نهاية الحرب في أوكرانيا بين طموحات بوتين ورغبات ترمب

على "سيد الكرملين" الاختيار بين كورسك ودونباس وبين مقعد بلاده كقوة عظمى مع الولايات المتحدة

أ ف ب
أ ف ب
امرأة مسنة تمسح دموعها أمام نصب تذكاري مؤقت للمقاتلين الأوكرانيين والأجانب الذين سقطوا، في ساحة الاستقلال بكييف، في 16 مارس 2025، في خضم الغزو الروسي لأوكرانيا

نهاية الحرب في أوكرانيا بين طموحات بوتين ورغبات ترمب

في محاولة لكسب الوقت من دون إغضاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أطلقت روسيا جملة من التصريحات الموافقة على مبدأ الهدنة لكنها غلفت اشتراطاتها بطرح أسئلة تحتاج إلى مفاوضات إضافية ربما تتطلب حسما من رئيسي البلدين.

وبعد لقاء الرئيس فلاديمير بوتين مع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، يوم الجمعة الماضي، إن "بوتين يدعم موقف ترمب تجاه التسوية في أوكرانيا، لكنه طرح أسئلة تحتاج إلى إجابات بمشاركة الجانبين"، مشيرا إلى تفاهم الطرفين الروسي والأميركي على أن "الاتصالات المباشرة بين بوتين وترمب ضرورية". وذكر بيسكوف أن بوتين حمل المبعوث الأميركي رسالة إلى الرئيس ترمب تضمنت "إشارات إلى النقاط التي تحتاج لعمل مشترك من أجل إنجاح اقتراح الهدنة" في أوكرانيا.

ورأى بيسكوف أن "التفاؤل الحذر الذي أبدته الولايات المتحدة حيال ملف التسوية الأوكرانية مبرر بعد تصريحات الرئيس بوتين" يوم الخميس الماضي.

وفي المقابل قال الرئيس الأميركي، الجمعة، في منشور على منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال": "أجرينا نقاشات جيدة ومثمرة للغاية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهناك احتمال كبير جدا أن تنتهي هذه الحرب الدموية الرهيبة أخيرا".

رغم الرد الملتبس للرئيس بوتين على اقتراح وقف إطلاق النار لمدة ثلاثين يوما، حافظ الرئيس ترمب على تفاؤله الحذر وأحجم عن إطلاق أي تهديدات بحق روسيا في حال رفض الخطة.

وقال الرئيس بوتين، يوم الخميس الماضي، إن روسيا توافق على المقترحات الأميركية لوقف القتال، مستدركا أن أي وقف لإطلاق النار يجب أن يؤدي إلى سلام دائم، وأن يعالج جذور الصراع.

وقبيل لقائه مع المبعوث الأميركي ويتكوف، ذكر بوتين في مؤتمر صحافي مع نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في موسكو أن بلاده "تؤيد" الهدنة التي اقترحتها واشنطن في أوكرانيا، لكن هناك "خلافات دقيقة وأسئلة جدية" ما زالت عالقة. وتساءل الرئيس الروسي: "كيف يمكننا ضمان عدم تكرار مثل هذا الوضع؟ كيف سيتم تنظيم عملية المراقبة؟ (...) هذه أسئلة جدية"، مشيرا إلى وجود حاجة للتحدث مع الأميركيين وربما الاتصال بالرئيس ترمب.

وخلص بوتين إلى أن "هناك عددا من النقاط الدقيقة التي تجب مراعاتها" لإنجاح الهدنة، أولها الحصول على ضمانات أميركية بمراقبة سلوك أوكرانيا خلال الهدنة بهدف عدم تسريع وتائر استغلال المهلة لإعادة التسليح وتنظيم الجيش. والثانية تتعلق بضمان أن تكون الهدنة مرتبطة بإطلاق مفاوضات الحل النهائي بشكل يعالج الأسباب الجذرية للصراع، والثالث استسلام القوات الأوكرانية التي ما زالت تسيطر على أجزاء من مقاطعة كورسك الروسية.

