حسب الطرفة- وهي من أصل أميركي- فإن مديرا كبيرا لشركة ضخمة، دخل إلى غرفة مساعديه التنفيذيين حاملا بحرص ورقة بين يديه وقال لهم: هذه ورقة ثمينة من الأفكار الجديدة وليس عندي نسخة منها، وأريد حلا لذلك. فقام أحد مساعديه وأخذ منه الورقة بثقة ووضعها في آلة إلى جانبه، لتخرج من الطرف الآخر على شكل قصاصات صغيرة تالفة.
هذه الطرفة أتذكرها كلما كان هناك انعطاف حاد إلى الخلف في المشهد المحلي للسياسة الأردنية، خصوصا في مواضيع الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي.
لم تكن ولادة مشروع التحديث السياسي عام 2021 كما تفيد مراجع البحث التوثيقية، فالمشروع قائم في عقل رأس الدولة الملك عبدالله الثاني قبل ذلك بكثير، ومراجعة قصيرة لكتاب سيرته الذاتية "الفرصة الأخيرة" الذي تم نشره عام 2011 فيه كثير من طريقة ومنهجية تفكير الملك وشغفه بتطوير حالة إصلاحية شاملة في كل الدولة الأردنية، وشخصيا سمعت "ولمست" هذا الشغف بالإصلاح عام 2019 في لقاء مع الملك نفسه في قصر الحسينية.
إذن، ما الذي يعطل الإصلاح نفسه؟ ولماذا تنتهي الأفكار الثمينة والقيمة في ماكينة الإتلاف على الدوام؟
الجواب واضح، وهو أدوات الإصلاح نفسها! وتلك لا تزال معركة الملك الحقيقية في التغيير، والتي عبر عنها منذ بدايات عهده وكان أكبر تجليات هذا التعبير ما باح به الملك في تصريحات لصحافي "الأتلانتيك" الأميركية عام 2013 وعبر فيها عن رغبته في عملية إصلاح سياسي ديمقراطي جذري، وأنه– حسب تصريحاته آنذاك- الوحيد القادر على قيادة هذه الإصلاحات.
أفكار الملك الثمينة فعلا، قام بتوثيقها فيما بعد في مجموعة من الأوراق تمت تسميتها "الأوراق النقاشية" وطرحها الملك على العموم لمناقشتها، وانتهت بعد حين إحدى مرجعيات لجنة ملكية تم تشكيلها عام 2021، وانتهت بدورها بعد اجتماعات مكثفة ومركزة إلى توصيات تشريعية تمت ترجمتها إلى قوانين انتخاب وأحزاب، وقد تم إجراء الانتخابات النيابية عام 2023 بناء عليها.
ما يراه الأردنيون ويشعرون به، أن الأفكار التي حملها الملك وكلف مؤسسات الدولة وشخصياتها السياسية بتنفيذها كانت مخرجاتها النهائية دون التوقعات، فالانتخابات الأخيرة كما الأحزاب التي تمت صياغة بعضها على استعجال لم تترجم بالضبط رؤية الملك وتوقعات الأردنيين بإصلاح سياسي حقيقي.
مؤسسات الملك– كما رجال الدولة- ليسوا جميعا مؤمنين بالإصلاح المنشود، ومن بينهم قطاع واسع يعتبر نفسه آخر حراس "الوضع الراهن" الذي له طبقة مصالح واسعة ترسخت عبر سنوات طويلة، والإصلاح "الحقيقي والجاد" يهدد تلك المصالح والمنتفعين منها.
التغيير لا يتحقق بالأدوات نفسها التي تتكرر كل مرة... والحديث المتكرر عن "الإصلاح" كقيمة عالية ورفيعة دون نتائج حقيقية، سيجعل مفهوم الإصلاح يفقد قيمته تلك
هذا الإصلاح السياسي الذي "تعطل لكن لم يتوقف" توازت معه رؤية ملكية بإصلاح إداري، وهو ضرورة لتفكيك الحجم الزائد من البيروقراطية التي تعطل مؤسسات الدولة، وهي عملية صعبة وشاقة نظرا للكلف الاجتماعية والاقتصادية الباهظة التي قد تنتج عن تفكيك سريع وغير مدروس، لكنه ضرورة في زمن اكتملت فيه ثورة تكنولوجيا المعلومات والمعرفة التقنية مما يضع الوظيفة العامة في الحكومة رهن عمليات ترشيق هائلة، ويدفع بقطاع خاص "متردد وخائف" إلى الواجهة لأخذ المبادرات في الدولة، وهو ما يعني حتما تغييرات في تشريعات الدولة وقوانينها لتدفع عملية الإصلاح الاقتصادي والإداري إلى مسافات متقدمة، وتغييرات أكثر عمقا في الوعي الجمعي للأردنيين تجعلهم يدركون حقيقة انتهاء مفهوم "الدولة الرعوية".
هذا الوعي الجمعي نفسه يحتاج ثورة تعليمية شاملة تواجه خصومها التقليديين من تيارات إسلامية وتيارات تقليدية محافظة يمكن لها أن تتحالف لتشكل خصما شرسا في وجه أي تغيير، والانتخابات الأخيرة في مجلس النواب التي كانت– افتراضا- اول تجليات عملية التحديث السياسي لم تنتج قوى تغيير بقدر ما أعطت مساحة لتيار الإسلام السياسي المحافظ ومقاعد أكثر لتيار محافظ يسعى لإرضاء ناخبيه أكثر من رفع سوية عمله الحزبي التحديثي.
من هنا فالقناعة واضحة بأن التغيير لا يتحقق بالأدوات نفسها التي تتكرر كل مرة، والحديث المتكرر عن "الإصلاح" كقيمة عالية ورفيعة دون نتائج حقيقية، سيجعل مفهوم الإصلاح يفقد قيمته تلك.
وحسب تعبير لسياسي أردني رفيع المستوى، في وصفه للمشهد الأردني من الداخل وضرورة التغيير في أدوات الدولة وشخوصها التقليديين على كل المستويات، حيث اقتبس مثلا إنجليزيا قديما نصه العربي يقول "أنت لا تستطيع ان تصنع العجة دون أن تكسر البيض".