تصعب مشاهدة فيلم والتر سالس الأخير "ما زلت هنا" I’m Still Here الفائز بأوسكار أفضل فيلم دولي، بوصفه وثيقة تاريخية فحسب، وإن كان مضى على الأحداث التي يصوّرها نصف قرن ونيف. عالم الليبيرالية المتوحشة في 2025 يبدو من نواح عدة مختلفا جذريا عن عالم الحرب الباردة في سبعينات القرن الماضي. إلا أننا ونحن نشاهد أحد أقوى النتاجات الفنية في السنوات الأخيرة التي تتناول حقبة حكم عسكري/ ديكتاتوري، وما رافقها من ممارسات الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري والقتل، ضد المعارضين أو المخالفين السياسيين وعائلاتهم، ولا سيما التي شهدتها أميركا اللاتينية بإشراف الاستخبارات الأميركية بذريعة محاربة الشيوعية، فإننا لا نفعل ذلك بحسّ استعادي بارد، فاليمين الشعبوي المتطرف، وصفة الديكتاتورية المثالية، يطل برأسه من جديد في العالم بأسره، مع ما يثيره ذلك من مخاوف جدية على الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان.
الماضي حاضرا
في المنطقة العربية، غير البعيدة عن التحولات العالمية الأخيرة، تبرز أمثلة عدة: الأول في مرحلة سوريا ما بعد الأسد، وانفتاح السؤال الكبير حول مصير آلاف المعتقلين والمختفين قسرا، خلال حكم الأسد الأب ثم الابن، دون إغفال ما تشهده الحقبة الراهنة من انتهاكات لا يُعرف بعد مداها الكامل، والثاني في غزة والضفة الغربية، حيث هناك منذ بدء الحرب على غزة، آلاف المعتقلين الفلسطينيين الذين لا يعرف مصيرهم، ومنهم من قتل خلال الاعتقال، والثالث في السودان الذي لا يزال يعاني من إرث العقود الماضي.
في لبنان انتشرت أخيرا، شائعة سرعان ما كذبتها السلطات، عن العثور على مقبرة جماعية في منطقة الكرنتينا في بيروت، حيث يُعتقد أنه دفن ما لا يقل عن ألف شخص قتلوا عام 1976، في ذروة الحرب الأهلية. الأمل بنهاية لهذا الفصل المؤلم في حياة عشرات العائلات اللبنانية والفلسطينية ممن لديهم أقارب اختفوا خلال تلك الفترة، يشبه أمل السوريين باكتشاف مصير الآلاف من المختفين بعد سقوط نظام بشار الأسد وتحرير المعتقلين من سجن صيدنايا السيئ الصيت وغيره. وفي الحالين لا يزال الجرح مفتوحا، إلا أن مثل هذه الأحداث هي بمثابة تذكار بقضية تميل الدول والمجتمعات أحيانا إلى إغفالها، إما عجزا عن حلها، وإما رغبة في عدم فتح الملفات القديمة، مع ما قد يعنيه ذلك من ارتدادات على المشهد السياسي والاجتماعي الراهن. فجأة (تلك الكلمة المخاتلة)، يتنبه الناس إلى أن هناك شركاء لهم في الوطن، يقبعون منذ سنوات أو حتى عقود، في منطقة الانتظار المضنية تلك. المختفي قسرا، بالتعريف القانوني، ليس حيا ولا ميتا، قبل العثور على دليل يؤكد أيا من الاحتمالين.