"الحلم الأميركي" لم يمت... لكن الشعبوية قد تقتله

الأخطار الراهنة تتطلب فهم مستقبل العولمة وما هو أبعد من الاقتصاد بما يطال المناخ والصحة

براين ستوفر
براين ستوفر

"الحلم الأميركي" لم يمت... لكن الشعبوية قد تقتله

منذ ثلاثين عاما، تأسست منظمة التجارة العالمية لتعزيز التبادل التجاري والاستثمار وانتقال الأفراد، وهذا ما حصل. إذ شهد العالم بعد ذلك نشوء نظام تجاري قوي ومزدهر ساهم في نمو غير مسبوق. وفي سبتمبر/أيلول من العام 1995، اجتمعت نخبة من قادة العالم ومفكريه الاقتصاديين وديبلوماسييه في فندق "فيرمونت" في مدينة سان فرانسسكو، حيث أطلق زبيغنيو بريجينسكي شعار "العولمة" كمصطلح سيصبغ لاحقا سياسات وشعارات السنوات التالية لسقوط الاتحاد السوفياتي.

ظهرت فوائد العولمة عبر السنين، ونشأت سلسلة مترابطة بين الإنتاج والاستهلاك عبر الدول، وتدفق الاستثمارات وتوسيع الأسواق وتحسين كفاءة سلاسل الإمداد. وانخرطت حكومات العالم في ما بدا أنه سلسلة من الشراكات المربحة للجميع. وتقلصت الحدود الوطنية إلى حد كبير مع تطور التكنولوجيا والتحول المتسارع نحو العمل عن بعد. وكان يفترض أن تمتد فوائد الأسواق الحرة إلى ما هو أبعد من الاقتصاد، كإنهاء الصراعات الدولية وتعزيز القوى الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم.

ثم كانت الأزمة المالية العالمية عام 2007 بمثابة التعثر الأساس في انطلاقة العولمة، إذ بدأت بعدها حصة التجارة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تتضاءل، ولم تعد تدفقات رؤوس الأموال الدولية قط إلى مستوياتها المرتفعة التي كانت عليها قبل 2007.

لاحقا، انحدرت مسيرة العولمة لأسباب عدة أبرزها: تفشي جائحة "كوفيد - 19" واندلاع حرب روسيا ضد أوكرانيا وما نجم عنها من فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا واستخدام نظام المدفوعات الدولي كسلاح، وكذلك اندلاع حرب التعريفات الجمركية بين الولايات المتحدة والصين. أضف إلى ذلك، إغفال صناع السياسات معالجة الاختلالات الناجمة عن سوء إعادة توزيع الموارد والفشل في إرساء شبكات الأمان الاجتماعي القوية. فقد تُرِكَت مجتمعات وفئات خلف الركب، مما ساهم في تغذية الشعور بالتهميش والاقصاء على نطاق واسع.

الهدف المعلن لترمب من قراراته، هو تقليص العجز التجاري الأميركي وتعزيز قدرة واشنطن التنافسية وتشجيع الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل لمواطنيه. لكن ليس مؤكدا أن مبتغاه هو ما سيتحقق، إذ إن للتعريفات الجمركية تأثيرات متفاوتة

وكانت النتيجة بروز ردود فعل عنيفة ضد العولمة، من تجلياتها خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وصعود أحزاب اليمين في عدد من الدول الأوروبية وانتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الأولى في عام 2016.

ترمب-2.0 ومزيد من التطرف في الحمايات التجارية

بعد صولات وجولات، عاد ترمب إلى الحكم إثر انتخابه رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم. وبعد أقل من أسبوعين من تسلمه السلطة في يناير/كانون الثاني، اتخذ سلسلة قرارات ترمي إلى إعادة تشكيل علاقة بلاده الاقتصادية والتجارية مع الآخرين، منفذا وعود حملته الانتخابية، في مقدمها فرض تعريفات جمركية كبيرة على الصين وكندا والمكسيك وغيرها من دول العالم.

