مارك كارني… الاقتصادي المخضرم ولاعب الهوكي الماهر

تحدي الصمود أمام عاصفة ترمب

المجلة
المجلة

مارك كارني… الاقتصادي المخضرم ولاعب الهوكي الماهر

حفلت كندا مؤخرا بالأحداث السياسية، فقد استقال رئيس الوزراء وزعيم "الحزب الليبرالي" جاستن ترودو، في 6 يناير/كانون الثاني 2025، بعد تراكم المشكلات السياسية والاقتصادية التي أفضت إلى تفكك الائتلاف الحكومي الذي كان يقوده. ويعاني الحزب الذي يتولى السلطة منذ عام 2015، من انتكاسات سياسية متتالية، ويواجه تراجعا حادا في نسب تأييده الشعبي، نظرا لعدد من الأسباب وعلى رأسها أزمة الإسكان، وسياسة الهجرة، وتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي.

وفي 9 مارس/آذار 2025، تنافس أربعة مرشحين لرئاسة الحزب، وحصد كارني نسبة 85.9 في المئة من الأصوات، وانتخب زعيما جديدا للحزب الليبرالي. ودُعي وأعضاء حكومته إلى المقر الرسمي للحاكم العام لكندا ماري سيمون، في العاصمة أوتاوا، حيث أدوا اليمين الدستورية.

ولد كارني في 16 مارس/آذار 1965 في الأقاليم الشمالية الغربية، وعندما كان في السادسة من عمره انتقلت عائلته إلى إدمونتون في مقاطعة ألبرتا، وعمل والداه في مجال التدريس. وحصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة هارفارد، وعلى الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أكسفورد.وحرص على العمل مبكرا أثناء دراسته لتحمل المسؤولية ولتوفير بعض النفقات مساعدة منه لأهله، فكان يجرف الثلوج عن الأرصفة، وعمل كبائع للصحف، وأثناء إجازته الصيفية عمل في تنظيف وتنسيق الحدائق في مستشفى محلي.

التقى كارني بزوجته ديانا فوكس، الخبيرة الاقتصادية البريطانية المتخصصة في الدول النامية، أثناء دراسته في أكسفورد. وهي ناشطة في قضايا مختلفة تتعلق بالبيئة والعدالة الاجتماعية. وتزوجا عام 1994، ولديهما أربع بنات.

يحمل بالإضافة إلى جنسيته الكندية، الجنسية البريطانية والأيرلندية، حيث هاجر جده إلى كندا من أيرلندا.

وهو من هواة لعبة الهوكي، إذ لعب كحارس مرمى في جامعة هارفارد أثناء دراسته لبعض الوقت بعد حصوله على منحة دراسية، وساعد في إدارة فريق جامعة أكسفورد. وكانت زوجته أيضا لاعبة هوكي في الفريق النسائي بجامعة أكسفورد.

ثاني أصغر محافظ لبنك كنداوأول محافظ أجنبي لبنك إنكلترا

عمل كارني في غولدمان ساكس لمدة 13 عاما، وترقى إلى منصب المدير الإداري، حيث اكتسب خبرة واسعة في الأسواق المالية، ليصل لاحقا إلى منصب ثاني أصغر محافظ للبنك المركزي لـ"بنك كندا" (2008–2013). وبعدها أصبح أول أجنبي يتم تعيينه محافظا لبنك إنكلترا (2013– 2020)، وبقي لاحقا لمدة عامين إضافيين للمساعدة في تسهيل انتقال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وقاد كرئيس لمجلس الاستقرار المالي (2011–2018)،الجهود الدولية لإصلاح الأنظمة المالية العالمية في أعقاب أزمة 2008.وتولى منصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة للعمل المناخي والتمويل (2020-2025)، وحوّل تركيزه إلى تغير المناخ، ودافع عن التمويل المستدام وانبعاثات الكربون الصفرية.

تبوأ كارني منصب نائب رئيس مجلس الإدارة في شركة بروكفيلد لإدارة الأصول (2020-2025)، وقدم المشورة بشأن الاستثمار البيئي والاجتماعي والحوكمة.

الإنجازات في إدارة السياسة النقدية

نفّذ بصفته محافظ بنك كندا، سياسات نقدية حازمة، بما في ذلك خفض أسعار الفائدة وتوفير السيولة، مما ساعد كندا على تجنب أسوأ ركود في 2008-2009. وظل النظام المصرفي مستقرا بشكل ملحوظ مقارنة بأقرانه.