بعد السجال غير المسبوق في البيت الأبيض بين زيلينسكي وترمب، بدا أن أوكرانيا وافقت على خطة ترمب للتسوية، وتنازلت عن قضايا كثيرة من أهمها الحصول على ضمانات أمنية قبل التوقيع على وقف إطلاق النار

واعتبر الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، أن نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، أدلى بتصريح "واعد للغاية" بشأن وقف محتمل لإطلاق النار في أوكرانيا، لكنه أضاف أنه لم يكن "كاملا". وأكد ترمب استعداده لقاء بوتين أو الاتصال به للانتهاء من موضوع الهدنة سريعا.

ورأى ترمب أن رفض روسيا المقترح الذي تقدمت به واشنطن ووافقت عليه كييف لهدنة من 30 يوما في حرب أوكرانيا، سيكون "لحظة تثير للغاية خيبة أمل العالم".

وفي حين تضافرت الضغوط الأميركية، والانهيار شبه الكامل للجيش الأوكراني في جبهة كورسك، والتراجع في دونباس، لإجبار كييف على تقديم تنازلات مهمة لإدارة ترمب لإنهاء الحرب، تتريث موسكو في الرد على مقترح الهدنة. وكشفت تصريحات المسؤولين الروس توجها نحو التشدد وعدم تقديم تنازلات كبيرة عن الأهداف المعلنة للحرب قبل نحو ثلاث سنوات، والإصرار على حل الأسباب الجذرية للصراع في أوكرانيا، ومناقشة قضية الضمانات الأمنية وعدم استغلال فرصة الهدنة من أجل تمكين أوكرانيا من التقاط أنفاسها، وعدم السماح بحصول كييف على أسلحة جديدة. وفي المقابل بدا واضحا حرص موسكو على عدم الظهور كطرف معطل لوقف الحرب والتوصل إلى تسوية سياسية، والـتأثير سلبا في مسار تطبيع العلاقات المتسارع مع إدارة ترمب عقب الاتصال الهاتفي بين الرئيسين بوتين وترمب ونتائج اجتماعات الرياض بين كبار مسؤولي البلدين في الشهر الماضي.

رويترز رويترز
فولوديمير زيلينسكي خلال مؤتمر صحفي في كييف، أوكرانيا، 12 مارس 2025

وفي رسالة ذات مغزى، ظهر الرئيس بوتين يوم الأربعاء الماضي، مرتديا البزة العسكرية للمرة الثانية منذ بداية الحرب، والأولى في كورسك منذ الهجوم الأوكراني الواسع على المقاطعة. وشدد بوتين على ضرورة الانتهاء سريعا من تحرير كامل أراضي المقاطعة، والتفكير في بناء منطقة آمنة لحماية المدنيين الروس في إشارة إلى ضرورة احتلال شريط في مقاطعة سومي الأوكرانية يحاكي المنطقة الآمنة التي شرعت روسيا في تشكيلها منذ أكثر من سنة في مقاطعة خاركييف ردا على الهجمات على مدينة بلغورود الروسية. وجاءت زيارة بوتين وتصريحاته في كورسك، بعد ساعات من توصل المفاوضين الأميركيين مع نظرائهم الأوكرانيين إلى اتفاق أهم بنوده إقرار هدنة لثلاثين يوما، ما بعث رسالة بأن روسيا ماضية في تحقيق أهداف حربها في أوكرانيا بكل السبل ومن ضمنها العسكرية في حال عدم تلبية مطالبها على طاولة المفاوضات. 

رضوخ أوكراني

وفي نهاية الاجتماع الأول بين مسؤولين أميركيين وأوكرانيين بعد السجال غير المسبوق في البيت الأبيض بين زيلينسكي وترمب، بدا أن أوكرانيا وافقت على خطة فريق ترمب للتسوية، وتنازلت عن قضايا كثيرة من أهمها الحصول على ضمانات أمنية فعالة قبل التوقيع على وقف إطلاق النار، وربما أجبرت الأوضاع الميدانية فريق التفاوض الأوكراني على قبول وقف شامل لإطلاق النار لمدة ثلاثين يوما في البر والبحر والجو بدلا من مقترح زيلينسكي بوقف الهجمات البرية والجوية فقط. ومن غير المستبعد أن أوكرانيا وافقت على الهدنة لقناعة بأن روسيا لن توافق على الخطة وبالتالي توجيه الضغوط الأميركية نحو الكرملين. والأرجح أن أوكرانيا تدرك تماما أن أوروبا غير قادرة على تأمين الدعم العسكري اللازم لها لاستمرار الحرب. وبعد الخسارات الكبيرة في كورسك ودونباس، ربما راهنت كييف على وقف الانهيارات ورفع معنويات جنودها نتيجة الاتفاق مع واشنطن في جدة، على أن "الولايات المتحدة ترفع فورا وقف تبادل المعلومات الاستخباراتية وتستأنف المساعدة الأمنية لأوكرانيا".

