هدنة غزة تزيد نتنياهو زخما للعودة إلى مشاريعه

فرصة لالتقاط الأنفاس والتحضير لمرحلة جديدة

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر صحفي مشترك في البيت الأبيض في واشنطن، الولايات المتحدة، 4 فبراير

هدنة غزة تزيد نتنياهو زخما للعودة إلى مشاريعه

إسرائيل تغلي وكأنها على مرجل متقد، فبعد ما يقارب من سنة ونصف من الحرب الممتدة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وأهله، تعود إسرائيل إلى "وضعها العادي"، وضعها الذي يعود به نتنياهو إلى تمرير خطته الاستراتيجية لتغيير إسرائيل، داخليا وخارجيا، بما في ذلك التعامل الفظ والفظيع مع الفلسطينيين، واستمرار محاولة محو حقوقهم الوطنية في وطنهم فلسطين.

بعد إجبار نتنياهو من قبل ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، على القبول بالهدنة في مرحلتها الأولى، بما شملته من وقف إطلاق النار، وانسحاب جزئي في أرض المعركة، والسماح لأهل شمال غزة بالعودة إلى أحيائهم المهدمة، وتبادل الأسرى الإسرائيليين بالأسرى والسجناء الأمنيين الفلسطينيين، تلقف بعض المراقبين ذلك باعتباره بداية النهاية لنتنياهو وحكومته، وعلى أن نتنياهو سوف يقاد لوقف دائم لإطلاق النار، وخصوصا بعد تسليمه بانسحاب العنصري إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة.

طبعا لم يحسب البعض، بأن نتنياهو كان بحاجة إلى هذه الفترة من الوقف المؤقت للحرب، وإنجاز إعادة جزء كبير من الأسرى الإسرائيليين في غزة، والأهم أنه كان بحاجة إلى التصالح مع سيد البيت الأبيض الجديد، والذي اتهمه سابقا بمهادنة الرئيس السابق جو بايدن، عندما بعث له برسالة تهنئة بمناسبة انتخابه عام 2020. كان بحاجة أن يتجاوب جزئيا مع ترمب، ليعيده إلى الدعم الكامل لما يريده نتنياهو وحكومته، داخليا وخارجيا، وهكذا حصل. لقد أثبت نتنياهو مرة أخرى لمن شكك في قدرته، أن الهدنة مع غزة، هي مرحلة لتحضير الانطلاق مرة أخرى في مشروعه للقضاء على تطلعات الفلسطينيين من جهة، وتمتين التغيير المنشود داخليا، في إسرائيل.

الولايات المتحدة هي التي تضغط على الدول العربية للتصالح مع إسرائيل، وعدم الانسحاب من علاقاتها معها، وحتى تمتين هذه العلاقات. فهي الوسيط الضاغط، لتسهيل مهمات إسرائيل فلسطينيا ولبنانيا وعلى مستوى المنطقة، وهي التي تسهل التنسيق الأمني مع بعض الدول العربية، وهي التي تقنع بشأن التنسيق مع إسرائيل في قضية العلاقة مع إيران، وهي التي تتدخل لأجل إشغال النظام الجديد في سوريا في الخلافات الداخلية، وخصوصا مع قوات "قسد" الكردية، وهي التي تنسق مع تركيا هناك. أهم شيء هو أن الولايات المتحدة هي التي تتحكم في جزء مهم من المشهد اللبناني، وتضغط وتقنع بشأن التعامل مع الوجود العسكري في جنوب لبنان، وفي الضغط على "حزب الله" ولجم قدراته وتحجيمها، مقابل القوى الداعمة للرئيس عون، وللتوجه نحو التهدئة مع إسرائيل. في الشأن الفلسطيني الولايات المتحدة هي مفتاح رفع الضغط الدولي عن إسرائيل، ودعمها العسكري والدبلوماسي والاقتصادي لإسرائيل هو مركزي في تفسير استمرار إسرائيل في حربها ضد غزة والضفة، وباقي الجبهات على مستوى المنطقة.

