باسل عدرا لـ"المجلة": أعتذر عن عدم ذكر غزة خلال حفل الأوسكار

اعتبر أن التعاطف الدولي مع معاناة القطاع أسهم في الفوز

GettyImages
GettyImages
باسل عدرا

باسل عدرا لـ"المجلة": أعتذر عن عدم ذكر غزة خلال حفل الأوسكار

لم يكن يعلم حين حمل الكاميرا لأول مرة، أن ذلك سيوصله وقضيته وأرضه، إلى أحد مراكز السرد البصرية العالمية. ولم يكن يعرف، قبل سنوات، ما العنصر الذي سيتمكن من وضعه في فيلمه، ليحدث الأثر المطلوب، فكان التجريب والشغف، طريقه للدفاع عن أرضه، ونقل قصة أهله في قرى مَسافر يطا، جنوب مدينة الخليل، وسرد تعرضهم للتطهير العرقي والاعتداءات المستمرة من الاحتلال.

شهد تتويج الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى" الذي أنجزه عدرا مع ثلاثة نشطاء آخرين، أول حضور فلسطيني في تاريخ حفل الأوسكار، وذلك بعد فوزه في مهرجان برلين السينمائي الدولي.

ومنذ تلك اللحظة، أثار الفيلم جدلا بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب مشاركة المخرج والصحافي الإسرائيلي، يوفال أبراهام، في الفيلم، ومشاركته في لحظة التتويج، ليبدو الفيلم عملا فلسطينيا-إسرائيليا مشتركا.

"المجلة" حاورت المخرج الفلسطيني باسل عدرا حول ذلك كله.

بعد أن كان الغرب يتبنى الرواية الإسرائيلية كاملة، تمكنا للمرة الأولى من تقديم رواية فلسطينية، تتحدث عن قهرنا اليومي في مواجهة التطهير العرقي 

  • ما العنصر الذي جعل أكاديمية الأوسكار تمنح هذا التقدير لفيلم "لا أرض أخرى"؟

يبدو أن ما استطعنا فعله كفريق عمل، هو تقديم الرواية الحية، عبر الصوت والحركة والأنفاس الإنسانية. لقد نقلنا مشاهد التطهير العرقي، والإيذاء الممنهج بحق الفلسطينيين في مسافر يطا، من قبل المستوطنين والجنود الإسرائيليين. ويبدو أننا نجحنا في فتح أعين الغرب، وشهد مسرح الأوسكار لأول مرة مشاركة قصة فلسطينية قابلة للتداول. فبعد أن كان الغرب يتبنى الرواية الإسرائيلية كاملة، أستطيع القول إننا تمكنا للمرة الأولى من تقديم رواية فلسطينية، تتحدث عن قهرنا اليومي، ومعاناتنا المستمرة في مواجهة التطهير العرقي كفلسطينيين جميعا.

AFP
باسل عدرا ويوفال أبراهام في حفل الأوسكار

الحافز

  • ما الحافز الذي أوصلك للتتويج؟

حملت الكاميرا منذ سن المراهقة، وكان هاجسي تعريف الناس بمسافر يطا، في محافظة الخليل. كنت أعرف جيدا أن هنالك فلسطينيين أيضا لا يعرفون تلك المنطقة، لأن الإعلام لا يسلط الضوء على قهرنا اليومي. فهي تقع في المنطقة (ج)، حسب تصنيفات اتفاقية أوسلو الثانية، وتعد منطقة خاضعة أمنيا لسلطات الاحتلال، عبر حياة قاسية وملاحقات ومطاردات وتهديدات مستمرة بالتهجير.

كنت، وما زلت، أشعر بالظلم، جراء الاعتداء اليومي بالقوة والسلاح والعربدة، ذلك الاعتداء الذي نواجهه كعدد قليل من السكان في "المسافر". لم يكن بمقدورنا فعل شيء سوى التصدي والوقوف في وجه التخريب الإسرائيلي، وكان يساعدنا في ذلك ناشطون يساريون إسرائيليون، اقتنعوا بحقنا الوجودي على أرضنا، ووثقوا الظلم الذي نتعرض له، عبر تحقيقات صحافية عديدة. وأحسست بأنني بمقدوري توثيق ما أعيشه، ويعيشه أهلي، عبر الكاميرا.

مشهد من الفيلم

ومع الوقت وجدت أنني أحمل عينا ثالثة، يمكنها أن تنقل مشاعري وأفكاري لمجتمع أوسع. كنت أرغب في مخاطبة الجميع على طريقتي. لربما هذا أيضا لفت انتباه الأكاديمية، لقد وصلتهم قصة حقيقية ملموسة، ومشاهد يمكن التفاعل معها.

