ثلاثية "ريفوبليكا" ليوسف فاضل... ملحمة الريف

قرن من المغرب وأبرز تحولاته السياسية والثقافية

ثلاثية "ريفوبليكا" ليوسف فاضل... ملحمة الريف

تنذر رواية "ريفوبليكا" (منشورات المتوسط) للكاتب المغربي يوسف فاضل، تخييلها لنزوع التشعبات السردية الكبرى، إذ ترصد تاريخ منطقة الريف المحتدمة، عبر ثلاثة أطوار زمنية مستعرة، تنتصب في الخلفية اللاهبة كحدود فاصلة لا محيد عن الرجوع إلى إرث مقاومتها لاستضاءة محصلة منعطفاتها الحادة، سياسيا واجتماعيا، وما يلازمهما من تناقضات اقتصادية محكومة بالتضييق الأشبه بعقاب جماعي من السلطة: الطور الأول: 1925، الطور الثاني: انتفاضة 1958، الطور الثالث: حراك 20 فبراير/ شباط 2011.

يجازف يوسف فاضل بالتسلل إلى هذه التخوم الملغومة، راسما الخرائط السرية للريفوبليكا بجسارة من جهة، ومن جهة خارقا لمسكوت شائك لم يستنطق روائيا كما ينبغي من ذي قبل، مراهنا على مسرب عائلة ميسور الجد، وبنصالح الابن والأب في آن، وسليمان - عبد المالك- خديجة- زهرة، الأحفاد.

الجزء الأول

تنطلق شرارة الحكاية بالخبر وحامله عبد الله، صديق العائلة وهو صاحب دكان بقالة، وفحوى الخبر العاجل رؤية ميسور في الميناء حيث كان يشتغل ابنه الراحل ميمون صانعا القوارب في ما سبق، وهو شقيق بنصالح المقرب. أمسى ميسور يختفي ولا يعود إلا بعد أيام، جامعا خردة يراكم نشازها في مرأب بالضيعة التي يلازمها بنصالح. وكمعظم حالات التحاقهم الجماعي بالمكان نفسه لتفقد حال ميسور الشارد (بنصالح والشرطي زوج خديجة، ثم هذه وأبناؤها الثلاثة وزهرة الحادسة دوما بحدوث الكوارث فضلا عن عبد المالك الصحافي في الجريدة المحلية "أخبار الحسيمة" دون نسيان أمهم فاطمة زوجة بنصالح) لا يجدون له أثرا كما هو متوقع.

يفضي الإمعان في اشتباكات الرواية، إلى الفصل في ثلاثة محكيات مركزية تتقاطع وفق نسق ميسمه التناغم لا التنافر

لميسور الذي تكالب على ذاكرته الخرف المبين، حكاية موشومة مع امرأة مثيرة هي ما يلازم تفكيره أنى استيقظ بصيص التذكر في سديم ذهنه واسمها روازنة. تستأثر بالحكي الموازي، المتشابك من الجيل الجديد، مسارات كل من ماريا أستاذة الثانوية القادمة إلى مدينة الحسيمة من مدينة وجدة وهي مطاردة من عشيقها السابق، الثري الغريب الأطوار المدعو زيان، فيما هي متأرجحة بين حبي الشقيقين لها، الصحافي المحلي عبد المالك، وسليمان المتورط مع الشاف حميدو في تجارة وتهريب الحشيش. سليمان الذي أعجب بماريا منذ لمح صورتها في ملصق لمسرحية هي من تشخص دور بطولتها، أما مخرج الفرقة وكاتب نصوصها بل المضطلع بإخراجها أيضا فهو العمراوي الذي يشتغل موظفا في مستودع الأموات، وأخيرا يعود ميسور بعد ثلاثة أيام بصحبة عربة ملؤها خردوات كالعادة.

ثلاثية "ريفوبليكا"

يفضي الإمعان في اشتباكات الرواية، إلى الفصل في ثلاثة محكيات مركزية تتقاطع وفق نسق ميسمه التناغم لا التنافر:

أولا: المحكي الذي يفرد حيزه الرئيس لحكاية ميسور مع روازنة، والعائد زمنيا إلى الانتفاضة ضد الاحتلال الإسباني، ربيع 1925.

في حرب الريف ضد الإسبان، اضطلع ميسور بمهمة الرقاص، أي حامل الرسائل الذي ألفى نفسه ذات منعطف يحمل رأسا مقطوعا بدل جراب الرسائل، وقد اقترن بالمتمردة روازنة بإيعاز من المقاوم المدعو العطار.