الولايات المتحدة هي الوسيط الضاغط لتسهيل مهمات إسرائيل فلسطينيا ولبنانيا وعلى مستوى المنطقة

الفرج الذي كان ينتظره نتنياهو

في علاقات إسرائيل مع الجوار العربي عموما، واللبناني والفلسطيني خصوصا، كما في التعامل مع  إيران، هنالك أهمية كبرى للدعم الأميركي. نتنياهو يدرك ذلك جيدا، وأزعجه خلال الحرب على غزة، بعض الملاحظات الهزيلة التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق بايدن، أو أعضاء في إدارته منتقدين لشكل إدارة إسرائيل للحرب في غزة، وانتظر الفرج الذي سيأتي مع انتخاب ترمب، وهكذا كان، فالرئيس الأميركي الجديد- القديم قدم لنتنياهو خدمة وقف إطلاق نار مؤقت، وإعادة غالبية الأسرى الإسرائيليين، وهدد غزة وأهلها بفتح "باب جهنم" عليهم، وخلال زيارة نتنياهو له، أعلن "خطته" لتهجير أهل غزة وبناء "ريفييرا الشرق الأوسط" في غزة، وهو داعم لضم أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، ويدعم استهدافها للفلسطينيين هناك، كما أعلن القطع التام مع "الأونروا" وأعلن موقفا يدين المحكمة الدولية وقراراتها، ومساعيها لتقديم نتنياهو ووزير أمنه السابق، وكل المتورطين في الجرائم ضد الغزيين إلى العدالة، وبعد إطلاق الخطة العربية لإعمار غزة، بادر لرفضها بالتنسيق الكامل مع الموقف الإسرائيلي.

أ ف ب
نتنياهو لدى وصوله الى ممر نتساريم في وسط قطاع غزة في 19 نوفمبر

ترمب يتبنى مواقف أكثر تطرفا حتى من نتنياهو نفسه، ويتبنى بعض مواقف اليمين الفاشي في إسرائيل، نتنياهو أمن حتى النقد البسيط من الطرف الأميركي، وحصل على دعم كامل لكل ما يتمناه ويريده، بما في ذلك قنابل وصواريخ، تستطيع أن تشكل أداة فعالة بيد إسرائيل، إذا نفذت هجوما على  إيران. الإنجاز الإسرائيلي بقيادة نتنياهو، هو يفوق بكثير ما كان يتصوره نتنياهو نفسه مع انتخاب ترمب قبل أشهر.

الاستمرار في مشاريع الضم والحرب في غزة، والسيطرة الكاملة على فلسطين، وإجبار الفلسطينيين على التسليم بوضع متدن، وبحكم ذاتي محدود، لا يتم إلا بإتمام التغييرات في نظام الحكم في إسرائيل، وإحكام السيطرة فيها على كل مراكز القوة واتخاذ القرار. نتنياهو استغل الهدنة لكي يستمر في معركته لأجل تغيير إسرائيل، والسيطرة نهائيا على كل مركبات القوة والقرار فيها. بعد عقد ونصف من وصوله الثاني للسلطة (وصوله الأول كان خلال الأعوام 1996-1999 عاد من المعارضة لرأس هرم السياسة في إسرائيل عام 2009)، أنجز نتنياهو تغييرات جذرية في إسرائيل، وانقلابات مركزية في الحيز العام في إسرائيل. قام منذ عام 2009 بتغييرات في الإعلام والثقافة، والمناهج والثقافة الشعبية، وتحويل المتدينين نهائيا إلى مركب مهم في يمين الخارطة السياسية، وفي رفد التوجهات الأكثر تدينا ومحافظة في الحيز العام، وإعادة تأهيل اليمين الكهاني الفاشي، ليكون جزءا من اليمين ومن ائتلاف نتنياهو، وفي إضعاف اليسار والوسط، وفي إضعاف مكانة المواطنين الفلسطينيين، وعشرات التغييرات الأخرى التي تضيق المساحة لشرحها كلها، باختصار قام بتغيير إسرائيل، وجعلها أكثر يمينية وشعبوية وعنصرية وعداء للفلسطينيين، وحتى لفئات إسرائيلية مناوئة له ولليمين عموما.

ترمب يتبنى مواقف أكثر تطرفا حتى من نتنياهو نفسه ويتبنى بعض مواقف اليمين الفاشي في إسرائيل

مع اعتلاء نتنياهو رئاسة الوزراء للمرة الثالثة في تاريخه، بعد انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تأكد نتنياهو وأعضاء مركزيون في حكومته بأن تغيير إسرائيل، وعلاقتها بالفلسطينيين بما في ذلك السيطرة الكاملة على "أرض إسرائيل" (فلسطين التاريخية) لا يتم إلا إذا سيطر نتنياهو واليمين على الجهاز القضائي بشكل تام وكامل، بما يشمل تعيين القضاة، والتحكم في قرارات المستشار القضائي للحكومة، وجعل المنصب تابعا للحكومة، لا مراقبا لها وضابطا لعملها، مع محاولة منع المحكمة العليا من نقض أي قوانين يبادر إليها اليمين الفاشي، أو تلك التي تسهل السيطرة نهائيا على الجهاز السياسي، والتحكم في مقاليد الأمور. كما فهم نتنياهو أن ذلك لا يتم إلا إذا أتم السيطرة الكاملة على اتخاذ القرارات في الأجهزة الأمنية، بما يشمل الجيش والشاباك والموساد.