يبدو أن روسيا تواجه معضلة في الجمع بين الرغبة في المحافظة على وتيرة التنسيق الجيد مع واشنطن، وعدم الظهور كطرف معطل لنوايا ترمب في إنهاء الحروب

وبدا واضحا نأي الولايات المتحدة عن فكرة قوات السلام الأوروبية بعد رفض موسكو القاطع لها. ومن جهة أخرى فإن المفاوضين الأميركيين أقنعوا نظراءهم الأوكرانيين بأن توقيع اتفاقية المعادن النادرة توفر نوعا من الضمانات المطلوبة لمنع أي غزو روسي مستقبلي.

ومن المهم أن البيان تحاشى البت في مصير قرابة 20 في المئة من أراضي أوكرانيا التي تحتلها روسيا.

شريك التانغو  والخطوط الحمراء

تزامنا مع هبوط طائرة ويتكوف في موسكو، أعلنت وزارة الدفاع الروسية السيطرة على مدينة سودجا في مقاطعة كورسك، وتمهد هذه السيطرة لإخراج أوكرانيا من كامل الأراضي الروسية، وفقدانها ورقة كانت تراهن عليها في أي مفاوضات سلام إضافية.  

وبعد الاتفاق مع أوكرانيا، قال ترمب إنه يأمل أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام وأنه سيتحدث مع بوتين هذا الأسبوع لكن "رقصة التانغو تحتاج لشخصين".  وفي وقت سابق قال إنه يجد التعامل مع روسيا "أسهل" من التعامل مع أوكرانيا في إطار الجهود الرامية إلى إنهاء الأزمة، وإنه يثق في بوتين.

أ ف ب أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتحدث للصحافة عن الصراع في أوكرانيا قبل صعوده إلى طائرة الرئاسة في قاعدة أندروز الجوية في 14 مارس 2025 في ماريلاند

وبعد توصل كييف وواشنطن إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار في أوكرانيا، أعاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، التذكير بموقف بلاده الرافض لنشر قوة حفظ سلام من حلف "الناتو" في أوكرانيا، وأشار إلى أنه "إذا كان توسيع (الناتو) يُعترف به، على الأقل من قبل ترمب، كإحدى الأسباب الجوهرية للنزاع، فإن وجود قوات (الناتو) على الأراضي الأوكرانية، تحت أي راية وبأي صفة، يُعد تهديدا مماثلا بالنسبة لنا".

وشدد كونستانتين كوساتشوف نائب رئيس مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي، على أن بلاده، عكس أوكرانيا، لن تقدم تنازلات للولايات المتحدة في المفاوضات. وقال: "أي اتفاق (مع تفهّم ضرورة إيجاد تسويات) سيكون وفقا لشروطنا، وليس وفقا للشروط الأميركية... الاتفاقات الحقيقية لا تزال تُكتب هناك، في ساحة المعركة، وهو ما يجب أن يفهموه في واشنطن".

وفي حين كشفت تصريحات المسؤوليين الأميركيين في الشهور الأخيرة عن تقارب كبير في الخطة الأميركية للتسوية مع  المطالب الروسية، وأهمها عدم انضمام أوكرانيا لـ"الناتو"، والقبول بخسارة جزء من الأراضي الأوكرانية، يبدو أن روسيا تواجه معضلة في الجمع بين الرغبة في المحافظة على وتيرة التنسيق الجيد مع واشنطن، وعدم الظهور كطرف معطل لنوايا ترمب في إنهاء الحروب من جهة، وتحقيق أهدافها الكاملة من الحرب المتواصلة منذ ثلاث سنوات.