براين ستوفر

الهدف المعلن لترمب من قراره زيادة التعريفات الجمركية، هو إصلاح العجز التجاري الأميركي وتعزيز قدرة واشنطن التنافسية وتشجيع الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل لمواطنيه. لكن ليس مؤكدا أن مبتغاه هو ما سيتحقق، إذ إن للتعريفات الجمركية تأثيرات متفاوتة. فقد تكون مفيدة لبعض الصناعات وضارة لأخرى تعتمد على مدخلات مستوردة. أيضا، عندما تزداد الأرباح، ليس هناك ما يضمن أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الاستثمار وتوفير فرص العمل، فقد يكون القرار توزيعها على المديرين والمساهمين. لا بل أن المسألة أعقد من ذلك، فالتعريفات الجمركية تتفاعل عادة مع عناصر اقتصادية أخرى. فخفض الطلب على الواردات يدفع سعر الصرف إلى الارتفاع، على النحو الذي يجعل السلع الأجنبية أرخص مرة أخرى في نهاية المطاف.

 كذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى التكنولوجيا والتمويل المحكومين بالعولمة لسداد عجزها التجاري، وأيضا للنمو. لكن التعريفات الجمركية المرتفعة تعرض هذه البرامج للخطر.

ما يبدو أن ترمب لا يفهمه، هو أن الأسواق تعمل بشكل جيد عندما يشتري أحدهم أكثر مما يبيع للآخر، والعكس صحيح. وإذا لم يعد يُسمح بالعجز التجاري، فسيتراجع الاقتصاد العالمي إلى نظام المقايضة

كويشي هامادا، بروفسور الاقتصاد في جامعة "يال"

وقد تنتقل العدوى إلى الحكومات المعنية بقرارات ترمب فترتكب خطأه وترد بإجراءات انتقامية مقابلة، وهذا ما بدأ فعلا، فتفرض تعريفات جمركية مضادة على الواردات الأميركية، كما ألمحت بذلك الصين إلى جانب الاتحاد الأوروبي، وقد تمنع مواطنيها وشركاتها من الاستثمار في الولايات المتحدة. وهذه استجابة محتملة لحرب تجارية متصاعدة، وأيضا للتصدي لهيمنة نظام دولاري قوي.

ما لا يفهمه ترمب في عمل الأسواق والضرائب

يقول بروفسور الاقتصاد في جامعة "يال"، كويشي هامادا، "ما يبدو أن ترمب لا يفهمه، هو أن الأسواق تعمل بشكل جيد عندما يشتري أحدهم أكثر مما يبيع للآخر، والعكس صحيح. وإذا لم يعد يُسمح بالعجز التجاري، فسيتراجع الاقتصاد العالمي إلى نظام المقايضة، وستتضاءل قدرة الدول على الاستفادة من إمكاناتها التنافسية". لقد سبق للولايات المتحدة عام 1930 أن حاولت رفع التعريفات الجمركية لحماية مزارعيها وشركاتها، وكانت النتيجة التي حصدتها تدابير انتقامية من جانب شركائها وآخرين، مما أدى إلى انخفاض بنسبة 66 في المئة في التجارة العالمية ما بين عامي 1929 و1934. من هنا كان توقيع عدد من الخبراء الاقتصاديين رسالة رفعوها إلى الكونغرس الأميركي يحذرون فيها من تكرار تجربة عام 1930.

رويترز
ميناء يانغ شان في ولاية شنغهاي الصينية، 7 فبراير 2025

من الواضح الآن أن الحد الأدنى للضريبة على الشركات العالمية، التي جرى التفاوض عليها من قِـبَـل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، باتت تحت التهديد. إذ يبدو أن ترمب والجمهوريين في الكونغرس حرصاء، في مقابل رفع التعريفات الجمركية، على خفض ضرائب الشركات قدر المستطاع. وإذا فعلوا ذلك، فقد يتوفر لدى الأوروبيين مزيد من الأسباب للرد بزيادة الضرائب، ليس فقط على الشركات الأجنبية في أوروبا، بل وأيضا على استثمارات شركاتهم ومواطنيهم في الولايات المتحدة. وقد يؤدي ذلك إلى إعادة بعض الأموال الأوروبية إلى أوروبا، بينما تواجه الولايات المتحدة صعوبة في محاولة موازنة حسابها الجاري.