كانت خطط نتنياهو بعد الانتخابات السابقة، قد بدأت بإعلان خطة "الانقلاب القضائي" من قبل وزير العدل ياريف ليفين في يناير/كانون الثاني 2023، مما أدى إلى صدام مع المعارضة الإسرائيلية، وبالأساس إلى خروج مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع، للاحتجاج على خطط نتنياهو. في بعض مراحل الاحتجاجات كان يبدو أن حكم نتنياهو يترنح، وأنه يقترب من النهاية، وخصوصا أن بعض مركبات الائتلاف، بقيادة حركة "شاس" الدينية، دفعت باتجاه إبطاء تنفيذ خطة الانقلاب القضائي، وقام وزير الأمن يواف غالانت، بالاحتجاج على الخطة، مما دفع نتنياهو لإقالته، ومن ثم العدول عن ذلك بفضل الضغط الشعبي الكبير المطالب بذلك والداعم لغالانت.

العودة إلى خطة الانقلاب القضائي

بعد هجوم "حماس" في السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023 على منطقة غلاف غزة، ونجاحها في عمليتها وفي أسر مئات الإسرائيليين، بدا للوهلة الأولى أن نتنياهو أنهى دوره السياسي، وأن الموضوع مسألة وقت حتى يسلم مقاليد الحكم. إلا أن نتنياهو الذي اتخذ من الحرب ذريعه، وبها وسع ائتلافه (ولو لفترة وجيزة) وتدريجيا، قام بترميم الدعم الشعبي له ولائتلافه، وضم حزب جدعون ساعر للحكومة، وقام بإقالة غالانت من الحكومة، وأبعد شبح الانتخابات المبكرة، وكما ذكرنا سابقا قام بترميم العلاقات مع الولايات المتحدة، وبتمتينها لمدى قياسي وغير مسبوق، في تاريخ العلاقة بين البلدين، ومن ثم عاد تدريجيا إلى خطة الانقلاب القضائي، كما أضاف مشروع السيطرة على القوى الأمنية في إسرائيل.

إبان الهدنة، أي خلال شهر ونصف منذ بدايتها، عاد لافين إلى خطة الانقلاب القضائي بقوة. صحيح أن المحكمة العليا، أجبرت لجنة تعيين القضاة على الاجتماع، وانتخاب القاضي يتسحاك عاميت رئيسا لها بالرغم من معارضة لافين، إلا أن لافين لم يسلم بذلك، وأعلن مدعوما بالحكومة وبرئيسها، بأن اختيار عاميت غير شرعي، ويتناقض مع الإرادة الشعبية، وبذلك فإن المحكمة، ومن يقف برأسها، لا تمثل عموم الإسرائيليين. ومن ثم فإنه بادر إلى إقالة المستشارة القضائية للحكومة بهراف ميارا، وأعلن في بداية شهر مارس/آذار خطة تفصيلية في كيفية التخلص منها، بصفتها لا تعمل بشكل متناسق مع الحكومة وأهدافها، وقدم طلبا لسكرتير الحكومة لنقاش الموضوع في إحدى جلسات الحكومة والحسم في ذلك.

أ.ف.ب
أحد شوارع مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة في 5 يوليو 2023

عمليا، وبالرغم من بعض الإخفاقات فإن مسار الانقلاب القضائي يتقدم، وبه يأمل نتنياهو في الإفلات من محاكمته الشخصية بتهم الفساد، و تعطيل أية إمكانية جدية لعرقلة سياساته في قضايا داخلية داخل إسرائيل، مثل دعم المتدينين ماديا وفي رفضهم للتجنيد، وفي سياسات التفضيل لقطاعات معينة دون أخرى، وفي التعيينات السياسية وغير المهنية، وعموم الشأن العام في إسرائيل.

يتطلع نتنياهو إلى منع أية عرقلة لسياسات واستراتيجيات اليمين للسيطرة على الضفة والقدس وغزة ومنع أي دور للجهاز القضائي في لجم هذه التطلعات

كما يتطلع نتنياهو إلى منع أية عرقلة لسياسات واستراتيجيات اليمين، للسيطرة على الضفة والقدس وغزة ومنع أي دور للجهاز القضائي في لجم هذه التطلعات، التي تدخل في مراحل متقدمة من التنفيذ، بما يشمل طرد الفلسطينيين، والسيطرة على أملاكهم بما يشمل أرضهم وبيوتهم وطرق خروجهم للعمل، وصولا إلى إمكانية ضم أجزاء من الضفة الغربية، دون منح الفلسطينيين هناك حق المواطنة، أي تعميق "الابرتهايد" وجعل إسرائيل عرضة أكثر للنقد الشعبي والدولي في العالم، بدون قدرة الجهاز القضائي بها على الاهتمام بالحفاظ على حقوق الإنسان، بما في ذلك الفلسطينيين تحت الاحتلال.

