رواية مرشحة لـ"بوكر" تتساءل: ماذا لو اختفى الفلسطينيون؟

"سِفر الاختفاء" تستذكر نكبة 48 وما تلاها من تهجير واحتلال

غلاف رواية "سفر الاختفاء" بالإنجليزية

رواية مرشحة لـ"بوكر" تتساءل: ماذا لو اختفى الفلسطينيون؟

بدا خبر صعود النسخة الإنكليزية من رواية "سِفْر الاختفاء" للكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية محفزا لإعادة قراءة هذه الرواية، التي قيل إنها ظُلمت عربيا ولم تلق حفاوة أثناء نشرها عن "منشورات الجمل" في بيروت وبغداد عام 2014. فصعودها إلى قائمة هذه الجائزة المشهورة عالميا يعد إنجازا للسرد الفلسطيني وللرواية العربية.

الرواية، التي ترجمها إلى الإنكليزية سنان أنطون وصدرت عن "منشورات جامعة سيركيوز" في الولايات المتحدة، بُنيت على فكرة سردية متخيلة، وهي اختفاء الفلسطينيين فجأة، مما يُحدث ارتباكا في إسرائيل على مختلف المستويات. إلا أن الرواية، في تفاصيلها، تسرد ما حلّ بالفلسطينيين أثناء نكبة 48 وما تلاها من تهجير وقمع واحتلال.

تبدأ القصة باختفاء الجدة "تاتا"، التي تحب أن يناديها الجميع هكذا بدلا من "ستي". فهي تعيش مع ابنتها وزوج ابنتها، لكنها تذهب كل يوم لتتفقد بيتها القديم في أحد شوارع حي العجمي بيافا، بصحبة ابنتها. وفي أحد الأيام، تخرج وحدها دون علم أحد، مما يثير قلق ابنتها وحفيدها علاء، طالب الدراسات العليا، الذي يأتي مرتين في الأسبوع من تل أبيب لزيارة العائلة. ينطلق كل من الابنة والحفيد في البحث عنها، كل واحد في طريق، حتى يجدها علاء جالسة على كرسي قبالة البحر وقد فارقت الحياة.

الذاكرة والواقع

ترصد الرواية، من خلال السارد علاء، التوتر الذي يصاحب البحث عن الجدة هدى، بلغة مجازية سلسة تحفز القارئ على مواصلة القراءة: "أخذت أمي تتنقل من بيت إلى آخر. بدت كنملة تائهة من شدة توتّرها. خفت أن تنكسر يدها التي كانت تطرق الأبواب بعزم، كأن قبضة يدها مطرقة وليست من لحم وعظم". و"نهرتني بإشارة من يدها وكأنني ذبابة تقف في طريقها ولا تريد أن تتعامل معها الآن وهي في حالة من الرعب". ولا تتوقف الصور البلاغية والتشبيهات: "نهرتني بإشارة من ذراعها، الرفيعة كعصا المكنسة، كي أعود أدراجي".

هناك مدينتان، واحدة في الذاكرة تتحدث عنها الجدة، وأخرى معيشة في الواقع يسرد معالمها الحفيد، الذي يستخدم أساليب متعددة ليروي مشاهداته

يستذكر علاء، أثناء البحث، حكاياته مع الشوارع القديمة التي كان يمر فيها في صغره، حيث كان يرى ظله يمشي بجانب ظلال أُخرى. وأحيانا يتركه ويخرج عن طوعه كأنه ظل شخص آخر. وعندما باح لجدته تاتا بمخاوفه، قالت له: "ما تخاف حبيبي. كل أهل يافا إلّي ضلو فيها بشوفو دايما خيال بيمشي بجنب خيالهم لما بمرو من البلد القديمة... حتى اليهود بقولو إنهم بسمعو صوت بالليل...ولما بطلعوا يشوفو مين، ما بلاقو حدا...".

Getty Images
لاجئون فلسطينيون خلال نكبة 1948

هناك مدينتان، واحدة في الذاكرة تتحدث عنها الجدة، وأخرى معيشة في الواقع يسرد معالمها الحفيد، الذي يستخدم أساليب متعددة ليروي مشاهداته أو يدونها في دفتر مذكراته، إحداها مخاطبة الجدة وكأنه يكتب إليها رسالة طويلة: "قلتِ لي إنّكِ كنت تمشين في الشوارع مع والدك وتضحكين بصوت عال، والأسلاك الشائكة من حولكم لأكثر من عشرة أعوام. لا خروج من العجمي إلا بتصاريح، وحتى اسم يافا استولوا عليه عندما وضعوها تحت وصاية تل أبيب. ألهذا لا أحب تل أبيب؟ هل ورثت أنا هذه الغصة في القلب عنك؟ ولماذا أسكن فيها؟ (وليش ما تسكن فيها؟ هاي فلسطين... هاي قرى يافا وبضلها إلنا...) قلتِ لي، ثم سكتِّ، وكأن الكلام أصبح فعل ألم".