ويمكن تصور أن تكون التعريفات الجمركية مجرد ابتزاز لانتزاع تنازلات متنوعة من الشركاء التجاريين. وهذه الآلية واردة في كتاب ترمب الشهير، "فن إبرام الصفقات". فترتبط مثلا التعريفات وزيادتها في حالتي كندا والمكسيك بتأمين حدودهما لمنع الهجرة غير الشرعية منهما إلى الولايات المتحدة، بحيث تنتفي الحاجة إلى زيادة التعريفات في حال امتثالهما. علما أن هذا السلوك من المرجح أن لا يكون فاعلا مع دول كبرى مثل الصين.

قد يكون ضمور الاقتصاد ناتجا في الحقيقة من السياسات المعادية للأجانب، ما يجذب المهاجر إما الأجر الذي يفوق بكثير ما يمكن كسبه في بلده الأصلي، وإما الفرار من الاضطهاد

آن كروغر، الاقتصادية السابقة في البنك الدولي والنائبة السابقة لمدير صندوق النقد الدولي

ومن الممكن أن تعود التعريفات الجمركية ببعض النفع على السوق الأميركية، كحال وجود صناعات ناشئة أو قطاعات تحتاج للدعم والحماية، أو مخاوف تتعلق بالأمن القومي. ولكن حتى في حالات كهذه، قد لا تكون التعريفة الجمركية الحل الأمثل.

كما أن فوائد الانفتاح على الأسواق الدولية تعود في الغالب على الداخل، والتكاليف التي تترتب على سياسات الحماية تعود أيضا عليه. من هنا، تفهم أسباب بروز احتجاجات لدى عدد من الشركات الكبرى التي تدعم ترمب والتي ستجد نفسها مضطرة إلى دفع المزيد من الأموال في مقابل ما تستورده من الخارج، مما سيفقدها القدرة التنافسية في أسواق التصدير.

ما الأسباب التي تشجع الهجرة غير الشرعية؟

شكلت الهجرة غير الشرعية عاملا رئيسا في انتخاب دونالد ترمب عام 2016، وكذلك في عام 2024. فقد استغل الرجل الحملة الشعبوية التي ترمي إلى تحميل التجارة والمهاجرين المسؤولية عن الكثير من الأزمات في بلاده. وعلى الرغم من كون تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أكثر مدعاة للقلق، فإنها لم تكن مصدرا لاحتجاجات مماثلة، وتاليا، كانت أقل جاذبية في الحملات الانتخابية.

رويترز

  

وقد يكون ضمور الاقتصاد ناتجا في الحقيقة من السياسات المعادية للأجانب، على حد قول آن كروغر، الاقتصادية السابقة في البنك الدولي والنائبة السابقة لمدير صندوق النقد الدولي. فهي ترى أن ما يجذب المهاجر إما الأجر الذي يفوق بكثير ما يمكن كسبه في بلده الأصلي، وإما الفرار من الاضطهاد. لكن مراجعة سجلات الهجرة والتأشيرات للولايات المتحدة، تظهر أن الفرصة الاقتصادية كانت الدافع السائد للغالبية العظمى من المهاجرين، بحيث تتقلص أعدادهم في حال ارتفاع مستويات المعيشة في بلادهم الأصلية. وهذا ما حصل بعد دخول اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) حيز التنفيذ، إذ بدأ عدد المهاجرين المكسيكيين إلى الولايات المتحدة في الانخفاض بشكل كبير، مما يعني أن علاج الهجرة من الدول الفقيرة هو بدفع النمو فيها من خلال فتح الاقتصادات المتقدمة أبوابها لمزيد من التجارة مع هذه الدول. مع ذلك، فإن إدارة ترمب تفعل العكس تماما حاليا.

عدد السكان في سن العمل في أميركا، كما في معظم الدول المتقدمة، سيتقلص على مدى السنوات الخمسين المقبلة، مما يخفض معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة. ويمكن، بفضل الهجرة، تغير المعادلة إلى أرقام إيجابية فتتحول الهجرة إلى نعمة لا نقمة

إثر فوزه بالرئاسة، طالب ترمب المكسيك وكندا ودولا أخرى بوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين منها إلى بلاده تحت طائلة فرض تعريفات جمركية عالية على واردات الولايات المتحدة من هذه الدول واتخاذ إجراءات أخرى رادعة. هناك من يرى أن ترمب سيعمد إلى التلويح بتخفيف العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا، ليسمح لها بتصدير المزيد من النفط إلى السوق العالمية، مما يساعد الاقتصاد الفنزويلي ويحد تاليا من الضغوط التي تدفع الفنزويليين إلى الهجرة.