ثانيا: المحكي الذي يفرد حيزه الرئيس لحكاية المقاوم بنصالح مع زوجته فاطمة منذ انتفاضة 1958 ضد النظام المغربي: مع طرافة زواجه من فاطمة الأشبه بدعابة سوداء، كان يروم الارتباط بمليكة التي سمع غناءها على حافة الشلال، وزوجوه فاطمة بقدرة قادر لأنها ومليكة محض توأم، وبذا التبس عليه الأمر، ومع ذلك ظل ميله الجارف إلى مليكة دامغا.

 ثالثا: المحكي الراهن الذي يفرد حيزه الأكبر لأحداث 2011 المتزامنة مع ما يسمى بـ"الربيع العربي"، ويلمع في سماء بركانه كل من ماريا وصفاء وسليمان وعبد المالك مع عودة مظفرة لبنصالح وقد تجاوز السبعين، لتكون له بصمة دامغة في يوميات الحراك الصاخب.

في المقابل يستأنف بنصالح معركته المستميتة في سبيل استرجاع أراضي أبيه التي سطت عليها الدولة، فقد جرب أن يكون محاميا بعد أن كان معلما وانتهى به الأمر فلاحا يرقب السماء بعين المبتهل في انتظار مطر تحتاجه أرضه الجافة. وفي المجمل هو كما ترى زوجته فاطمة، فشل في أن يكون معلما ومحاميا وفلاحا، لأن الشيء الوحيد الذي يصلح له هو أن يثور، أن يكون دائما مع الانتفاضة، ولذا سيلتحق بحراك 20 فبراير وإن تجاوز عمره السبعين، كيف لا "وحياته مع الانتفاضة وتنتهي مع الانتفاضة، وما بينهما صحراء مجدبة، كانت هناك دائما، هذه الدودة التي تنخر كيانه، تعيش بين ضلوعه، تنام على رفوف المكتبة، تتجول بين الغرف، تأكل على نفس المائدة وتنام على نفس السرير، توقظه ليلا لتسرد عليه مناشير غير موجودة" ص317.

لا تنفك الرواية ترجع بالذاكرة من جديد إلى عام 1925 مستعيدة وقائع خروج ميسور للبحث عن المقاتلين الريفيين

يتضاعف منحى المفارقات مع اشتباك الوقائع المتسارعة، إذ تقدح الرياح نيران الرغبة في دم بنصالح تجاه مليكة، لحظة إجهاض فاطمة، بحضور مليكة في البيت والمستشفى. وفي المستشفى دائما يحصل على مسدس من طرف صديق طفولته الممرض عياش بعد أن خذله أو مكر به بائع السلاح المدعو البشير إثر اتفاق في الحانة المشرعة على الميناء المكتظ بالبوارج العسكرية الملكية هذه المرة وهي تستهدف المقاومين في الجبال. وبسبب وشاية السلاح فضلا عن اقترافه كتابة منشور ثوري، يلاحقه شخصان مجهولان، شرطيان في الغالب، أو ينتميان إلى ميليشيا حزب الاستقلال بالأحرى، فيعجل بدفن آلته الكاتبة تحت شجرة بمعية زوجته فاطمة.

shutterstock
تفاصيل معمارية مغربية تقليدية داخل مسجد

دم الإجهاض يوازيه دم شرايين زيان المفصد إثر انتحاره في عيد ميلاد ماريا 25، كأنما أهدى اليها دمه بدل الحلوى، وفي المقابل الصحافي عبد المالك يتزوج ماريا، وسليمان يدرك ذلك مسبقا فيجنح صوب صديقتها صفاء، ثم احتراق مخرج المسرحية المدعو العمراوي في وكالة بنكية اقتحمها يوم الحراك الشعبي مع أربعة من المتظاهرين.

الجزء الثاني

مثلما يدشن الفصل الأول وقائعه بخبر رصد ميسور الضائع في الميناء، يستهل الجزء الثاني وقائعه بخبر موت ميسور في مدينة وجدة إثر حادثة سير، إذ دهسته شاحنة، فيضطر جمع العائلة إلى السفر عاجلا إلى شرق المغرب بغية التعرف الى الجثة وجلبها من أجل الدفن في مدينة الحسيمة شمال المغرب. وحدها روازنة غير مكترثة بجنازة ميسور ومدفنه، ويقينها مطلق في أن الجثة ليست له. لا تنفك الرواية ترجع بالذاكرة من جديد إلى عام 1925 مستعيدة وقائع خروج ميسور للبحث عن المقاتلين الريفيين، وفي الآن ذاته بحثا عن روازنة التي اختفت إثر الهجوم على البرج في منطقة أمجوط. وفيما الحرب طاحنة في طريق فاس، يعثر عليها ميسور في معسكر الأسيرات بتاغزوت، ثم تتقدم الرواية مرة أخرى إلى 2011 عبر آلية توصيف حيرة واضطراب مايا من غموض زواجها بعبد المالك الذي يبدو لها بغير ما سبب منطقي، وينحو بها قلق التفكير إلى الرغبة السوداوية في التخلص من الجنين المتفاقم في رحمها، حتى أن شبح زيان لا يزال يطاردها وإن بعد مماته انتحارا، بتزامن مع محاولة الشرطي عمر إقناع العائلة بالصفقة المقترحة من طرف المحامي المدعو المصمودي كيما يبيع الأراضي بمليار ونصف مليار، ويتضح أن الشرطي له نسبة أرباح سرية في ما بينه وبين المصمودي، 10 في المائة، بينما يعارض بنصالح الصفقة صارخا بأن الأرض ليست للبيع، بل إن صاحبها ميسور لا يزال على قيد الحياة وفق ما تعتقده روازنة وقد يعود في أي لحظة.