من خلال هذه التداعيات، نتعرف على الجدة التي كانت حبلى بأمّه حين ذهب جده، زوجها، إلى بيروت مع عائلتها ولم يعودوا. لقد فضّلت البقاء خوفا من إجهاض الجنين الذي في بطنها. هي لا تنكر خوفها وتتفهم هجرة الآخرين "كان الظخ فوق روسنا يا تاتا. إنت عارف كيف كانوا يقوصو علينا لما نطلع من لبيوت؟ كنا زي لفيران ما إلها حياتنا قيمة. ليش دخلك مدينة كاملة ما ضل فيها حدا تقريبا؟".

 

ماذا لو اختفوا؟

الحبكة السردية في "سفر الاختفاء"، القائمة على فكرة فانتازية تتمثل في اختفاء الفلسطينيين فجأة، لا تبدو مفزعة أو مربكة للإسرائيليين فقط، كما يظهرون في الرواية، بل لكل قارئ لها، خاصة في ظل واقع أصبح فيه الفلسطينيون مهددين بالترحيل قسريا من أراضيهم، أو مدنهم المتبقية لهم، بعد سلسلة من التهجير والاقتلاع القسري. لذا، يثير هذا الحدث المتخيل سؤالا افتراضيا: ماذا لو اختفى الفلسطينيون؟

AFP
سكان مخيم البريج للاجئين يفرون إلى مدرسة طلبا للأمان

الرواية تستذكر التنكيل بسكان المدن الفلسطينية، قتلهم وتشريدهم وسجنهم وحصارهم بين أسلاك شائكة. تسرد كل ذلك بلغة يشعر القارئ معها بالأسى، وربما الرفض، لكن ذلك لن يكون بعيدا عن الاندهاش، اندهاشه وهو يقرأ ردود فعل الإسرائيليين من اختفاء الفلسطينيين فجأة، أو وهو يجد آريئيل، الصحافي اليهودي، يذهب للمكوث في شقة صديقه علاء بعد اختفائه، ويبقى "بانتظار المجهول"، فيما تذهب أم آريئيل للاستيلاء على بيت فلسطيني اختفى هو الآخر.

الحبكة السردية في "سفر الاختفاء"، القائمة على فكرة فانتازية تتمثل في اختفاء الفلسطينيين فجأة، لا تبدو مفزعة أو مربكة للإسرائيليين فقط، بل لكل قارئ لها

في البداية، ظنوا أن العرب في حالة إضراب ولهذا تغيبوا. لكنهم اكتشفوا أن غياب سائقي الحافلات العرب لم يكن سوى جزء من الاختفاء الجماعي، يشبه اختفاء الأطباء العرب والسجناء من كل المعتقلات. اختفاء العرب الفلسطينيين جميعا. هذا الاختفاء أثار حالة من الارتباك في مختلف الأجهزة، فعقدت "الحكومة جلسة طوارئ مع قادة المؤسسات العسكرية والأمنية المختلفة للتباحث في هذا الأمر، إضافة إلى تشاور رئيس الوزراء مع قادة دول حليفة في المنطقة والدول الغربية"، حسب الخبر المذاع من قبل مذيعة تدعى تامار نتنياهو!

وتصاعد الهلع أكثر مع ظهور تأويلات لسبب الاختفاء وإمكانية ظهور الفلسطينيين مجددا لتنفيذ عمليات هجومية، بل حتى التساؤل عمّا إذا كان الفلسطينيون الذين لم يختفوا، ويعيشون "في الشتات والمهجر والمخيمات"، سيبدأون بالزحف تجاههم.

Reuters
نازحون فلسطينيون يفرون من الجزء الشرقي من خان يونس بعد أمر إجلاء أصدره الجيش الإسرائيلي

ما يلاحظ في الرواية، التي تذهب في بعض أجزائها إلى لغة هجائية مباشرة، أنها تتبع السرد من خلال أصوات سردية متعددة، سواء بضمير الأنا أو الغائب أو المخاطب عبر الرسائل، مما أعطى الرواية سلاسة فنية، جعلت القارئ متحفزا لمعرفة وجهات النظر المختلفة، بما في ذلك ما يفكر به آريئيل المثقف، الذي يعكس ازدواجية نظرة الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين وتجاه أنفسهم "غريب حالنا نحن الصهاينة الملحدين. لا نؤمن بأن الله موجود، لكننا نعتقد أنه يقوم بمعجزات من أجلنا. نعتقد أنه وعدنا بهذه الأرض. والآن تخلّص من الفلسطينيين من أجلنا".

إلى ذلك، بدت قصص أهل يافا الذين رحلوا وبقي ذكرهم، مقاومة لهذا الاختفاء. فهم يحضرون في الرواية، ببيوتهم وأسماء شوارعهم القديمة ومدينتهم يافا، التي تجسد فلسطين، بكل مدنها وقراها. فإلى جانب تاتا هدى، هناك حبيبة التي تهجو الاحتلال وتغيّر الأسماء بطريقة كاريكاتيرية، وهناك السجين وليد وغيره الذين يعيشون حياة محاصرة لا يعرفون نهايتها.

غلاف رواية "سفر الاختفاء"

يساهم صعود هذه الرواية للفلسطينية ابتسام عازم إلى قائمة جائزة عالمية مهمة، مثل "بوكر"، في الكشف عن واقع الفلسطينيين وتاريخهم، التاريخ الذي تجرى محاولات لتغييبه بقوّة القهر والاستعلاء غير الإنساني، وهي بذلك تفتح أفقا لأمل لا يخبو.

font change