مُصليات في غزة لرفع الأذان بدلا من المساجد التي دمرتها إسرائيل

تذرع الاسرائيليون بوجود مسلحين في المساجد من دون دليل

 أ ب
أ ب
فلسطينيون يؤدون صلاة الجمعة في شهر رمضان في مسجد الامام الشافعي الذي استهدفته الضربات الاسرائيلية في حي الزيتون في غزة في 7 مارس

مُصليات في غزة لرفع الأذان بدلا من المساجد التي دمرتها إسرائيل

منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في قطاع غزة منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، عكفت وزارة الأوقاف في القطاع، على تجهيز 400 مُصلى مؤقت في مخيمات النازحين بمختلف أماكن وجودها شمال وجنوب غزة، حيث صُنعت تلك المُصليات من الشوادر البلاستيكية والنايلون وبعض الحديد والأخشاب وذلك تعويضا عن المساجد التي دمرها الجيش الإسرائيلي خلال حرب الإبادة الجماعية والتي استمرت لقرابة 14 شهرا على التوالي وراح ضحيتها أكثر من 60 ألف ضحية، عدد منهم قُتل في استهدافات مباشرة للمساجد.

وفي الحروب والنزاعات، غالبا ما يلجأ المدنيون إلى دور العبادة سواء المساجد أو الكنائس أو غيرها من الأماكن الدينية، باعتبارها أماكن محمية بموجب القانون الدولي الإنساني الذي يمنع استهدافها ويعتبر ذلك في حال حدوثه "جريمة حرب". إلا أن ذلك لم يُطبق في غزة، حيث تسببت الحرب الإسرائيلية في تدمير 1109 مساجد من بينها 834 تدميرا كليا، بعضها مساجد أثرية عمرها مئات السنين، مثل الجامع العمري الكبير في البلدة القديمة بمدينة غزة، وذلك من أصل 1244 مسجدا في مجمل مدن ومناطق القطاع، حسب ما أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بغزة، إلى جانب استهداف ثلاث كنائس.

مع بداية الضربات الجوية الإسرائيلية المكثفة مساء السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، بعد ساعات من اقتحام عناصر من "كتائب القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس" الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، واقتحام المستوطنات واعتقال مستوطنين وجنود قبل اقتيادهم إلى غزة، اضطر المئات من العائلات الغزية القاطنين في المناطق الحدودية شرقا وشمالا، إلى ترك منازلهم والتوجه إلى منازل أقاربهم أو المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) في وسط وغرب مدن القطاع.

دمر الجيش أكثر من 150 مدرسة تابعة لـ"الأونروا" ما بين دمار كلي أو جزئي نتيجة القصف المباشر أو خلال عمليات الاقتحامات البرية، وقتل مئات المدنيين غالبيتهم نساء وأطفال

يقول عبد السلام المغني لـ"المجلة": "في كل حرب أو عدوان إسرائيلي، ولأن بيتنا أول بيت على حدود شرق غزة، بتم استهدافه والأراضي المحيطة، ولأن الحدث كان كبيرا، طلعنا في أسرع وقت من خوفنا على النساء والأطفال ومن ردة الفعل الإسرائيلية، وقررنا ننزح لمدرسة أنا وعشرات العائلات".

اختار الرجل وآخرون، النزوح إلى مدرسة تابعة للمنظمة الدولية "الأونروا" اعتقادا منهم أن الجيش الإسرائيلي يتجنب استهدافها لاعتبارات دولية، إلا أن الجيش أثبت عكس ذلك، حيث دمر الجيش أكثر من 150 مدرسة تابعة لـ"الأونروا" ما بين دمار كلي أو جزئي نتيجة القصف المباشر أو خلال عمليات الاقتحامات البرية، وقتل مئات المدنيين غالبيتهم نساء وأطفال خلال ذلك.

