الحنين إلى العهد الأموي في الأدب العربي

جمعت مدينة دمشق على مرآتها صفحات الأمم والممالك والثقافات

shutterstock
shutterstock
الجامع الأموي في دمشق

الحنين إلى العهد الأموي في الأدب العربي

جمعت مدينة دمشق على مرآتها صفحات الأمم والممالك، والإمبراطوريات المتعاقبة، والثقافات المتنوعة، والطوائف المتعددة، حتى ارتبط تاريخها بالقصص والحكايات والأخبار والأساطير، فيقال إن أول من بناها نبي الله نوح بعد نجاته من الطوفان للاستقرار وعمارة الأرض، وقيل بناها ولدا آدم قابيل وهابيل، وإنها أرم ذات العماد، وقيل هي من صنع جن سليمان، وباب جيرون فيها شاهد، وقيل بناها العازر غلام النبي إبراهيم، وكل هذه أخبار ليست مستغربة، فدمشق من أقدم المدن المأهولة على وجه الأرض، إن لم تكن أقدمها.

تعاقبت الإمبراطوريات الكبرى على حكم دمشق، من الآشوريين إلى الفرس، ومن الرومان إلى البيزنطيين، ومن الأمويين إلى العباسيين فالمماليك والعثمانيين، وكلّ منهم حاول أن يترك بصمته عليها. لكنها، على الرغم من هذا الزخم التاريخي، ظلت وفية لحقبة واحدة، ارتبطت بها، وأصبحت وفية لها، معجونة بها، وهويتها مصبوغة بتلك الحقبة. رغم كل الممالك والإمبراطوريات التي مرت على هذه المدينة منذ آلاف السنين، إلا أن رايات بني أمية حين رفرفت في رحابها طبعت بأثرها العميق الذي لم يفارقها أبدا، فظلت دمشق أموية الروح والهوى، كأن الزمن توقف عند تلك الحقبة، وكأن بني أمية لم يكونوا مجرد حكام مروا بها، بل أصحاب هوية نقشوها في قلبها إلى الأبد.

أبهى العصور

جاء معاوية بن أبي سفيان وجعل دمشق عاصمة الدنيا، منها تصدر القرارات نحو أقاليم تمتد من الأندلس إلى الصين. في زمنهم، تعربت دواوين الدولة، وتوسعت الفتوحات، وشيّدت معالم بقيت شاهدة على عظمة تلك الحقبة، وفي مقدمها الجامع الأموي الذي ظل رمزا خالدا، وهوية صامدة أمام صوارف الزمن.

الحنين إلى العهد الأموي حالة تتكرر في تاريخنا قديما وحديثا، كأنها لحظة بحث عن الذات، وبعث للهوية الأصيلة

لكن الأعجب من حكمهم القصير الذي لم يدم أكثر من 90 عاما، هو أن دمشق لم تستطع أن تتخلى عن هواها الأموي. فعلى الرغم من أن العباسيين سعوا إلى طمس آثار الأمويين وتشويه تراثهم، وحاول المماليك والعثمانيين إعادة تشكيلها وفق مصالحهم، إلا أن دمشق بقيت أموية، كأن روح بني أمية لم تغادرها قط. لا يزال زوارها حين يسيرون في شوارعها القديمة، أو يتأملون معالمها، أو يستنشقون هواءها العابق بالتاريخ، يشعرون بأنهم في دمشق الأمويين، لا دمشق أحد سواهم.

لهذا ليس غريبا أن يتعالى صوت الحنين إلى العهد الأموي في أوقات الشدائد والمحن التي تعصف ببلاد الشام، فكلما اشتدت الأزمات بالعالم العربي، عاد الحديث عن بني أمية، واستذكار أمجادهم، ليس بوصفهم حكاما طواهم الزمن، بل بوصفهم رمزا لقوة الدولة ووحدتها وهيبتها، ونموذجا لأبهى عصور الشام، حين كانت دمشق العربية عاصمة لأكبر امبراطورية في زمانها. ففي محطات الضعف والتراجع، يستدعي المثقفون والشعراء صورة بني أمية كعهد ازدهر فيه العرب، وتوسع سلطانهم، وتحققت الإنجازات الكبرى.

البحث عن الذات

الحنين إلى العهد الأموي حالة تتكرر في تاريخنا قديما وحديثا، كأنها لحظة بحث عن الذات، وبعث للهوية الأصيلة، وعودة الى الجذور، وإيمان بأن تلك الحقبة هي التي تجلى فيها النضج العربي بكل مظاهر قوته وأبهته، وعقلانيته، وانفتاحه.

