"الأكاديمية الملكية" بلندن تحتفي بميلاد الحداثة في البرازيل

قامت على شعار "امضغ كل شيء ثم ابصقه"

© Royal Academy of Arts, London / David Parry. ©️ Tarsila do Amaral S/A
© Royal Academy of Arts, London / David Parry. ©️ Tarsila do Amaral S/A
جانب من معرض "Brasil! Brasil! The Birth of Modernism" في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن (23 يناير - 21 أبريل 2025)

"الأكاديمية الملكية" بلندن تحتفي بميلاد الحداثة في البرازيل

لندن: كانت البرازيل قريبة إلى الدرجة التي خيل إلي وأنا أطوف بين قاعات المعرض العشر أنها كانت حاضرة في كل التحولات الفنية التي شهدها مطلع القرن العشرين. المعرض الذي يضم 130 لوحة لعشر رسامات ورسامين تؤرخ لتاريخ الحداثة في البرازيل عبر سبعين سنة تمتد من 1910 حتى 1980.

تقف أنيتا مالفاني (1889ــ 1964) في المقدمة، ذلك لأن مَن يرى الأعمال التي أنجزتها في العقد الثاني من القرن العشرين لابد أن يضعها في سياقها التاريخي كونها تتطابق على مستوى البعد الشكلي مع محاولات فناني برلين وباريس في تلك المرحلة لاستخلاص الدروس من الثورة التي أحدثها بول سيزان في طريقة النظر إلى الموضوع المرسوم (منظر طبيعي أو هيئة بشرية أو طبيعة صامتة).

مع فن أنيتا مالفاني لا يمكن الحديث عن تأثير الآخرين. فالفنانة عاشت الأحداث مباشرة حين كانت في برلين بدءا من عام 1910 وما توصلت إليه جعلها قريبة من بابلو بيكاسو وبول كلي وأوسكار كوكوشكا وهنري روسو وآخرين ممَن ساهموا في فتح أبواب الحداثة الفنية.

لم تكن البيئة الثقافية في البرازيل مغلقة على التقاليد الفنية الشعبية ذلك لأن تلك الهوية ظلت محافظة على تماسكها في ظل الانفتاح على الثقافات الأخرى

من خلال رسوم مالفاني يمكن التأكد من أن البيئة الثقافية في البرازيل لم تكن مغلقة على التقاليد الفنية الشعبية خوفا على الهوية القومية، ذلك لأن تلك الهوية ظلت محافظة على تماسكها في ظل الانفتاح على الثقافات الأخرى، الأوروبية والأفريقية على حد سواء.

© Royal Academy of Arts, London / David Parry. © Rubem Valentim
روبن فالينتيم، "مذبح شعائري رمزي – E59"، 1980، مجموعة خاصة، ساو باولو

آلاف اللوحات من أجل طعم برازيلي

عام 1944 أقامت "الأكاديمية الملكية" معرضا للفن البرازيلي. مر زمن طويل لكي تنتبه الأكاديمية إلى أهمية أن تضع الفن البرازيلي الحديث في مكانه بما يليق بمكانته التاريخية. يبدأ المعرض بأعمال لازار سيغال (1889 ـ 1957). في واحدة من أروع اللوحات التي ضمّها المعرض نرى كومة من الجثث يمثل مشهدها نبوءة لما حدث بعد ذلك. رسمت تلك اللوحة عام 1937. عام 1933 رسمت تارزيلا أمرال "عائلة برازيلية حافية الأقدام". يعتقد بعض النقاد أن تلك اللوحة رُسمت بتأثير من الدعاية الشيوعية غير أن مَن يرى اللوحة اليوم لابد أن يحكم عليها بطريقة مختلفة. في المعرض هناك الكثير من اللوحات التي تصور مجموعات من البشر، عائلة أو أصدقاء، مجتمعين لغاية ما أو أنهم اجتمعوا بطريقة عبثية. ذلك تقليد عادي في مجتمعات عاشت ترف انتمائها إلى بلاد غير طاردة.

© Royal Academy of Arts, London / David Parry. ©️ Tarsila do Amaral S/A
جانب من معرض "Brasil! Brasil! The Birth of Modernism" في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن (23 يناير - 21 أبريل 2025)

ويعتبر كانديدو بورتيناري (1903-1962) الرسام الوطني للبرازيل. حين رأيت واحدة من لوحاته التي ضمها المعرض تذكرت لوحات بيكاسو في مرحلته الزرقاء، غير أن تلك اللوحة لم تكن غريبة عن ذلك التقليد العائلي. ترك بورتيناري بعد وفاته في سن الثامنة والخمسين أكثر من خمسة آلاف لوحة. في غزارته كان بورتيناري مثل سواه من الفنانين العشرة حريصا على ما يُسمى بـ "الطعم البرازيلي".