أ ف ب
فلسطينيون في محيط مسجد مدمر في مدينة غزة في التاسع من اكتوبر 2023

ومع استمرار الحرب، وإجبار الغزيين على النزوح المتكرر من مكان إلى مكان، كان المغني يتجنب النزوح وعائلته إلى المساجد، كما الكثيرين غيره ممن تحدثت "المجلة" إليهم، معللا ذلك باستهدافها من قبل الجيش الإسرائيلي في الهجمات العسكرية الإسرائيلية السابقة، ضاربا بعرض الحائط كافة القوانين الدولية وحجم الخسائر البشرية نتيجة قصف المساجد، قائلا المغني: "الاحتلال ما بتعامل مع المساجد إنها أماكن محصنة بموجب القانون، ولا يعمل أي اعتبارات للمدنيين والأطفال والنساء، بقصف وبعدين بلاقي مليون حجة لتبرير استهدافه، وما في حد وقف بوجهه سابقا وأكيد ما في إشي بمنعه من استهدافها، وهادة شفناه خلال الحرب".

قد يكون المغني، تحدث دون تجربة، لكن هناك من لهم تجارب النزوح إلى المساجد مثل إسماعيل حسن، وهو شاب من سكان شمال القطاع، اضطر إلى النزوح مع عائلته الكبيرة إلى مخيم النصيرات وسط القطاع في الأسابيع الأولى من عُمر الحرب. فقد لجأوا إلى منزل أنسبائهم الصغير، وبسبب ضيق المكان، تركوا النساء والأطفال في المنزل، بينما لجأ هو وأشقاؤه ووالده إلى النوم والإقامة في مسجد مجاور، يقول: "استخدمنا المسجد للنوم والصلاة والإقامة طول اليوم، ما في إشي نعمله غير متابعة القصف على أمل نرجع لبيوتنا، وكان هذا المكان الأنسب إلنا كشباب ورجال".

نفى مدير دائرة الإعلام بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بغزة أن تكون مساجد قطاع غزة تستخدم لأغراض عسكرية من قبل الفصائل والمنظمات الفلسطينية

مرت أسابيع على إقامتهم في المسجد، بينما كان الجيش الإسرائيلي قد استهدف عشرات المساجد في مناطق مختلفة "كان في خوف عنا طبعا من استهداف المسجد واحنا بداخله، لكن ما كان في مكان تاني، والخيمة مش مناسبة، عنا بنات وأطفال والفكرة كان صعب نتقبلها نقعد بالشارع للي رايح وإلي جاي"، يقول حسن.
في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وفي وضح النهار، قُصف المسجد فوق رؤوس النازحين بصاروخ من طائرة حربية ما تسبب في تدمير جزئي ومقتل 6 أفراد وإصابة العشرات، كان حسن من المصابين بينما شقيقه راح ضحية القصف، وادعى الجيش الإسرائيلي حينها، استهدافه تجمع قيادة وسيطرة تابعا لحركة "حماس"- التي قال إن أحد أهادفه الرئيسة في الحرب، القضاء عليها- داخل المسجد.
ونفى مدير دائرة الإعلام بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بغزة إكرامي المدلل، لـ"المجلة"، أن تكون مساجد قطاع غزة تستخدم لأغراض عسكرية من قبل الفصائل والمنظمات الفلسطينية وخاصة الإسلامية، قائلا: "وزارة الأوقاف كغيرها من المؤسسات الفلسطينية، مؤسسة مدنية بكل مؤسساتها ومرافقها ومن ضمنها المساجد، وجيش الاحتلال بالتأكيد عنده الكثير من المبررات للقيام بهذا الدور الكبير والمخجل أمام العالم".
وتابع: "الجيش تحدث عن ذرائع ومبررات في ظل تدمير المستشفيات التي دمرها ودمر المنظومة الصحية فوق رؤوس الأطباء والمرضى مثلها مثل المساجد، يوجِد مبررات ويسوق للرأي العام العالمي. ونؤكد أن وزارة الأوقاف دائما حاضرة في هذا الموضوع ونواجه الاحتلال الإسرائيلي أمام العالم كله، بإعطائنا دليلا واحدا في أي مسجد وأمام الرأي العام وعلى الملأ بوجود أي أعمال عسكرية داخله".
وكان الجيش الإسرائيلي قد نشر في عدة مرات بعد عملياته البرية صورا لأسلحة ومعدات قتالية، ادعى أنه وجدها داخل مساجد مختلفة، إلا أن ذلك لا يثبت بالدليل القاطع وجودها بداخله. وقد عبرت وزارة الأوقاف في غزة عن رفضها للادعاءات الإسرائيلية والتي من السهل فبركتها لتمرير أهدافه وتبرير تدمير المساجد المحمية وفق القانون الدولي الإنساني، مستغلا الاستثناء في القانون الذي يبيح استهداف دور العبادة "إذا كانت تستخدم لأغراض عسكرية".