أكبر عملية ترحيل في التاريخ الأميركي للمهاجرين

بعد تسلم ترمب مقاليد السلطة، بدأ تنفيذ "أكبر عملية ترحيل في التاريخ الأميركي" للمهاجرين غير الشرعيين إلى بلادهم. ويتوقع أن يشمل ذلك نحو 11 مليون شخص، وهو أمر سيلحق الضرر بقطاعات رئيسة في الاقتصاد، مثل البناء والزراعة، مما سيضغط على مناصري ترمب في مجال الأعمال للحد من استثماراتهم وتوفيرهم فرص العمل. وكان سبق لترمب أن فرض حظرا مبكرا على الهجرة من سبع دول ذات غالبية مسلمة، كما اعتمد سياسة الفصل الأسري على الحدود، الأمر الذي يظهر مدى عدائه العميق تجاه المهاجرين. وقد رفعت أخيرا دعاوى قضائية ضد عدد من أوامره التنفيذية الخاصة بالهجرة، وأصدر قاضيان فيديراليان قرارا يمنع تنفيذ الأمر الذي اتخذه ترمب بإنهاء حق المواطنة بالولادة ووصفاه بأنه غير دستوري. 

رويترز
جنود أميركيون يقتادون المهاجرين غير الشرعيين إلى طائرة في مطار تكساس لإبعادهم خارج الولايات المتحدة الأميركية، 5 فبراير 2025

يشار إلى أن عدد السكان في سن العمل في الولايات المتحدة، كما في معظم الدول المتقدمة، سيتقلص على مدى السنوات الخمسين المقبلة، مما يخفض معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة. ويمكن، بفضل الهجرة، توقع معدلات أكثر إيجابية. وكلما ارتفع المستوى التعليمي للمهاجرين، زادت مساهمتهم في الإنتاجية والابتكار فتتحول الهجرة إلى نعمة لا نقمة. 

يتعامل ترمب مع التعريفات الجمركية على أنها "سكين الجيش السويسري"، بمعنى أنه يمكنه من خلالها القيام بأمور كثيرة: إصلاح عجز أميركا التجاري، دعم قدرتها التنافسية، تعزيز الاستثمار المحلي والإبداع، دعم الطبقة المتوسطة، وتوفير فرص عمل في الداخل

البروفسور داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي والدولي في "هارفرد كينيدي سكول"

وحسنا فعل ترمب بإعلان دعمه الهجرة القانونية من أصحاب المهارات العالية لتعزيز القدرة التنافسية الأميركية، واختار في هذا الإطار سريرام كريشنان، وهو أميركي من أصل هندي وحليف لإيلون ماسك، في منصب كبير مستشاري البيت الأبيض، في مجال الذكاء الاصطناعي.

"الحلم الأميركي" والشعبوية القاتلة

يشير ميكاييل سترين، صاحب كتاب "الحلم الأميركي لم يمت، لكن الشعبوية قد تقتله"، إلى أن المهاجرين من أصحاب المهارات العالية والإبداع هم محرك للنمو الاقتصادي. فهم يسجلون عددا متزايدا من براءات الاختراع، أكبر مما يسجله الأميركيون. ويلفت إلى ما حصل عام 2023 في الولايات المتحدة، حيث نال الأجانب أكثر من ثلث شهادات الدكتوراه في العلوم والهندسة، وأكثر من 45 في المئة من شهادات الدكتوراه في الفيزياء، وأكثر من نصف شهادات الدكتوراه في علوم الكومبيوتر والاقتصاد.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يؤدي التحية العسكرية، لويزيانا 9 فبراير 2025

لكن لم يُسمح إلا لقسم صغير منهم بالبقاء في البلاد بعد التخرج، على الرغم من أنه كان في إمكانهم البدء بتقديم مساهمات اقتصادية مهمة. وقد وصف سترين هذا العمل بأنه من "أعمال التخريب الذاتي للاقتصاد"، مقترحا حصول جميع الأجانب الذين ينالون الشهادات العليا على بطاقات خضراء مع شهاداتهم.

