"انقلاب" حرب السودان

قبل نهاية المعركة... أجندات سياسية تتقدم

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقاتل موال لقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان يحمل سلاحا على خلفية مئذنة مسجد، خلال حفل تخرج في ولاية القضارف جنوب شرق السودان، في 27 مايو 2024

"انقلاب" حرب السودان

بإجماع كل المراقبين، بدأ الجيش السوداني في استعادة المناطق التي فقدها في الشهور الأولى من الحرب وتحديدا في مناطق وسط السودان، في ولاية الجزيرة وولاية سنار وفي العاصمة الخرطوم. وظهر الجيش الذي كان يتقهقر وينسحب أمام هجمات "قوات الدعم السريع" ظهر أكثر ثباتا وقدرة على السيطرة باستثناء المعركة في الولايات الغربية في إقليمي دارفور وكردفان والولايات الجنوبية المتاخمة للحدود مع دولة جنوب السودان والتي لا يزال ميزان السيطرة فيها لصالح "قوات الدعم".

وينظر خبراء عسكريون إلى أن اللحظة الآنية من عمر الصراع تشير إلى أن الحرب تجاوزت المعارك الكبيرة وبخاصة من جهة "قوات الدعم السريع" التي تقاتل للبقاء والتشبث بالمناطق الاستراتيجية أطول فترة ممكنة، بينما يسعى الجيش إلى زحزحتها قدر الإمكان من تلك المناطق مهتما باستعادة سمعته لدى المواطن السوداني قبل استعادة الأرض. وباختصار تحول الأمر إلى معركة "عض الأصابع" بامتياز في الوقت الذي ينتظر فيه كل طرف حلولا تكفيه شر مزيد من المواجهات وإن كانا يصرحان بخلاف ذلك.

من جهة أخرى، تدور بين الطرفين- الجيش و"الدعم السريع"- معركة حامية وعنيفة ميدانها "الميديا" يتقدم فيها الجيش بخطوات واسعة مسنودا بخبرة الإسلاميين وأموال النظام السابق- حزب المؤتمر الوطني- وهي المعركة التي صورت للسودانيين أن الجيش حسم المعركة وطرد "الدعم السريع" من الأراضي السودانية وهزمه، وإن لم يكن قد حسمها كليا فهي في نهايتها. وبناء على ذلك- وليس السودانيون وحدهم حتى كثير من المتابعين من غير السودانيين على ذلك- تدافعت أجندات سياسية لحجز مقاعد متقدمة في حكومة ما بعد الحرب.

ما يصرح به البرهان في المنابر والمشاكسات حول تعديل الوثيقة الدستورية وخطوة تشكيل حكومة في مناطق سيطرة "الدعم السريع" وفك الارتباط بين مكونات "تحالف القوى الديمقراطية المدنية" (تقدم) والتحالف المدني الأوسع، صعدت إلى السطح وطغت على أخبار المعارك التي في حال نظرنا إليها من خلال عدسة مكبرة سيتبين أن مرحلة انتصار طرف على الآخر لا تزال بعيدة والحرب على بعد أسابيع من عامها الثاني.

في خطابات البرهان: "لن تعودوا للحكم إلا على أشلاء السودانيين" كانت هذه العبارة الأكثر إيلاما للإخوان المسلمين في السودان وأنصار نظام عمر البشير، أطلقها الفريق أول عبد الفتاح البرهان في وجههم في أحد خطاباته يوم 6 فبراير/شباط 2025 بعد أن بشر بأن "المعركة في نهايتها". ومنبع إيلامها أنها تتوافق مع رؤية مناوئيه من القوى المدنية والسياسية التي قادت "ثورة ديسمبر" التي أسقطتهم والتي ترى في الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/نيسان 2023 أنها حرب النظام البائد وأنصاره للعودة إلى السلطة.

لم تعد خطابات الفريق البرهان مؤخرا تخلو من التلويح للقوى السياسية بمستقبل السلطة وشروطها التي تنحصر بشكل أساسي في تأييده وإن كان يصور الأمر على أنه تأييد للجيش

ومهما يكن، فقد أثار حديث البرهان جدلا سياسيا لم تشهده الساحة منذ رصاصة الحرب الأولى وبطبيعة الحال كان حزب "المؤتمر الوطني" المحلول ومناصروه أول المعلقين على ما قاله البرهان وجاء في صفحة "المؤتمر الوطني" على "فيسبوك": "إنك تعلم يقينا حقيقة ولاء القوات المسلحة للتنظيم الذي ينضوي تحته الإسلاميون".

