الجزائر وفرنسا على شفا القطيعة

غياب قنوات الحوار سيطيل من عمر الأزمة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
خلال تجمع لإحياء ذكرى تظاهرة 17 أكتوبر 1961 التي قتل فيها ما لا يقل عن 120 جزائريا أثناء احتجاج لدعم استقلال الجزائر، بالقرب من جسر بون نوف في 17 أكتوبر 2021 في باريس

الجزائر وفرنسا على شفا القطيعة

لم تتوقف حرب التصريحات والبيانات التي تؤجج الأزمة بين الجزائر وفرنسا. وأصبح الأمل في إطفاء لهيبها ضئيلا جدا في ظل غياب حلول دبلوماسية. فأي سيناريوهات تحملها المرحلة المقبلة؟ وهل البلدان على شفا القطيعة السياسية والدبلوماسية؟

وأخذ التوتر المزمن بين الجزائر وفرنسا منحى خطيرا وعلى ما يبدو أنه بلغ ذروته في الفترة الأخيرة في ظل غياب مؤشرات توحي بإمكانية العودة إلى ما كانت عليه العلاقات قبل سحب الحكومة الجزائرية سفيرها لدى فرنسا عقب إقدام باريس على الاعتراف بالمخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء الغربية. ولم يعد السفير إلى باريس إلى حد كتابة هذه الأسطر.

ومن بين أهم القضايا التي عمقت الهوة في العلاقة بين البلدين، التدابير التقييدية على التنقل والدخول إلى الأراضي الفرنسية، والتي تم اتخاذها في حق الرعايا الجزائريين الحاملين لوثائق سفر خاصة (دبلوماسية) تعفيهم من إجراءات الحصول على التأشيرة وفقا لما تنص عليه أحكام المادة الثامنة من الاتفاق الجزائري الفرنسي المتعلق بالإعفاء المتبادل من التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية أو المهمة، وهو الإجراء الذي وصفته الجزائر بـ"الاستفزازي" وحملت الحكومة الفرنسية مسؤولية التداعيات المباشرة على العلاقات والانسياق إلى أطروحات اليمين الفرنسي، وقالت إنها "صارت على ما يبدو محط مشاحنات سياسية فرنسية- فرنسية يسمح فيها بكل أنواع المناكفات السياسوية القذرة في إطار منافسة يحرض عليها ويوجهها ويأمر بها اليمين المتطرف". وهددت بأن "هذه الحركية التي تستدرج في سياقها، ليس فقط القوى السياسية الفرنسية، بل أيضا أعضاء الحكومة الفرنسية، سيكون لها عواقب غير محسوبة على جميع جوانب وأبعاد العلاقات الجزائرية الفرنسية".

لا شيء يلوح في الأفق ينبئ بانفراج وشيك في العلاقات بين باريس والجزائر لا سيما في ظل تصلب المواقف بينهما ما جعل التوفيق صعبا للغاية

القطرة التي أراقت الكأس

وكانت القطرة التي أراقت الكأس الممتلئ الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي إلى مدينة العيون في منطقة الصحراء الغربية وعلى خلفيتها قرر مجلس الأمة الجزائري (الغرفة العليا للبرلمان الجزائري) وقف كل أشكال التعامل مع الهيئة التشريعية لحكومة فرنسا وأيضا التعليق الفوري لعلاقاته مع مجلس الشيوخ للجمهورية الفرنسية بما في ذلك بروتوكول التعاون البرلماني الموقع بين المجلسين في 8 سبتمبر/أيلول 2015، ووصف المجلس الجزائري الخطوة بـ"انزلاق متواتر وانحراف غاية في الخطورة يعكس تصاعد اليمين المتطرف الفرنسي وهيمنته على المشهد والقرار السياسي الفرنسي"، ووصف البرلمان الجزائري هذا التصرف بـ"المرفوض وغير المستغرب، الذي يزدري الشرعية الدولية ويتعارض بشدة مع قرارات مجلس الأمن الدولي- الذي تشكل بلاده أحد أعضائه الدائمين- المفترض به مهام الدفاع عن حقوق الإنسان وحق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها، لا محاولة نسفها وإحيائها وإلغائها والتنكر لها"، وندد "بقوة بهذه الزيارة وبمبرراتها وغاياتها، وإذ رفضها رفضا مطلقا، فإنه يعتبرها تحديا سافرا وانحيازا فاضحا، بل وتناغما مع السياسات الاستعمارية".

