الرئيسة الأخرى في نادي "أوبك بلاس". كما أن السعودية اعتمدت خفوضات طوعية إضافية.

لا شك أن الإمارات عملت على تطوير الخدمات اللوجستية مثل الموانئ، مما عزز مكانتها في إدارة الموانئ على المستوى الدولي، وساهم في الارتقاء بأعمال التجارة الخارجية. إلا أن الإمارات تواجه مشكلة ديمغرافية

مثل قطاع السياحة تطورا مهما في الاقتصاد السعودي حيث بلغ عدد الزوار خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024 نحو 17,5 مليون شخص، أي بنمو بنسبة 10 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023. في طبيعة الحال، تمثل زيارات الحج والعمرة جزءا مهما من هذه الأعداد، ولكن هناك تحولات في الواقع الاجتماعي والترفيهي في البلاد بما يحفز إقبال أعداد كبيرة من مواطني دول الخليج الأخرى للمشاركة في فاعليات الفنون والرياضة والتسوق في مدن عديدة، منها الرياض وجدة والدمام. ولا بد أن يساهم تمكين المستثمرين الأجانب من الاستثمار المباشر والعمل مع شركاء سعوديين في قطاع السياحة، أو قطاع الخدمات العلاجية، أو أعمال الصناعات التحويلية أو التعدين، في الارتقاء بإمكانات القطاعات غير النفطية في البلاد.

الامارات: خدمات لوجستية وسياحية رفيعة

تجتهد دول الخليج الأخرى كل بحسب امكاناتها وعزيمتها من أجل إنجاز استراتيجيا التنوع. تمكنت الإمارات من تحقيق نتائج مميزة حيث حققت القطاعات غير النفطية معدل نمو بنسبة 4,1 في المئة في عام 2024، بما يرفع معدل النمو الشامل إلى 3,1 في المئة.

أ.ف.ب.
باخرة سياحية إيطالية خلال مرورها بمدينة دبي، 4 يناير 2025

وتعتبر السياحة وقطاع العقار والانشاءات كأهم القطاعات غير النفطية. وقدرت منظمة السياحة العالمية أن تكون مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي قد بلغت 236 مليار درهم أو 64 مليار دولار في عام 2024. وكانت بيانات وزارة السياحة في الإمارات أشارت إلى أن القطاع رفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 12 في المئة.

لا شك أن الإمارات عملت على تطوير الخدمات اللوجستية مثل الموانئ، مما عزز مكانتها في إدارة الموانئ على المستوى الدولي، وساهم في الارتقاء بأعمال التجارة الخارجية. إلا أن الإمارات تواجه مشكلة ديمغرافية، حيث لا تزيد نسبة المواطنين من العدد الإجمالي للسكان على 10 في المئة.

تعتمد قطر على النفط والغاز، وقد تتحسن مساهمة الغاز خلال السنة الجارية بعد تشديد العقوبات على روسيا وعرقلة صادراتها من الغاز، مما يرفع الطلب على الغاز ومن ثم يحسن أسعاره

فيما بلغ عدد سكان الإمارات حاليا 11 مليون نسمة، منهم نحو مليون ومئة وخمسون ألفا من المواطنين، ولا يبدو أن هناك إمكانات متاحة لتغيير الواقع الديمغرافي على مدى السنوات المقبلة، كما أن السلطات في الإمارات تكيفت مع الوجود الكبير للعمالة الوافدة التي تعتمد عليها مختلف القطاعات الاقتصادية. وبالتالي، أصبح المجتمع الاستهلاكي يتكون من وافدين ومواطنين، وهم أيضا يعززون سوق العمل ويساهم الوافدون في إنجاز مختلف الأعمال ويتمتع الكثير منهم بمهارات متميزة لها أثر مهم في أعمال الشركات في مختلف الأنشطة.

قطر: الغاز وتطوير الصحة والتعليم

تبقى الظروف الاقتصادية التي تحكم الدول الخليجية الأخرى متباينة. استفادت قطر في عام 2022 من إقامة مباريات كأس العالم على أراضيها، وهي قد تستفيد من البنية التحتية التي استلزمتها تلك الفاعليات. وهناك المرافق والمنشآت السياحية والخدمية الأخرى. كما هو معلوم، تعتمد قطر على النفط والغاز، وقد تتحسن مساهمة الغاز خلال هذا العام بعد تشديد العقوبات على روسيا وعرقلة صادراتها من الغاز، مما يرفع الطلب على الغاز ومن ثم يحسن أسعاره. تتشابه الأوضاع الديمغرافية في قطر مع تلك القائمة في دولة الإمارات، لذلك يبقى الاعتماد على العمالة الوافدة هيكليا، وكلما توسعت البلاد في أنشطة جديدة صناعية أو خدمية، ترتفع الحاجة الى العمالة الوافدة.

رويترز

معلوم أن قطر عمدت على مدى السنوات المنصرمة إلى تطوير أنظمة الرعاية الصحية والتعليم، ولكن هل ستشهد البلاد تدفقا للزائرين للاستفادة من المستشفيات والعيادات المتخصصة، أو انفتاحا لقبول الطلبة الأجانب في المؤسسات الجامعية؟

اعتمدت قطر أيضا استراتيجيا لتطوير الصناعات التحويلية خلال الفترة من 2024 إلى 2030، ورفع مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي. أشار مكتب التواصل الحكومي في قطر إلى رفع القيمة المضافة للقطاع إلى 70,5 مليار ريال قطري أو 19,3 مليار دولار، وزيادة الصادرات غير النفطية والغازية إلى 49 مليار ريال أو 13,4 مليار دولار سنويا. يضاف إلى ذلك تعزيز الاستثمارات الصناعية لتصل إلى 2,75 مليار ريال أو 750 مليون دولار في 2030.