وتولى عدد من الصحافيين والناشطين الإسلاميين الرد على البرهان وتذكيره بأنهم "من حاربوا" وقدموا الشهداء وأنهم أحق من غيرهم بالسلطة. وبدورها أيدت القوى السياسية والمدنية التي أطاحت بنظام عمر البشير ما قاله البرهان. غير أن البرهان عاد في خطاب جديد بعد أقل من أسبوع على خطابه الأول وقال: "كل من شارك في المعركة سيكون له دور في المشهد السياسي بعد الحرب". وعلى كل حال لم تعد خطابات الفريق البرهان مؤخرا تخلو من التلويح للقوى السياسية بمستقبل السلطة وشروطها التي تنحصر بشكل أساسي في تأييده وإن كان يصور الأمر على أنه تأييد للجيش. وقال في خطاب يوم 17 فبراير/شباط 2025 إن "الذين يحاربون في الميدان هم من يحكمون السودان". وأضاف: "الذين هم في الخارج لن يحلموا بالعودة للسودان ولا بحكم السودان".

أ.ف.ب
نازحون سودانيون فروا من مخيم زمزم يتجمعون بالقرب من بلدة طويلة في شمال دارفور في 14 فبراير 2025

ولم يكتف البرهان بالرسائل السياسية التي يرسلها للفاعلين السودانيين مؤيدين ومعارضين بل تعداهم للمجتمع الدولي المتمثل في الاتحاد الأفريقي وهو المنظمة الإقليمية المنوط بها توصيف الحل للمجتمع الدولي. وفي كلمته الأخيرة وجه رسالة مباشرة للاتحاد الأفريقي بأنه "لا يستطيع فرض حكومة على السودانيين وإن كان فيها رئيس الوزراء السابق حمدوك". ومعلوم أن الاتحاد الأفريقي يعلق عضوية السودان منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وباءت بالفشل كل محاولات إقناعه بفك تجميد عضوية السودان.

تشكيل حكومة ستكون له تداعيات عديدة أولها مشاكسة حكومة البرهان وأخطرها دفع البلاد نحو الانفصال وشرعنته في أجواء الحرب وفي سيناريو شبيه بما جرى في اليمن وما يجري في ليبيا

ويتفق كثير من المحللين السياسيين على أن البرهان يستخدم ذات الوصفة التي استخدمها سلفه عمر البشير وخاصة بعد أن فرض عليه مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية في منتصف يناير/كانون الثاني 2025 عقوبات بسبب جرائم الحرب فهو يحرس كرسيه بالسلاح واستخدام أجهزة الدولة الأمنية والعدلية في المعركة ضد خصومه السياسيين في الوقت الذي يعمل على توظيف التناقضات السياسية لصالح بقائه بعد أن أمسك بخيوط اللعبة بقبضة حديدية مسنودة بالعنف.

حكومة جديدة.. تقسيم جديد

يظل الحدث السياسي الأبرز بعد انحسار العمليات العسكرية الكبيرة في حرب السودان يتمثل في تشكيل حكومة من حركات مسلحة وأحزاب سياسية وناشطين سياسيين ومنظمات مجتمع مدني مقرر لها أن تكون في مناطق "الدعم السريع" بدعمه المباشر وجاءت الخطوة بدعوى "نزع الشرعية من حكومة بورتسودان" وتشكيل حكومة من مجموعة كانت منخرطة في "تحالف القوى الديمقراطية المدنية" (تقدم) تسبب في تفككها إلى جزأين عندما رفضت مجموعة أخرى فكرة نزع شرعية حكومة البرهان عبر تشكيل حكومة موازية، وكلاهما- المؤيدين والرافضين- قررا إعدام "تقدم" بالكامل حتى لا تدخل في السيناريوهات المعتادة في هذه الحالات التي تحول المتحالفين إلى أعداء. ولكن المؤكد أن قرار الذهاب إلى تشكيل حكومة ستكون له تداعيات عديدة أولها مشاكسة حكومة البرهان وأخطرها دفع البلاد نحو الانفصال وشرعنته في أجواء الحرب وفي سيناريو شبيه بما جرى في اليمن وما يجري في ليبيا ويسعى البعض للتقليل من أثر هذه الحكومة من ناحية الاعتراف بها دوليا على الأقل، غير أنهم يتجاهلون اعتراف دولة مثل كينيا بوزنها الكبير في القارة الأفريقية ودول أخرى من المتوقع الاعتراف بهذه الحكومة وكل ذلك ربما يصب في مصلحة انفصال جديد للبلد الكبير السودان.