"سكين الجيش السويسري" أم "كلاشنيكوف روسي"

يرى البروفسور داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي والدولي في "هارفرد كينيدي سكول"، أن ترمب يتعامل مع التعريفات الجمركية على أنها "سكين الجيش السويسري"، بمعنى أنه يمكنه من خلالها القيام بأمور كثيرة: إصلاح عجز أميركا التجاري، دعم قدرتها التنافسية، تعزيز الاستثمار المحلي والإبداع، دعم الطبقة المتوسطة، توفير فرص عمل في الداخل، وحتى التصدي للهجرة غير الشرعية.

تتطلب الأخطار السابقة فهم مستقبل العولمة، بالنظر إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. لكن يبدو أن ترمب أبعد ما يكون عن ذلك، وهذا ما تؤكده سرعة اتخاذه قراراته، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية

من منظور خبراء الاقتصاد، تحمل التعريفات الجمركية كما تفرض حاليا، آثارا سلبية على الاقتصاد الأميركي بمقتضى سياسات ترمب. والحقيقة أن رسوم ترمب هي أسوأ بكثير، فهي "كلاشنيكوف روسي" سريع الطلقات مصوب على العولمة التي تنضوي تحت قواعدها غالبية دول العالم منذ عام 1995، تاريخ تأسيس منظمة التجارة العالمية، لردع من تسول له نفسه الخروج من الهيمنة الأميركية من خلال التعرفة الجمركية واجراءات أخرى كالقيمة المضافة وخفض قيمة العملة والتعامل بالدولار وغيرها من التدابير.

صندوق النقد: الإجراءات الترمبية وتشكيل المشهد الاقتصادي العالمي

أقرت كريستالينا غورغيفا، مديرة صندوق النقد الدولي، أخيرا، أن الإجراءات الأميركية قد تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي في الفترة المقبلة. أما نائبتها غيتا جوبيناث، فذكرت أنه من المبكر للغاية إجراء تحليل دقيق للعواقب المحتملة لزيادة التعريفات الجمركية. أيا كان الأمر، الأكيد أن تصدعا سيلحق بالعولمة في المستقبل المنظور، نتيجة التعريفات الجمركية الأميركية والتعريفات المضادة المتوقعة من الصين والاتحاد الأوروبي على الواردات الأميركية، وأيضا نتيجة العقوبات المالية. وسيكون الاقتصاد العالمي في انتظار سيناريوهات قاتمة عدة، منها ما سيذكّر بما حصل في ثلاثينات القرن العشرين، حين انسحبت دول ومجموعات إلى الاكتفاء الذاتي أو إلى تكتلات متفرقة. وقد يفضي تغليب الحسابات الجيوسياسية إلى اندلاع الحروب التجارية، وتتحول العقوبات الاقتصادية إلى سمة دائمة للتجارة والتمويل الدوليين، فنكون أمام "عولمة متفتتة" ترتكز على تعددية الأقطاب وتؤسس لحروب العملات وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض معدلات النمو وحتى انكماشه، بفعل تقييد المبادلات والإمدادات والاستثمارات وانتقال رؤوس الأموال. وقد بدأت ملامح هذه المرحلة تظهر من خلال ارتفاع أسعار الذهب.

أ.ف.ب.

ما يحد من سوداوية السيناريوهات المتوقعة، أن الاقتصاد العالمي يتسم بقدر من الاتكالية المتبادلة. فجذور العولمة الاقتصادية ضاربة في التاريخ بصور ومستويات مختلفةـ بحسب رأي البروفسور جوزف ناي، الأستاذ في جامعة "هارفرد". وهي حاليا أكبر من أي وقت مضى، وتعززها بدرجة هائلة ثورة المعلومات واستخدام الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات العالمية، لكن ثمة الخوف والخطر من تغييرات تهدد الحياة البشرية والعالم، كانتشار الأوبئة، وتغير المناخ والاحتباس الحراري اللذين يزيدان تواتر الأعاصير وشدتها وحرائق الغابات وذوبان قمم جليدية تغرق المدن الساحلية.

تتطلب الأخطار السابقة فهم مستقبل العولمة، بالنظر إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. لكن يبدو أن ترمب أبعد ما يكون عن ذلك، وهذا ما تؤكده سرعة اتخاذه قراراته، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية.

font change