shutterstock
مظاهرة جزائرية ضد الحكومة الحالية في الجزائر

ولا شيء يلوح في الأفق ينبئ بانفراج وشيك في العلاقات بين البلدين لا سيما في ظل تصلب المواقف بينهما ما جعل التوفيق صعبا للغاية، ويقول أستاذ التعليم العالي بالمركز الجامعي بتندوف بريك حبيب الله لـ"المجلة" إن "العلاقات ستزداد تأزما وتعقيدا وسط أفق مسدود على المدى المنظور لا سيما وأن الجانب الفرنسي يصر على مراجعة جميع الاتفاقيات الموقعة وطريقة تنفيذها (المتعلقة بالهجرة) وقد أمهل الجزائر شهرا إلى ستة أسابيع، وهو الأمر الذي رفضته جملة وتفصيلا وأكدت رفضها القاطع لمخاطبتها بأسلوب المهل والإنذارات والتهديدات، محذرة من المساس "باتفاقية 1968 التي جرى أصلا إفراغها من كل مضمونها وجوهرها، وسينجر عنه قرار مماثل بخصوص الاتفاقيات والبروتوكولات الأخرى من ذات الطبيعة".

فرنسا لم تترك للجزائر خيارا آخر غير تفعيل القطيعة الدبلوماسية وتعليق كل العلاقات السياسية والاقتصادية مع فرنسا الرسمية

كل هذه المعطيات، تؤكد حسب المتحدث "غياب قنوات الحوار بين البلدين وهو ما سيطيل من عمر الأزمة وقد يوسع أبعادها أكثر فأكثر وستخسر فرنسا الكثير لأن مثل هكذا أزمات لا تصب في الصالح العام لبلدها وستعود عليها دون شك بوابل من الإشكالات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية المعقدة"، في إشارة منه إلى وجود الجزائر اليوم في موقع قوة يسمح لها بفرض شروطها لا سيما بعد تعزيز روابطها مع شركاء نافذين على المستوى الدولي مما أفضى إلى التوقيع على العديد من الاتفاقيات الثنائية ومذكرات التفاهم والعقود الاقتصادية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: الصين وتركيا وقطر وإيطاليا.

نقطة اللاعودة

لكن هل وصلت العلاقات الجزائرية الفرنسية نقطة اللاعودة أم القطيعة؟ يجزم بريك حبيب الله أن "فرنسا لم تترك للجزائر خيارا آخر غير تفعيل القطيعة الدبلوماسية وتعليق كل العلاقات السياسية والاقتصادية مع فرنسا الرسمية ما لم يصدر عن هذه الأخيرة مواقف تسعى من خلالها إلى تخفيف حدة الاستفزازات المتكررة والتوترات المتزايدة بين البلدين، ويبدو أن لا نية عند الجانب الفرنسي في التهدئة والتخفيف من التوترات، والدليل على ذلك منعه للشخصيات الجزائرية الحاملة لجواز سفر دبلوماسي من الدخول إلى أراضيها، آخرهم زوجة السفير الجزائري في مالي وقبلها الرئيس السابق للديوان الرئاسي عبد العزيز خلاف. وجاء هذا تطبيقا لقرار كان قد أعلنه وزير الخارجية الفرنسي يخص فرض إجراءات تقييدية على حركة ودخول الأراضي الفرنسية".

أ.ف.ب
مفاوضون فرنسيون يخرجون من قصر الإليزيه برفقة رئيس الوزراء ميشيل ديبريه بعد لقائهم بالرئيس شارل ديغول في سياق محادثات إيفيان التي أفضت إلى توقيع اتفاقيات إيفيان في مارس 1962، وإلى نهاية حرب الاستقلال الجزائرية في يوليو 1962