على بوتين الاختيار بين كسب عدة قرى وبلدات أو استغلال الفرصة لكسب مقعد لبلاده كقوة عظمى مع الولايات المتحدة، ومواصلة العمل بطرق أخرى للسيطرة على "روسيا الصغرى" 

ولم تغير موسكو مواقفها عمليا منذ شهر يونيو/حزيران من العام الماضي والتي حددها الرئيس بوتين بالانطلاق من الواقع على الأرض والاعتراف بسيادة روسيا على أربع مناطق أوكرانية ضمتها في خريف 2022 وهي دونيتسك ولوهانسك وزاباروجيا وخيرسون، إضافة إلى إغلاق ملف سيطرة روسيا على القرم نهائيا. ومن الشروط الأخرى، شدد بوتين على حيادية أوكرانيا وعدم  جواز ضمها إلى حلف "الناتو"، ونزع أسلحة أوكرانيا وتحديد عدد جيشها، ومراعاة حقوق الناطقين باللغة الروسية في جنوب وشرق أوكرانيا، ونزع مظاهر النازية.

وفي ظل التقدم الروسي على الأرض، من المرجح أن يعمد الكرملين إلى كسب الوقت من أجل قضم مزيد من الأراضي الأوكرانية. ومع الحديث عن الضمانات، من المتوقع أن يجدد الكرملين عرض شروطه السابقة المطروحة في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2021 قبل نحو شهرين من الحرب بشأن الضمانات الأمنية وعودة "الناتو" إلى حدود 1997، وعدم نشر أي أسلحة أميركية في أوروبا تهدد الأراضي الروسية. ورغم طي صفحة الخلاف بين ترمب وزيلينسكي فالأرجح أن تواصل روسيا التشكيك في شرعية زيلينسكي وتطالب بتنظيم انتخابات رئاسية قبل التوقيع على أي اتفاق سلام دائم مع أوكرانيا. وفي حين يرى فريق واسع من المسؤولين الروس أن العقوبات ساهمت في تقوية الاقتصاد الروسي، فالأرجح أن قضية رفع العقوبات ستكون مطروحة على الطاولة.

رويترز رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يرأس اجتماعا مع أعضاء مجلس الأمن عبر رابط فيديو في مقر إقامة نوفو أوجاريوفو خارج موسكو، روسيا، 14 مارس 2025

وواضح أن سياسة الضغط الأقصى على أوكرانيا أثبتت قدرة ترمب على تحقيق اختراقات مهمة وتليين مواقف زيلينسكي، لكن من المستبعد أن يكون طريق ترمب سالكا بسهولة للاستمرار في مهمة "صانع السلام" من دون دعم بوتين الذي يشعر بفائض قوة، ويرغب في عودة بلاده قطبا عالميا إلى جوار الولايات المتحدة. وتكمن صعوبة مهمة ترمب في أنه لا يملك أوراق ضغط كافية على روسيا بما يتوافق مع استراتيجية "الإكراه" التي يمارسها مع الحلفاء، فواشنطن وحلفاؤها فرضوا أكثر من 21 ألف عقوبة على روسيا منذ 2014، ومنها أكثر من 6 آلاف في السنوات الثلاث الأخيرة، وينطلق ترمب من إنهاء الصراعات وعدم الدخول في أي حروب جديدة، وكان قد اتهم زيلينسكي في لقاء المكتب البيضاوي الشهير بأنه يقامر باندلاع حرب عالمية ثالثة. ومنذ أيام قال ترمب إن "الكرة الآن في ملعب روسيا"، وبانتظار الرد فإن على بوتين الاختيار بين كسب عدة قرى وبلدات في كورسك ودونباس أو استغلال الفرصة السانحة لكسب مقعد لبلاده كقوة عظمى مع الولايات المتحدة، ومواصلة العمل بطرق أخرى للسيطرة على "روسيا الصغرى" بعاصمتها كييف "أم المدن الروسية" كمنطقة نفوذ روسية خالصة.

font change

مقالات ذات صلة