البحرين: اقتصاد المصارف الخدمات

أما البحرين فتعتمد على النفط مثل بقية دول الخليج ولكن إيراداتها أقل بكثير من إيرادات النفط في تلك الدول. عمدت البحرين إلى تطوير اقتصاد خدمات وصناعات تحويلية محدودة منذ عقود طويلة. أهم الصناعات التحويلية في البلاد هي صناعة الألمنيوم حيث تنتج البحرين 2 في المئة من إنتاج العالم وتملك ثاني أكبر مصهر للألمنيوم في العالم.

بلغت مساهمة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي العماني 4,09 مليارات ريال عماني أو 10,6 مليارات دولار في عام 2024

مازن بن حميد السيابي، المدير العام المساعد للصناعة في وزارة التجارة والصناعة العُمانية

وقد بدأت الأعمال الصناعية الخاصة بالألمنيوم في البحرين منذ عام 1971، وتبلغ الطاقة الإنتاجية في الوقت الحاضر 1,5 مليون طن متري سنويا. لكن هناك أنشطة أخرى في البحرين تتمثل في الخدمات المصرفية التي انتعشت عندما أفسح المجال أمام مصارف الأفشور في ثمانينات القرن الماضي.

غيتي
مصانع الألمنيوم في مدينة رأس الخير الصناعية، شرق السعودية 23 نوفمبر 2016

وعززت البحرين أيضا نشاط المؤسسات المصرفية الإسلامية التي ارتفعت قيمة موجوداتها الإجمالية من 1,9 مليار دولار في عام 2000 إلى 61,7 مليار دولار في عام 2024. هناك الأنشطة الخدمية الأخرى، أهمها خدمات الضيافة والسياحة، حيث ارتفع عدد الفنادق إلى 140 بموجب تصريح وزيرة السياحة في نهاية العام المنصرم. وتتمتع البحرين بالانفتاح الاجتماعي الذي يساهم في تحفيز المستثمرين على الاستثمار في هذا القطاع الحيوي للبلاد. كما أن القطاع يفسح المجال أمام توفير فرص عمل مفيدة للمواطنين الذين ينخرطون في مهن الفندقة منذ عقود طويلة.

سلطنة عمان: السياحة واعدة... والصناعة كذلك

تتشابه أوضاع سلطنة عُمان بأوضاع البحرين من حيث توفر العمالة الوطنية والانفتاح الاجتماعي وأهمية تطوير القطاعات غير النفطية. يعد قطاع السياحة في عمان من القطاعات الواعدة حيث ذكر وزير التراث والسياحة سالم المحروقي أن البلاد تفسح المجال لزيارة مواطني مختلف دول العالم. أما الصناعات التحويلية فقد بلغت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي 4,09 مليارات ريال عماني أو 10,6 مليارات دولار في عام 2024، كما ذكر المدير العام المساعد للصناعة في وزارة التجارة والصناعة العُمانية مازن بن حميد السيابي. وبذلك، تساهم الصناعات التحويلية بنسبة 10,5 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي. لا شك أن عُمان تملك إمكانات اقتصادية أخرى في قطاع الإنشاءات والقطاع المصرفي والتجارة الخارجية.

الكويت: دعوات الى الانفتاح والاستثمار في الفنادق

أكدت الكويت في نهاية عام 2024 إمكانات تحقيق تنويع اقتصادي بعد عقد دورة الخليج لكرة القدم. استضافت البلاد، بالإضافة إلى فرق كرة القدم من دول الخليج واليمن والعراق، الآلاف من الجماهير الكروية المصاحبة لفرقها. مثل هؤلاء تدفقا سياحيا غير مسبوق وازدهرت الأسواق. كما ارتفعت نسبة الإشغال في الفنادق، بل اتضح أن هناك عجزا كبيرا في عدد الغرف الفندقية في المنشآت التقليدية أو في الشقق السياحية، وقد اضطر عدد من الكويتيين لاستضافة عدد من الزائرين في دواوينهم. يشير المراقبون إلى أن الإنفاق الاستهلاكي للزائرين بلغ 61 مليون دينار كويتي أو 198 مليون دولار خلال فترة الدورة التي امتدت لثلاثة أسابيع. دفعت هذه النتائج إلى ارتفاع عدد المطالبين بالانفتاح والسماح للضيوف من مختلف الدول بزيارة البلاد وتعزيز الاستهلاك المحلي. ربما تؤدي هذه النتائج الطيبة لدورة الخليج إلى زيادة الاستثمار في الوحدات الفندقية والمنتجعات بما يفضي إلى رفع مساهمة السياحة المحلية في الناتج المحلي الإجمالي.

مهما يكن من أمر، تملك دول الخليج قدرات للتوسع في الاستثمار في مختلف القطاعات غير النفطية وتحسين مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي وتعزيز قدرة هذه الأنشطة على توفير فرص عمل ملائمة للعمالة الوطنية كلما كان ذلك متاحا. الأمل معقود أيضا، على تنسيق عمليات تطوير هذه الأنشطة بين دول الخليج بما يمكن من تأكيد الجدوى الاقتصادية.

font change