أ.ف.ب
مدخل مخيم زمزم قرب الفاشر، عاصمة شمال دارفور المحاصرة، في 14 يناير 2025، والموقع نفسه في 13 فبراير 2025 (أعلى) وقد لحقت به أضرار جسيمة

تعديل وثيقة الحكومة

في أجواء الانتصارات بدأت المجموعة التي تتخذ مقرها في بورتسودان تتحدث عن تعديل وثيقة الحكم التي وقعها الجيش في وقت سابق مع "قوى الحرية والتغيير" عقب الثورة والتي انقلب عليها في 25 أكتوبر 2023، والمفارقة أن من وقع الوثيقة مع الطرف المدني هو محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد "الدعم السريع" الذي يصنفه الجيش كمتمرد وعدو.

كل طرف من أطراف الحرب الدائرة في السودان يعمل على إحباط مخططات الطرف الآخر ليس فقط في الميدان ولكن على مستوى الخطاب الإعلامي وحشد المؤيدين

وفي نظر كثير من المراقبين فإن تلويح البرهان بتعديل الوثيقة محاولة ثانية للتلاعب بالطموحات السياسية للذين يقاتلون معه من الإسلاميين والحركات المسلحة والكتائب المسلحة. وفعليا فإن الحديث عن تعديل الوثيقة الدستورية خلق حراكا سياسيا طابعه المطالبة بحصة في السلطة وخاصة من الحركات المسلحة التي تريد امتيازات مقابل مساندتها الجيش في انقلاب 25 أكتوبر. وفي الحرب الحالية امتيازات تفوق ما حصلت عليه من "اتفاق جوبا" وكان حاكم إقليم دارفور قائد حركة "جيش تحرير السودان" التي تقاتل في الفاشر إلى جانب الجيش، مني أركو مناوي، أول المحتجين على إجراءات تعديل الوثيقة الدستورية دون مشاورتهم ودون تضمين مطالبهم فيها.

هل انتهت مخاطر الحرب؟

الحقيقة التي يسعى الجيش ومؤيدوه إلى تجنبها هي أن الحرب لم تنته بعد، وربما دخلت مرحلة "اضرب واهرب" والسجال في احتلال المدن والمناطق وهي مرحلة شديدة الخطورة على المدنيين. وتشير الأنباء إلى أن قائدي الحرب- البرهان وحميدتي- ينشطان في حركة مكوكية من أجل حشد مزيد من السلاح المتطور حتى يرجح كفة الحرب لمصلحته ويستعيد كل طرف سمعته وسط مؤيديه المحليين والدوليين وإن أفضى ذلك للجلوس للمفاوضات وباختصار يقول الواقع إن المخاطر لم تنته بل في طريقها إلى أن تتفاقم في مقبل الأيام مع اقتراب الأحوال من تشكيل حكومة وحديث عن ترتيبات سياسية يحاول من خلالها كل طرف تأكيد نصر لا تسنده حقائق الواقع.

أ.ف.ب
لاجئون سودانيون فروا من الحرب في السودان امام مقر برنامج المساعدة النقدية في مركز عبور للاجئين في رينك، في 15 فبراير 2024

سيناريوهات محتملة

واقع الحال يشير إلى أن كل طرف من أطراف الحرب الدائرة في السودان يعمل على إحباط مخططات الطرف الآخر ليس فقط في الميدان ولكن على مستوى الخطاب الإعلامي وحشد المؤيدين. ومن جانبه يكثف إعلام الجيش المسنود من الإسلاميين والنظام القديم، حملته في اتجاه أن الجيش استعاد زمام المبادرة وحقق النصر وهذا ربما يدفع "الدعم السريع" وخاصة بعد تشكيل حكومة على تنفيذ عمليات عسكرية وإن كانت خطرة للتأكيد على وجوده في المناطق التي يقول الجيش إنه سيطر عليها، ويؤكد كذلك أن الحرب فر وكر ولم تحسم جولاتها بعد، بينما يعمل إعلام "الدعم السريع" على رسم صورة ذهنية أن قواته الحقيقية لا تزال مدخرة وأن لديه المزيد.

كل ذلك يجعل انفجار النزاع مرة أخرى في عامه الثاني أكثر مما كان عليه في عامه الأول. وإن كان ذلك كذلك فسوف تتراجع الأجندات السياسية التي تقدمت، وتذهب كل أحاديث السياسة وما يتم تداوله في الإعلام أدراج الرياح.

font change