توهم الرواية بأجزائها الثلاثة أنها ذات هوية سياسية في المقام الأول، ثم شبه تاريخية أو تسجيلية في المقام الثاني، ولكنها ليست تلك ولا هذه

تفرد الرواية فصلا لصداقة بنصالح مع الممرض عياش ودورهما في انتفاضة 1958، مؤرخة بتفصيل لهجوم الطائرات على سوق الخميس، إذ يلقى عياش حتفه، وكذا يستوفي السرد منعطف عملية الاستفتاء للتصويت على تعديل الدستور بتأثير من حراك 20 فبراير، فضلا عن بدء كرنفال الانتخابات الموالي لعيد الأضحى.

ثلاثية "ريفوبليكا"

الجزء الثالث

ومثلما يبدأ الجزء الثاني بخبر العثور على جثة ميسور، يستهل الجزء الثالث وقائعه بقدوم ناقلة الموتى إلى بيت بنصالح، حاملة جثة ميسور الأخرى، وبذا يصير له قبران بدل واحد، وبينهما سيكون مدفن روازنة. وتفضي المصائر السوداء إلى هروب المحامي بمال الصفقة، بينما يتمزع الشرطي غيظا بسبب اكتفائه ب10 في المائة وليس أكثر، في حين ينشغل مدير الجريدة المحلية بالانتخابات مطالبا الصحافي عبد المالك بالكتابة عن شغب ملاعب كرة القدم بدل أن يكتب عن الفساد، وتسوء أحواله أكثر باقتحام أستاذ الرياضة حياته مع ماريا العائدة إلى وجدة. وهكذا دواليك.

لا ملحمية دون محلية

توهم الرواية بأجزائها الثلاثة أنها ذات هوية سياسية في المقام الأول، ثم شبه تاريخية أو تسجيلية في المقام الثاني، ولكنها ليست تلك ولا هذه، بالرغم من استنادها إلى التاريخ تخييلا، واشتغالها على الإرث السياسي لمنطقة الريف، احتكاما إلى حربها ضد الاسبان وفرنسا، وإلى انتفاضتها تلو الأخرى ضد السلطة بعد الاستقلال، وكلا الخلفيتين السرديتين بمثابة أرضية استيهامية للرواية، إذ محكي العائلة في العمق يشمخ وارفا ومتشعبا ليتخصب رواية فعلية/ داخل رواية مفترضة، رواية التخييل الشمولي/ داخل رواية التوثيق الخطي الواقعي، رواية استغوار الأزمنة الثلاثة ذات التركيب والتعقيد المحكمين/ داخل رواية السيرة الجماعية لجرح المكان وقدريته السوداء، رواية الإمساك بالمنفلت في معمعان الريف الهادر/ داخل رواية كتابة العالم المنسي والمقصي، رواية التقلبات الأكروباتية للحب وأقداره الساخرة/ داخل رواية الحرب والموت بأقدارهما التراجيدية، رواية المسرح في أبسط متطلباته الفنية والمادية الممتنعة/ داخل رواية فن الكتابة في أبدع متطلباتها الواقعية والتجريبية في آن، رواية اشتباك الأجيال على طول فراسخ قرن من الزمن/ داخل رواية  قرن من عزلة الريف المزمنة، رواية هندسة خرائط عقدة المنطقة عن بكرة تاريخها/ داخل رواية الهامش ضد سلطة المركز، رواية النزوع الإنساني الملحمي/ داخل رواية النزوع المحلي.

برهان "ريفوبليكا" ذات السقوف الثلاثية العالية، يعزز يوسف فاضل ثراء منجزه الروائي النوعي باقتدار الكتاب الأحقاق، إذ يغادر متخيل الدار البيضاء مرة أخرى إلى متخيل مغاير يفاجئ به قارئه على نحو لافت ومريب، وفي تسلله الجسور إلى منطقة الريف لا يخذل المترقب على حافة الانتظار إذ يعود مظفرا بالتفاح الذهبي من أرض المخاطرة الزلقة.

font change