وأدار السياسة النقدية في بنك إنكلترا خلال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وخفض أسعار الفائدة، وقدم تدابير تحفيزية لاستقرار الأسواق.وقاد بصفته رئيسا لمجلس الاستقرار المالي إصلاحات مثل "إطار بازل-3"، وتعزيز متطلبات رأسمال البنوك، والحد من المخاطر النظامية في النظام المالي العالمي.

وشارك في تأسيس فريق العمل المعني بالإفصاحات المالية المتعلقة بالمناخ(TCFD) عام 2015، الذي وضع معايير للشركات للإبلاغ عن مخاطر المناخ، وتم تبنيها على نطاق واسع عالميا.

أدار السياسة النقدية في بنك إنكلترا خلال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وخفض أسعار الفائدة، وقدم تدابير تحفيزية لاستقرار الأسواق

المسيرة السياسية

اختاره ترودو في أغسطس/آب 2020، للعمل كمستشار "غير رسمي" لخطة الحكومة للتعافي الاقتصادي من وباء كوفيد.وظهر كارني في أبريل/نيسان 2021 كحامل لبطاقة الحزب الليبرالي، حيث ألقى خطابا رئيسا أشاد فيه بالكثير من سياسات الحزب. وذلك بعد نفي الشائعات مرات عدة حول سعيه إلى القفز إلى الساحة السياسية، بما في ذلك التكهنات حول تعيينه وزيرا للمالية بعد استقالة كريستا فريلاند، وأعلن كارني نيته خوض غمار انتخابات زعامة الحزب بعد 10 أيام فقط من استقالة ترودو.

ونشر عام 2021 كتابه "القيمة.. بناء عالم أفضل للجميع" ، وفيه يقول إن الأسواق يجب أن تعكس القيم المجتمعية مثل العدالة والمرونة والاستدامة وليس الربح فقط. وينتقد الاعتماد المفرط على آليات السوق التي أدت إلى الأزمات.وهو يعتزم اطلاق كتابه "حان الوقت لبناء كندا أفضل" في   مايو/أيار المقبل.

أ.ب
زعيم الحزب الليبرالي مارك كارني يلقي خطاب النصر خلال إعلان قيادة الحزب الليبرالي في أوتاوا، أونتاريو، 9 مارس 2025

لم يشغل كارني منصبا منتخبا من قبل وهو ليس عضوا في البرلمان، ولم يُعرف بعد في أي دائرة انتخابية سيترشح، لكنه أكد أنه سيخوض حملة للحصول على مقعد في الانتخابات المقبلة.

وسيحمل كارني لواء الحزب في الانتخابات الفيدرالية، تحت شعار جديد "كندا القوية". وقال: "معا، نحن مستعدون، وسنفوز في المعركة من أجل كندا القوية".

يمتلك كارني سجلا قويا يعزز صورته كخبير اقتصادي قادر على مواجهة التحديات خاصة مع إعادة انتخاب ترمب وتصاعد حرب التعريفات الجمركية

وستجرى الانتخابات الفيدرالية في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2025، ولكن يمكن إجراؤها قبل ذلك إن حل الحاكم العام مجلس العموم بناء على توصية رئيس الوزراء، إما لإجراء انتخابات مبكرة، أو إذا خسرت الحكومة التصويت على اقتراح حجب الثقة.

وعلى صعيد الخبرة الاقتصادية، يمتلك كارني سجلا قويا يعزز صورته كخبير اقتصادي قادر على مواجهة التحديات خاصة مع إعادة انتخاب ترمب وتصاعد حرب التعريفات الجمركية.كما أن استراتيجية التنويع الاقتصادي من خلال اقتراحه تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة عبر بناء علاقات تجارية جديدة، قد يجذب الناخبين القلقين من وضع الاقتصاد. ومن بين وعوده الانتخابية تحرير التجارة داخل كندا، والتقدم في مشاريع الطاقة الكبرى، فضلا عن التعهد بجذب استثمارات كبيرة في مجال الإسكان والطاقة النظيفة.