ويطرح الكاتب والمحلل السياسي أحسن خلاص وجهة نظر مغايرة، ويقول في إفادة لـ"المجلة" إن "هناك عوائق موضوعية أملاها التاريخ والجغرافيا تحول دون وصول العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى حد القطيعة المطلقة وقطع العلاقات الدبلوماسية". وللتدليل على هذا الموضوع يشرح المتحدث قائلا: "الجزائر لا تزال تعتبر استفزازات أعضاء الحكومة الفرنسية فعلا معزولا صادرا من اليمين المتطرف وهو لا يمثل فرنسا كلها بالضرورة لذا لا يجب علينا أن نقع في فخ قطع العلاقات، وقد تجد العلاقات الجزائرية الفرنسية سبيلا لتجاوز الأزمة والعودة إلى المسار الطبيعي في حالة ما إذا تم تنظيم انتخابات برلمانية جديدة في فرنسا تفضي إلى سقوط اليمين المتطرف الذي لم يتخلص بعد من عقدة أن الجزائر مستقلة وسيدة"، ويتفق المتحدث مع الطرح الجزائري للأزمة مع فرنسا مفاده أن "النخبة السياسية الحاكمة في باريس حاليا هي رهينة لدى اليمين المتطرف"، ويقول إن "ماكرون أصبح رهينة اليمين المحافظ واليمين المتطرف لأنه لا يتمتع بأغلبية قوية".

هناك اهتمام فرنسي بملف المهاجرين واتفاقية الهجرة والإقامة والعمل المبرمة في سنة 1968، والتي تلح باريس على تعديلها لأنها تتضمن امتيازات للرعايا الجزائريين

ويوافقه في الرأي محمد زناسني، المتخصص في الدراسات الاستراتيجية والأمنية، ويقول في إفادة لـ"المجلة" إن "الحديث عن نقطة اللاعودة سابق لأوانه وإن حصل فلن يكون في صالح فرنسا التي خسرت وجودها العسكري في دول الساحل الأفريقي، بينما يتوجب على الجزائر باعتبارها أكبر دولة مغاربية وعربية ومتوسطية وأفريقية أن تمارس وتتقن دبلوماسية الاحتواء ضمن العمق الاستراتيجي الذي تنتمي إليه، والإمساك بالاختناقات الاستراتيجية والتقاطعات الجيوسياسية العالمية خدمة لمصلحتها وتعزيزا لأمنها الإقليمي ومحاولة لفك الطوق الأمني المضروب عليها والسعي لبناء تكتل تكون هي الطرف الفاعل فيه مما يعزز دورها في بنية العلاقات الدولية". أما بالنسبة للأوراق الفرنسية ضد الجزائر ما عدا اتفاقية الهجرة، فيقول زناسني إن "فرنسا لا تملك أوراق ضغط ضد الجزائر سوى ملف المهاجرين التي قد تهدد بإرجاعهم في أي لحظة وذلك لمحاولة إرباك الجزائر والتسبب في أزمة أمن اقتصادي-اجتماعي في البلاد، والحبل الآخر الذي يمكن لباريس أن تلعب عليه هو التخندق مع المغرب الذي ينتظر أي قشة يتعلق بها لتحقيق أهدافه".

أ.ف.ب
شباب جزائريون في باريس يقرأون في جريدة فرانس سوار المسائية البيان الصحفي الصادر عن حكومة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية الذي أعلن فيه قرار إرسال وفد برئاسة فرحات عباس للقاء الجنرال ديغول، في 20 يونيو 1960.

والظاهر من خلال القرارات والتصريحات الفرنسية التي لم تتوقف في الفترة الأخيرة وجود اهتمام فرنسي بملف المهاجرين واتفاقية الهجرة والإقامة والعمل المبرمة في سنة 1968، والتي تلح باريس على تعديلها لأنها تتضمن امتيازات للرعايا الجزائريين لا سيما فيما يخص الإقامة والعمل وإمكانية لم الشمل، غير أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وصف في حوار لصحيفة "لوبينيون" الفرنسية، ما تبقى من الاتفاقية السالفة الذكر بأنه عبارة عن "قوقعة فارغة" بعدما تمت مراجعتها في أعوام 1985 و1994 و2001، بحيث أصبحت غير فعالة.

وبرأي الرئيس الجزائري فإن "هذه الاتفاقية كانت تصب في الأساس لصالح فرنسا التي كانت بحاجة إلى العمالة، بينما منذ عام 1986، أصبح الجزائريون بحاجة إلى تأشيرات لدخول فرنسا، ما يلغي فعليا حرية التنقل التي كانت مضمونة في اتفاقيات "إيفيان" (التي مهدت لاستقلال الجزائر في عام 1962، وأنهت حقبة الاستعمار التي امتدت 132 عاما)، وبالتالي، تخضع هذه التنقلات إلى قواعد منطقة شينغن" الخاصة بالاتحاد الأوروبي.

font change