وأخيرا وصل نتنياهو إلى العمل للسيطرة على أجهزة الأمن. فقد وفرت الهدنة فرصة لقائد الجيش، هرتسي هاليفي، ليعلن أنه سيتحمل مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر وسيستقيل، وفعلا قدم استقالته مع بداية الهدنة، وأصبحت سارية المفعول في الخامس من مارس (آذار) الجاري. وهذا طبعا مكن نتنياهو ووزير أمنه يسرائيل كاتس، المعين في أعقاب إقالة غالانت، من اختيار قائد جديد من "رجالاتهم" لقيادة الجيش، وهكذا كان.

وأشارت تقارير إسرائيلية كثيرة منذ تقديم هاليفي رسالة الاستقالة، من أن زامير مقرب لعائلة نتنياهو، وبأنه سينفذ الخطط التي تلائم سياسات نتنياهو وخططه، وفعلا قام خلال يومين من اختياره قائدا للجيش بإعلان خططه للعودة للحرب في غزة، بشكل أكثر قوة من قبل، وبما يتلاءم مع تصريحات نتنياهو السابقة "في ضرورة اقتلاع (حماس) نهائيا مهما كلف الأمر" ، كما قام بتعيينات فورية في الجيش، بما يخدم رؤيته هذه.

في المقابل، قام نتنياهو بمنع رئيس الموساد ورئيس الشاباك من المشاركة في مفاوضات الهدنة، لكونهما أيدا الهدنة والاستمرار بها، وقام بتعيين طاقم جديد يؤيد مواقفه المتشددة، بما يسهل عليه في وقف الهدنة، وعدم الولوج إلى المرحلة الثانية بها. وبعد ذلك رشحت إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، نية نتنياهو إقالة رئيس الشاباك، رونين بار، من منصبه، وقام بالتصريح علنا قبل أيام بأنه لا يثق بعملية الفحص، التي قام بها الشاباك بخصوص إخفاق السابع من أكتوبر 2023، وما سبقها من سياسات إسرائيلية، بدعم قطري، في تمكين "حماس" من زيادة قوتها، التي أهلتها للقيام بالهجوم على غلاف غزة. وطبعا رفض نتنياهو دعوات هاليفي ومن ثم  رونين بار إلى وجوب تشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحدات السابع من أكتوبر 2023 وما سبقها وما تلاها من أعمال حربية ومن قرارات سياسية، وذلك بالطبع بسبب تخوفه من قيام مثل هذه اللجنة بتحميل نتنياهو جزءا من مسؤولية هجوم "حماس"، وما سبقه وما تلاه، وبالتالي الدفع باتجاه إقالته أو استقالته من رئاسة الوزراء.

وتشير وسائل إعلام إسرائيلية جهارا بأن خطوات نتنياهو أصلها التملص من استحقاقات إخفاق السابع من أكتوبر 2023 وما سبقه وما تلاه، وهذا صحيح. إلا أن الأهم هو الانتباه إلى أن ما يقوم به نتنياهو، تجاه الجهاز القضائي والسيطرة على الأجهزة الأمنية، جوهره استكمال الانقلاب على إسرائيل السابقة، التي سبقت 2009، والتي مكنت فئات ليبرالية من السيطرة على الحيز العام، وبالتالي استبدالها بطاقات وقدرات يمينية ومحافظة تدعم اليمين ومشاريعه، بما في ذلك في القضية الفلسطينية وحلها، بحيث تتعاون هذه الأجهزة مع تطلعات اليمين لمنع إقامة دولة فلسطينية، وانتهاج سياسات تدفع الفلسطينيين للهجرة من وطنهم، وتضم أجزاء إضافية من أراضيهم لإسرائيل ولمستوطنيها. وهذه التغييرات جذرية في إسرائيل، إلا أن عواقبها لا تقل أهمية للفلسطينيين وللمحيط العربي، وهنالك ضرورة لا تحتمل التأجيل في التحضير لمواجهة ذلك فلسطينيا وعربيا، ودوليا بما أمكن.

font change

مقالات ذات صلة