فلسطينيون يتفدقون الدمار قرب مسجد احمد ياسين الذي دمره القصف الاسرائيلي في مدينة غزة في اكتوبر 2023 أ ف ب

وكانت وزارة الأوقاف في غزة، قد فتحت الكثير من المساجد في مختلف مناطق قطاع غزة، وبالتحديد في منطقة غرب مدينة دير البلح وسط القطاع، ومنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس والتي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق إنسانية آمنة منذ بداية الحرب، إلا أنه لم يتوان عن استمرار عمليات القصف والاستهداف في تلك المناطق والتي طالت مئات المنازل وخيام النازحين وحتى المساجد أو المُصليات في المدارس التي تحولت إلى مراكز لإيواء النازحين، بحسب ما قال المدلل.

الأوقاف أنشأت ائتلافا من شخصيات ومؤسسات دينية داخل وخارج قطاع غزة، بهدف العمل على جمع التبرعات وإعداد الخطط لإزالة الركام وإعادة إعمار المساجد

وأضاف: "تم استهداف عدد من تلك المساجد في المناطق الإنسانية وغيرها، رغم أننا طالبنا وناشدنا كافة المؤسسات الدولية وكل المعنيين بكل هذا الموضوع لكن للأسف كل هذه الجرائم تتم بغطاء دولي أميركي في ظل صمت معيب من كل المنظمات العالمية التي أكدت على حرية العبادة وضمان عدم استهداف أماكن ودور العبادة".

واستمر الجيش الإسرائيلي في استهداف وقصف المساجد والمُصليات، ما أجبر المئات من النازحين الغزيين على تجنب التوجه لها. إسماعيل حسن وبعد إصابته وفقدان شقيقه، قرر وعائلته الانتقال من منزل أنسبائهم الصغير والإقامة في خيمة بمنطقة المواصي غرب خانيونس، يقول: "كانت الإصابة بسيطة وشفيت، لكن بسبب اللي صار واستمرار الحرب، قرر والدي ترجع كامل الأسرة تجتمع في خيمة، وكل الوقت بِحكي، أنا مش حِمل أفقد حد تاني، لذلك قرر تجنب المنازل والمساجد واحتمال ظروف الخيمة نتيجة ما حدث معنا".

وتشرف حركة "حماس" على عمل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في قطاع غزة كما تشرف على كافة الوزارات المدنية منذ سيطرتها على الحكم في عام 2007، بعد أحداث دموية انتهت بانسحاب السلطة الفلسطينية إلى الضفة الغربية. إلا أن مدير الإعلام في الوزارة، قال إن إسرائيل استهدفت المساجد لأنها تعرف أهميتها ومكانة تعبيرها عن ثقافة الإنسان الفلسطيني وهويته... "الغزيون بفطرتهم متدينون وكذلك قريبون جدا من الشعائر الدينة وإقامة الصلوات بشكل كامل فالعدو يستهدف في كل عدوان المساجد لما تمثله من أهمية كبيرة للإنسان الفلسطيني".

ويرتكز عمل الأوقاف في الأساس على بناء وإنشاء المساجد والإشراف عليها، لكن نتيجة الهجمات العسكرية المتكررة واستهدف المساجد، أصبحت الوزارة تعتمد على توفير التمويل المالي لإعادة بنائها من قبل دول عربية وإسلامية ومتبرعين من الخارج. وعملت الوزارة مؤخرا بحسب ما قال المدلل، على البدء في تنفيذ خطط كانت قد عملت على إعدادها خلال الحرب، وذلك لتجهيز 400 مُصلى بديل عن المساجد التي دُمرت لرفع الأذان في مخيمات النزوح.

وأوضح، أن الأوقاف أنشأت ائتلافا من شخصيات ومؤسسات دينية داخل وخارج قطاع غزة، وذلك بهدف العمل على جمع التبرعات وإعداد الخطط لإزالة الركام وإعادة إعمار المساجد والمباني الدينية التابعة للوزارة، والتي تعرضت للتدمير خلال الحرب، حيث تُقدر خسائر الأوقاف في غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية بأكثر من 500 مليون دولار حسب المدلل.

font change