إسرائيل تغلي وكأنها على مرجل متقد، فبعد ما يقارب من سنة ونصف من الحرب الممتدة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وأهله، تعود إسرائيل إلى "وضعها العادي"، وضعها الذي يعود به نتنياهو إلى تمرير خطته الاستراتيجية لتغيير إسرائيل، داخليا وخارجيا، بما في ذلك التعامل الفظ والفظيع مع الفلسطينيين، واستمرار محاولة محو حقوقهم الوطنية في وطنهم فلسطين.
بعد إجبار نتنياهو من قبل ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، على القبول بالهدنة في مرحلتها الأولى، بما شملته من وقف إطلاق النار، وانسحاب جزئي في أرض المعركة، والسماح لأهل شمال غزة بالعودة إلى أحيائهم المهدمة، وتبادل الأسرى الإسرائيليين بالأسرى والسجناء الأمنيين الفلسطينيين، تلقف بعض المراقبين ذلك باعتباره بداية النهاية لنتنياهو وحكومته، وعلى أن نتنياهو سوف يقاد لوقف دائم لإطلاق النار، وخصوصا بعد تسليمه بانسحاب العنصري إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة.
طبعا لم يحسب البعض، بأن نتنياهو كان بحاجة إلى هذه الفترة من الوقف المؤقت للحرب، وإنجاز إعادة جزء كبير من الأسرى الإسرائيليين في غزة، والأهم أنه كان بحاجة إلى التصالح مع سيد البيت الأبيض الجديد، والذي اتهمه سابقا بمهادنة الرئيس السابق جو بايدن، عندما بعث له برسالة تهنئة بمناسبة انتخابه عام 2020. كان بحاجة أن يتجاوب جزئيا مع ترمب، ليعيده إلى الدعم الكامل لما يريده نتنياهو وحكومته، داخليا وخارجيا، وهكذا حصل. لقد أثبت نتنياهو مرة أخرى لمن شكك في قدرته، أن الهدنة مع غزة، هي مرحلة لتحضير الانطلاق مرة أخرى في مشروعه للقضاء على تطلعات الفلسطينيين من جهة، وتمتين التغيير المنشود داخليا، في إسرائيل.
الولايات المتحدة هي التي تضغط على الدول العربية للتصالح مع إسرائيل، وعدم الانسحاب من علاقاتها معها، وحتى تمتين هذه العلاقات. فهي الوسيط الضاغط، لتسهيل مهمات إسرائيل فلسطينيا ولبنانيا وعلى مستوى المنطقة، وهي التي تسهل التنسيق الأمني مع بعض الدول العربية، وهي التي تقنع بشأن التنسيق مع إسرائيل في قضية العلاقة مع إيران، وهي التي تتدخل لأجل إشغال النظام الجديد في سوريا في الخلافات الداخلية، وخصوصا مع قوات "قسد" الكردية، وهي التي تنسق مع تركيا هناك. أهم شيء هو أن الولايات المتحدة هي التي تتحكم في جزء مهم من المشهد اللبناني، وتضغط وتقنع بشأن التعامل مع الوجود العسكري في جنوب لبنان، وفي الضغط على "حزب الله" ولجم قدراته وتحجيمها، مقابل القوى الداعمة للرئيس عون، وللتوجه نحو التهدئة مع إسرائيل. في الشأن الفلسطيني الولايات المتحدة هي مفتاح رفع الضغط الدولي عن إسرائيل، ودعمها العسكري والدبلوماسي والاقتصادي لإسرائيل هو مركزي في تفسير استمرار إسرائيل في حربها ضد غزة والضفة، وباقي الجبهات على مستوى المنطقة.