تعرضت للضرب والاعتداء والاعتقال من قبل المستوطنين والجنود الإسرائيليين، وكنت مقتنعا بأن الطريق طويل، لكنه ليس مستحيلا

  • ما أبرز التحديات التي واجهتموها كفريق توثيقي، حتى لحظة النجاح؟

أول إشكالية كانت المكان. فكم هو مرهق ومقلق أن تعيش في مكان دائم التعرض للمداهمات والتفتيش، وإلى العبث والفوضى من قبل المستوطن الإسرائيلي والجندي. إنها خطة ممنهجة لطردنا من أرضنا. الأمر المرهق كان تمكننا من تخبئة الكاميرات عن عيون المخربين الإسرائيليين. وهذا في بعض الأوقات كان أمرا مستحيلا، وكثيرا ما تعرضت الكاميرات للإتلاف أو المصادرة.

البعض استغرب الوقت الطويل الذي استغرقناه للوصول للنهاية خلال التصوير. لكن الكثير من المشاهد فقدت وأعيد تصويرها، بسبب المداهمات الخبيثة للجنود والمستوطنين، وهو ما زاد من صعوبة المهمة.

مرات عدة، اضطررنا إلى التوقف عن المونتاج، من أجل الوقوف والتصدي للمستوطنين. لقد كنا وما زلنا نعمل في ظروف قهرية، ومعرضين لخطر الملاحقة في أية لحظة. وقد تعرضت للضرب والاعتداء من قبل المستوطنين والجنود الإسرائيليين، ومرات أخرى للاعتقال، خلال حملي للكاميرا، وأيضا خلال دفاعي عن قريتي. لم أضعف لحظة، وكنت مقتنعا بأن الطريق طويل، لكنه ليس مستحيلا.

مشهد من الفيلم

أصوات الناس

  • كيف أسهمت التجارب الحقيقية خلال الفيلم، في إيصال القصة بأفضل صورة؟

حاولنا أن نجعل المشهد كأنه يحدث الآن، بكل مكوناته، في مسافر يطا. بأصوات الناس، وصرخات الأطفال والنساء، وزعيق الرجال، وأيضا أصوات الجنود والمستوطنين. كنا نريد أن تصل أصوات هدم البيوت، والمداهمات. كان لا بد أن تكون الصورة بكل مكوناتها مؤذية، كما هي في الواقع تماما.

ثم إن تعدد الكاميرات، خلال التصوير، كان يهدف لعدة رؤى، ليست رؤية الفلسطيني وحده لما يحدث، بل الإسرائيلي والألماني والأميركي، وغيرهم. نعم، بحثنا عن زوايا مختلفة، وعبر تعددية ثقافية، وتركنا المجال للجمهور من مختلف الانتماءات والأديان والأعراق لتحليل المشهد. كنت أريد تجريد القضية من كل الصبغات، والحديث للعالم عبر ذلك.

واجهنا في رحلتنا الكثير من المصطلحات، لكنها كانت معظمها تنظيرية، لا تتعمق في الواقع، ولا تعايش لحظة حقيقية على الأرض

  • هناك من انتقد مشاركة المخرج والصحافي الإسرائيلي يوفال أبراهام، بوصفها نوعا من أنواع التطبيع الثقافي، بماذا ترد؟

لا أستطيع منع أحد من قول رأيه، ولا أجد في الجدال الدائر أي شيء يزعجني. وللتوضيح، هنالك سياق تمضي فيه قصة أي فيلم، كما يتشكل الواقع تماما. قصة "لا أرض أخرى" تشكلت تدريجيا، من خلال مشاركة الناشطين الإسرائيليين يوفال أبراهام وراشيل تسور في الدفاع عن أهل مسافر يطا ومناطق أخرى. لقد واجها معنا أحداثا خطرة، خلال التصدي والمتابعة، وحماية مسافر يطا من المستوطنين والجنود.

نعم، كانا شريكين في العمل، فوجودهما كان مؤثرا في تقديم قصتنا، ويصعد بالرواية الفلسطينية المغمورة إلى السطح. لا أعرف هل سيكون ذلك الصعود مفيدا في تثبيت الرواية الذاتية والجمعية، لكنني أديت جزءا من رسالتي الفنية، وما يهمني في المقام الأول البقاء على أرضي. لقد واجهنا في رحلتنا الكثير من المصطلحات، لكنها كانت معظمها تنظيرية، لا تتعمق في الواقع، ولا تعايش لحظة حقيقية على الأرض. إنها التجربة التي تدفع نحو تحقيق الهدف، والآن أشعر بالفخر بأنني فلسطيني يخاطب العالم عن قضيته.