نجد بعضا من الشواهد في العصر العباسي حين تشتد الأزمات على الناس يستذكرون الأيام الأموية بشيء من الأسى والحنين، أو رسالة يقصد بها رفض الواقع القائم. ففي الأيام الأخيرة من حكم بني أمية عام 132هـ، بث أنصار الحركة العباسية دعايتهم ضد الأمويين وأنهم أهل جور وظلم، لكن ما هي إلا سنوات معدودة بعد سقوط الدولة الأموية، وانتصار العباسيين، حتى بدأ الضجر، وندم بعض الناس مما رأوا من ازدياد الجور، وتفشي الظلم، فقال الشاعر أبو عطاء السندي بيته الشهير:

يا ليت جور بني مروان عاد لنا

وأن عدل بني العباس في النار

وحين رأى بشار بن برد أن أمور الخلافة العباسية أصبحت بيد الوزير الفارسي يعقوب بن داود بن طهمان، والخليفة عنه لاه وغافل، قال واصفا الحال:

بني أمية هبوا طال نومكم

إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الناي والعود

أدمشق أين بنو أمية قولي؟

في زمننا المعاصر يتكرر المشهد، وتأتي رمزية بني أمية طاغية في الشعر العربي الحديث خاصة في أزمنة الانكسار، وعهود الاستعمار، وتمزق العالم العربي، حيث يكتب الشاعر اللبناني إلياس طعمة "أبو الفضل الوليد" من شعراء المهجر الأميركي، قصيدة مليئة بالحنين الى الدولة الأموية، وكأن حكمهم قد زال في الأمس القريب، وليس قبل ألف سنة:

أدمشق أين بنو أمية قولي 

ليقوا نضارة حسنك المبذول

بجلال جامعهم ورونق ملكهم

صوني الجمال بشعرك المحلول

لبني أمية في النفوس مكانة  

بالبأس والإحسان والتعديل

ملكوا القلوب بحلمهم وسخائهم

ورعوا ذمام عشيرة وقبيل

shutterstock
الجامع الأموي في دمشق

وحين كتب بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) قصيدته الشهيرة "عيد الجلاء"، تلك التي أراد بها الاحتفال بجلاء الفرنسيين عن سوريا عام 1946، انقلبت القصيدة تمجيدا في الأمويين، واحتفاء بتاريخهم المجيد، بل وصف الشام بـ"بنت مروان"، يقول:

يا ظباء الأمويين اضحكي  

تضحك الدنيا ويغمرها الصفاء

واغمزي الأنجم هذي أعين 

شأنها في الدهر لمح واجتلاء

ملوك الشرق

وكتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة خالدة في دمشق. عبر فيها بكل شوق لمآثر بني أمية، وأن كل من جاؤوا بعدهم عالة عليهم، حتى بنو العباس رفلوا في النعيم من أفضالهم، يقول:

بنو أمية للأنباء ما فتحوا 

وللأحاديث ما سادوا وما دانوا

كانوا ملوكا سرير الشرق تحتهم

فهل سألت سرير الغرب ما كانوا

عالين كالشمس في أطراف دولتها 

في كل ناحية ملك وسلطان

لولا دمشق لما كانت طليطلة  

ولا زهت ببني العباس بغدان

تبقى دمشق المدينة التي تتبدل عليها العصور، لكن روحها الأموية لا تخبو ولا تذوب، كأنها تعاهدت مع الزمن ألا تفقد طابعها الأموي

أما نزار قباني فلا تخلو قصائده الدمشقية والأندلسية من حنين أموي صارخ، حيث يتساءل في "مفكر عاشق دمشقي":

يا شـام، أيـن هما عـينا معاوية

 وأيـن من زحموا بالمنكـب الشهبا

وحين يتعب من عروبته يبحث عن الخلاص، فيستذكر الماضي الأموي التليد:

يا تونس الخضراء.. كيف خلاصنا؟

لم يبق من كتب السماء كتاب..

ماتت خيول بني أمية كلها

خجلا.. وظل الصرف والإعراب

AFP
الجامع الأموي في دمشق

بستان هشام

ولا تغيب عنا أمويات الشاعر اللبناني سعيد عقل، والأغنيات الشامية التي صدحت بها فيروز:

قرأت مجدك في قلبي وفي الكتـب 

شـآم، ما المجد؟ أنت المجد لم يغب

أيـام عاصمة الدنيا هـنا ربطـت   

بـعزمتي أمـوي عزمـة الحقـب

وفي قصيدته الشهيرة التي غنتها فيروز "سائليني يا شام" كتب عقل ذلك البيت الذي أصبح على لسان كل شامي شعارا ودثارا، وجسد فيه ذروة الفخر بالانتماء الأموي، حين يقول:

ظمئ الشرق فيا شام اسكبي  

واملأي الكأس له حتى الجمام

أهلك التاريخ من فضلتهم   

ذكرهم في عروة الدهر وسام

أمويون فإن ضقت بهم    

ألحقوا الدنيا ببستان هشام

تبقى دمشق المدينة التي تتبدل عليها العصور، لكن روحها الأموية لا تخبو ولا تذوب، كأنها تعاهدت مع الزمن ألا تفقد طابعها الأموي الذي لا تزال تنبض به حتى اليوم.

الحقبة الأموية تمثل ذاكرة حية لتاريخ عربي ممتد، وحين يستدعيها الناس في أزمنة الشدائد والمحن، فهم لا يستدعون مجرد ماض طواه الزمن، بل يبحثون عن جذورهم وذاتهم، ويستحضرون أصالة ثقافتهم، ويفتشون عن روح قوة، ومصدر عز وإلهام، وهوية عربية جامعة... تلك الهوية التي استطاعت في أيام مجدها وعزها أن توحد طوائف المجتمع بمختلف ألوانه وأشكاله تحت راية عربية واحدة.

font change

مقالات ذات صلة