يمكنك أن ترى كل ما خلفته الحداثة الأوروبية من مؤثرات شكلية وتقنية، غير أن ذلك لا ينفي شعورك بأنك تقف أمام عمل فني برازيلي خالص

يمكنك أن ترى كل ما خلفته الحداثة الأوروبية من مؤثرات شكلية وتقنية، غير أن ذلك لا ينفي شعورك بأنك تقف أمام عمل فني برازيلي خالص لا يقتصر على المفردات التي لا تجدها في مكان آخر بل وأيضا على طريقة التعامل مع تحديات الحياة في صورها المتناقضة التي تجمع بين ما هو أصلي وما هو مهاجر. ومثلما لم تعمل البرازيل على تذويب ثقافات المهاجرين إليها، فإنها بالقوة نفسها حرصت على أن يكون لتقاليد سكانها الأصليين مكان في حداثة فنانيها. 

Photo © Royal Academy of Arts, London / David Parry. © Instituto Pintora Djanira
دجانيرا، "ثلاثة أوريشاس"، 1966، مجموعة بيناكوتيكا ولاية ساو باولو

أفريقيا كأنها اكتشاف برازيلي

"امضغ كل شيء ثم ابصقه" ذلك مثل برازيلي اتخذ منه فنانو الحداثة شعارا لطريقة تعاملهم مع تحولات الفن العالمية في اوائل القرن العشرين. يومها أصدر الكاتب أوزوالد دي أندرادي بيانا استعمل فيه مصطلح "أكل لحوم البشر الثقافي" في محاولة منه لحث الفنانين على "التهام" التأثيرات الأخرى من أجل بصق شيء جديد وبرازيلي تماما. ولكن ذلك الشيء البرازيلي هو مرآة للتنوع الثقافي في بلد، لم تعد المحافظة على تقاليده الثقافية تعني شيئا في مواجهة تدفق الموجات البشرية الهائلة التي هاجرت إليه من أفريقيا وأوروبا واليابان قبل أن تصبح البرازيل جمهورية عام 1889.

© Royal Academy of Arts, London / David Parry. © Portinari, Candido / © DACS 2025
جانب من معرض "Brasil! Brasil! The Birth of Modernism" في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن (23 يناير - 21 أبريل 2025)

يبدو ذلك التنوع واضحا في الصور التي تظهر فيها المجموعات البشرية في حالة تقارب بين أفرادها المنتمين إلى أصول مختلفة. كانت عناصر الهوية الوطنية تتشكل عبر التعامل مع مستجدات الحياة اليومية من غير الاتكاء على الفنون القديمة التي صارت بمثابة خلفية مضببة. في واحدة من لوحات ديجانيرا دا موتا اي سلفا (1914 ــ 1979) تحضر أفريقيا كأنها اكتشاف برازيلي من خلال الأشكال البشرية والثياب والتيجان والأدوات الموسيقية. وبقدر ما يشعر المرء وهو يتأمل أعمال الرسامين العشرة أنها صنعت من عجينة لم تُستعمل في أي مكان آخر بقدر ما يبهره التنوع في الأساليب الفنية والمرجعيات الثقافية بغض النظر عما إذا كان العمل الفني تشخيصيا أو تجريديا. كل المؤثرات الأوروبية قد امتصت فظهرت كأنها اختراع برازيلي خالصا.

© Royal Academy of Arts, London / David Parry. © Rubem Valentim
جانب من معرض "Brasil! Brasil! The Birth of Modernism" في الأكاديمية الملكية للفنون بلندن (23 يناير - 21 أبريل 2025)

بين التشخيص والتجريد

غلبت على المعرض نزعة تشخيصية توزعت موضوعاتها بين رسوم الطبيعة في مختلف تجلياتها كما لدى لاسار سيغال ورسوم الناس (البورتريه لدى ماريو دي اندرودا وانيتا مالفاتي وروبيترو بورل ماركس والمجموعات البشرية لدى كانديدو بورتيناري) واللافت أن تارزيلا دو أمارال (1886 ــ 1973) التي تعتبر نفسها رسامة وطنها والتي وضعت واحدة من لوحاتها على الملصق الدعائي للمعرض قد رسمت الطبيعة في مختلف حالاتها والناس في مختلف أوضاعهم.

كان رسامو البرازيل تشخصيين أو تجريديين وهم يرسون قواعد الحداثة الفنية في العقد الثاني من القرن العشرين

لكن المعرض يكشف أيضا عن أن التجريد كانت له حصة مهمة في البدايات المبكرة للحداثة الفني في البرازيل وذلك من  خلال أعمال روبيم فالنتيم (1922 ــ 1991) التي يغلب عليها الطابع الهندسي وألفريدو فولبي (1896 ــ 1988) الذي يبدو أثر بول كلي واضحا عليه على الرغم من أنه كان من أصول أفريقية. تلك المفارقة لا تعد تناقضا بالنسبة للثقافة البرازيلية القائمة على التنوع. المؤكد لمَن يتأمل أعمال الفنانين أنها لا تخرج عن السياق البرازيلي للحداثة، فلا فالينتيم ولا فولبي كانا غريبين عن تجربة التأسيس لحداثة فنية برازيلية. كان رسامو البرازيل تشخصيين أو تجريديين وهم يرسون قواعد الحداثة الفنية في العقد الثاني من القرن العشرين حريصين على أن تنهل حداثتهم من ينابيع تقاليد فنية تحمل طعم البرازيل.

font change