غزة

  • كانت لديك مساحة في لحظة التتويج للحديث إلى العالم أجمع، فلم تذكر سوى مسافر يطا، ولم تذكر ما يحدث من إبادة في غزة. ما تعليقك؟

أعتذر لغزة وأهلها، عن عدم طرح رسالة خاصة حول الإبادة لحظة تتويجي في الأوسكار. منحتنا اللجنة المشرفة أربعين ثانية فقط، دون توجيه أو إملاءات كما يُشاع. لكن كان عليّ قول شيء يلخص التجربة والنجاح، ولم يكن ذلك سهلا، وهي دوما إشكالية يقع فيها الفنان، إذ يحوله البعض لقائد سياسي يلقي خطابا، وهو أمر غير منطقي. أرى أن اختزال طرح مسألة التطهير العرقي الحادثة في مسافر يطا، هو تكثيف لحدث خطير يواجهه الكل الفلسطيني في يومياته. لا نستطيع سرد ما يقارب ثمانين عاما من المعاناة بوجود الاحتلال، خلال أربعين ثانية.

كنت مرتبكا وأشعر بتوتر كبير لحظة وقوفي على منصة التتويج، فهذه لحظة غير عادية، وحظيت بوقت محدود جدا، لم يسعفني لقول كل شيء.

أشعر بأن فوز "لا أرض أخرى" بجائزة الأوسكار، ارتبط بشكل أو بآخر بالتعاطف الدولي مع أهل غزة

ما أود الإشارة إليه هو أنني تحدثت عن غزة مرات عديدة خلال التتويجات السابقة والحوارات اللاحقة حول الفيلم، في ألمانيا، وبعد جائزة مهرجان برلين. وقلت بكل وضوح إن ما يحدث في غزة تطهير عرقي بحق الفلسطينيين.

وإنني أشعر بأن فوز "لا أرض أخرى" بجائزة الأوسكار، ارتبط بشكل أو بآخر بالتعاطف الدولي مع أهل غزة، بالإضافة إلى أهمية القضية إنسانيا.

AFP
صورة من الدمار في غزة

  • ما الذي يمكن للفن قوله أمام إبادة جماعية بغزة والضفة الغربية، وتطهير عرقي في مسافر يطا وغيرها، من قبل إسرائيل؟

ثمة ما يمكن ذكره، حديث يوفال أبراهام على منصة التتويج، عن التمييز بيني وبينه في الأرض المحتلة. هذه رسالة قد تكون ناعمة، لكنها طريقة الفن في قول الأشياء. يبقى الفن حاجة إنسانية للفهم والتحليل وتطوير الآراء. وجمالية الفن أنه لا يمتلك أسلحة، ولا يقاتل بالصراخ والضجيج. هو موجود عبر التاريخ وسيبقى، دوما في ركنه البعيد، يخاطب العقول والمشاعر، ويوثق قصص الناس، التي تتآكل شفهيا مع الوقت.

الفن والسياسة

  • ما جدوى الفن في هكذا ظروف قاسية يعيشها الفلسطينيون؟

أعترف بأن الخطاب الفني، وكافة وسائل الوصول للجمهور، تبدو أقل تأثيرا من خطابات السياسة وآلاتها العسكرية. وها هي أُبيدت غزة وهُجّر أهلها، ولم يتغير الموقف العالمي أمام حمامات الدم. أذكر أنه في الوقت الذي كنت أحصل فيه على تتويجات من مهرجانات عدة، قبل عام تقريبا، كانت الحرب على غزة تشتد، والإبادة والتطهير العرقي يتواصلان. هذا أمر يدعو للإحباط في جانب الأثر، لكن لا مفر أمامنا سوى الاستمرار في طرق شوكة الفن الرنانة، وإحداث الصوت الممكن.

من المستهجن أن أجد، أثناء تتويجي، الرئيس الأميركي دونالد ترمب يدعو لترحيل شعبي في غزة إلى بلاد أخرى

بذلك يمكن تلخيص دور الفن في توسيع دائرة المعرفة لدى الناس، وتحريك المشاعر نحو هدف ما، فالسينما لا تحمل ذلك السلاح القاتل الذي يمتد نحونا كفلسطينيين منذ عقود. ومن المستهجن أن أجد، أثناء تتويجي، الرئيس الأميركي دونالد ترمب يدعو لترحيل شعبي في غزة إلى بلاد أخرى، إنها طريقة فجة من طرف أقوى دولة في العالم، في التطهير العرقي، وسلب حقوق الناس.

مشهد من الفيلم

  • ماذا عن توجهاتك الفنية مستقبلا؟

لا أجد ما أقوله الآن. لقد غادرت منصة التتويج، اللحظة الأكثر حضورا في حياتي، لكنني الآن أواجه الواقع مجددا، وأعود لمواجهة المستوطنين والجنود، للدفاع عن أرضي. لا أدري أين سأكون فنيا في المستقبل. لقد نجحت في تجربة، وعليّ تعزيز هذا النجاح، هكذا يبدو، لكنني لم أفكر بعد في الخطوة المقبلة. لربما أبقى في السينما التوثيقية، ولربما عليّ تطوير ذاتي في مساحة سينمائية أخرى.

font change

مقالات ذات صلة