أ.ب
مارك كارني ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بعد الإعلان عن فوز كارني بقيادة الحزب في حفل الإعلان في أوتاوا، أونتاريو، 9 مارس 2025

واستغل كارني تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية وضم كندا، لصياغة خطاب وحدة وطنية قوي. كما أن قوله "كندا لن تكون جزءا من أميركا بأي شكل من الأشكال" يهدف إلى توحيد الكنديين ضد الضغوط الخارجية، وقال إنه لا خيار أمام كندا سوى الانتصار في الحرب التجارية مع ترمب، مشبها إياها بمباراة في لعبة الهوكي، فطالما انتصرت كندا على الولايات المتحدة في أكثر من مواجهة.

وإذا نجح كارني في تهدئة الأزمة مع ترمب عبر مفاوضات ذكية أو ردود فعل اقتصادية فعالة (مثل الرسوم الانتقامية)، واستعاد ثقة الناخبين في قضايا مثل السكن والتضخم، فقد يقود الليبراليين للفوز بحكومة أغلبية، أو على الأقل الحفاظ على حكومة أقلية.

التحديات السياسية الداخلية في مواجهة بواليفير

كارني مبتدئ في السياسة، ولم يخضع لاختبار حملة انتخابية وطنية. هذا قد يجعله عرضة لانتقادات من خصوم مثل بيير بواليفير، زعيم حزب المحافظين، الذي يتمتع بشعبية متزايدة وخبرة سياسية أطول.

ويتصدر حزب المحافظين استطلاعات الرأي منذ أكثر من عام، ويركز على قضايا مثل تكلفة المعيشة، وهجومه على كارني كـ"امتداد لترودو" وهو ما قد يجد صدى لدى الناخبين المستائين من حكم الليبراليين لعقد من الزمن.

لكن فرص نجاح مارك كارني تعتمد بشكل كبير على قدرته على تحويل خبرته الاقتصادية إلى نتائج ملموسة في وقت قصير، وتمكنه من مواجهة تهديدات ترمب، وخاصة فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية والسيادة. وهي مسألة تتوقف على مزيج من خبرته، والنفوذ الاقتصادي لكندا، والطبيعة غير المتوقعة لنهج ترمب.

رويترز
كارني بجانب زوجته ديانا فوكس، أونتاريو، كندا، 9 مارس 2025

ويشير خطاب كارني إلى أنه مستعد لمواجهة ترمب وجها لوجه. وأعلن: "لن تكون كندا أبدا جزءا من أميركا بأي شكل من الأشكال"، وقال إنه في حين لم تطلب هذه البلاد هذه المعركة، فإن الكنديين مستعدون دائما للقتال. ووعد بالإبقاء على التعريفات الجمركية الانتقامية "حتى يظهر لنا الأميركيون الاحترام ويقدموا التزامات موثوقة بشأن التجارة الحرة والعادلة". وأضاف: "سأجلس مع ترمب عندما يكون هناك احترام لسيادة كندا". لقد صاغ هذا على أنه معركة وطنية، مشبها إياها ببراعة كندا في لعبة الهوكي، وهي إشارة إلى أنه ينوي حشد الوحدة الوطنية ضد الضغوط الخارجية.

ولدى كندا أوراق اقتصادية للعبها في حرب التعريفات، إذ تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على صادرات الطاقة الكندية (مثل الغاز الطبيعي والكهرباء) والمعادن الأساسية وسلاسل توريد التصنيع.

وتكمن إنجازات الرجل في استقرار الاقتصادات أثناء الأزمات، وإصلاح الأنظمة المالية، والدفع نحو الاستدامة في الأسواق. وتكشف أفكاره عن مزيج من البرغماتية والمثالية، مما يموضعه كقائد فكري في كل من الاقتصاد والدعوة البيئية. ويُعرف كارني بصلابته الفكرية وقيادته في أوقات الأزمات، وموقعه كشخصية رئيسة في المجالين الاقتصادي والبيئي.

وسيخوض كارني معركة خارجية مع أقوى دولة في العالم، وأكثر رئيس جمهورية تقلبا ومزاجية وتهورا، ويخوض معركة داخلية مع خصوم سياسيين مخضرمين، في ظل اقتصاد ووضع معيشي متأزم، فهل ينجح ويدخل التاريخ، أم يكون مجرد رئيس حزب ورئيس حكومة عابر؟

font change