هذا ما يقسم سوريا

الحاكمون الجدد لا يُظهرون سلوكيات ذات قطيعة جذرية مع سوريا التي كانت

هذا ما يقسم سوريا

نعم سوريا دولة قابلة للتقسيم، سواء بشكل "شرعي" ناجز، أو عملي على أرض الواقع. فمثل كل الكيانات الأخرى، يُمكن لسوريا أن تفقد مقوماتها كدولة موحدة، كما حدث في مرات لا تُعد عبر التاريخ. أو قد تكون عُرضة لأشكال من التطلعات والاستراتيجيات الأجنبية، الإقليمية والدولية، التي قد تحرض وتدفع لحدوث ذلك، تبعا لمصالحها ورؤاها.

لكن إمكانية حدوث ذلك الأمر موضوعيا ومنطقيا بشكل مجرد شيء، وتحققه وتحوله إلى حقيقة سياسية وجغرافية على أرض الواقع، شيء آخر تماما.

بين الأمرين ثمة العامل المحلي، المتكون من مجموع الساسة ونُخب العمل العام وقادة الرأي، لكن أولا ثنائية القائمين على السلطة الحاكمة والسيادة العامة، وإلى جانبهم مؤسسات وأجهزة الدولة.

فإذا كانت كل دول العالم قابلة للتقسيم من حيث المبدأ، وثمة دون شك من يُحرض ويدفع لذلك، فإن حدوث الأمر وتحققه نادرا ما يجري على أرض الواقع، بين مرحلة تاريخية وأخرى، هو نتيجة العمل الدؤوب والفعال الذي يقوم به الفاعلون الداخليون، من خلال إنتاج شبكة لا متناهية من المصالح المادية والأواصر الرمزية بين أبناء شعب هذه الدولة أو تلك، ليصيروا حسبها ممتلئين بحس الأمان المتبادل ووحدة الحال وحتمية المصير المشترك، ويستشعرون خوفا مضمرا من إمكانية تفكك تلك الروابط عبر تقسيم بلادهم المشتركة.

الحاكمون الجدد الذين صعدوا إلى السلطة في البلاد بعد ستة عقود من الاستبداد السياسي والشمولية الأمنية، لا يُظهرون سلوكيات وتطلعات وخطابات ذات قطيعة جذرية مع سوريا التي كانت

في سوريا اليوم، لا يبدو ذلك الفاعل الداخلي بأحسن أحواله قط. بل على العكس تماما، يبدو أقرب لإتمام دائرة العوامل المحرضة والمتطلعة للإطاحة بالكيان السوري.
فإذا كانت أطراف إقليمية ودولية، لا تُحصى لكثرتها، تريد الاستثمار في الهشاشة السياسية والجغرافية والأمنية السورية الراهنة، لأن سوريا دولة بموقع جيوسياسي عُقدي استثنائي، وجامعة لعدد كبير من الحساسيات السياسية والجماعات الأهلية، وواقعة في هذا الظرف التاريخي الخاص، تُغوي كل الطامحين لمراكمة أدوات النفوذ وأعتدة السيطرة عليها، فإن القائمين على سلطاتها الحاكمة وسيادتها العامة اليوم، يبدون وكأنهم يفعلون كل شيء لأن تتحول تلك التطلعات الخارجية إلى أمر واقع على الأرض، وربما حقائق سياسية وشرعية في المستقبل المنظور. 
فالحاكمون الجدد الذين صعدوا إلى السلطة في البلاد بعد ستة عقود من الاستبداد السياسي والشمولية الأمنية، لا يُظهرون سلوكيات وتطلعات وخطابات ذات قطيعة جذرية مع سوريا التي كانت. وتاليا يثبتون مجموعة الحقائق والوقائع التي أنتجتها وأفرزتها حقبة الاستبداد الأسدي، من تفرد بالسلطة وتأميم للسياسة ومركزية في الحكم وواحدية في الرؤية الأيديولوجية، التي استولدت متضامنة كل هذه القابلية السورية للتفتت. 

فما معنى أشياء مثل أن "يُنتخب" رأس هرم السلطة الجديدة من مجموعة قادة الفصائل المسلحة، الذين اختارهم هو بنفسه ودعاهم لانتخابه؟ أو رفض السلطة الجديدة محادثة أو محاورة أي من القوى السياسية في البلاد، حتى التي قضت جُل سيرتها السياسية في مقارعة ومعارضة النظام السوري، والإصرار على أن العمل السياسي بالنسبة لها هو مجرد نقاش بين السلطة ومجموعة من الأفراد فحسب. أو عدم اعتدادها بهواجس أبناء الجماعات الأهلية الأقل عددا. أو الذهاب بعيدا في الولاء والارتباط مع طرف إقليمي جامح في تطلعاته للسيطرة على سوريا. وإلى جانبها أشياء من مثل: الهيمنة التامة على كل مؤسسات الحكم التنفيذية والتشريعية والقضائية، واحتكار تفسير الثورة السورية والاستحواذ على ثروات البلاد المادية وتركتها الرمزية، والتهرب المستدام من أي التزام قانوني تجاه المؤسسات الدولية، تحديدا الأمم المتحدة، وفيض من العسكرة في أشكال الحياة العامة، وحوار وطني شكلي، ولجنة وإعلان دستوري مطابق لما كانت عليه مواثيق الأسد... إلخ. 
موضوعيا، هل يفعل مجموع تلك التوجهات والممارسات شيئا غير زيادة "الهشاشة الوطنية" وتفتيت أواصر الثقة المتبادلة بين السوريين ومؤسسات دولتهم ومستقبل عيشهم المشترك؛ وتاليا تقزيم قدرتهم على المناعة الذاتية تجاه كل تطلع أو محاولة أجنبية. 
ولأن الكيان السوري حسب ذلك، يكون كيانا مملوكا ومحكوما من جماعة أهلية سورية واحدة فحسب- وعمليا من فئة صغيرة من أبناء تلك الجماعة- وفقير الخيال والقدرة على الاستيعاب، ومتخما بروح العسكرة والقسر، وغير قابل لأن يُعيد ترتيب نفسه في مواجهة التحديات. 
في خمسينات القرن المنصرم، شهدت سوريا مرحلة هشاشة داخلية طويلة، جرت خلالها انقلابات عسكرية متتالية، مع نفوذ واضح لكل من مصر والعراق على الحزبين الرئيسين في البلاد، إلى جانب صراع طائفي ومناطقي مستتر على حُكم البلاد. مع كل ذلك، بقيت الوحدة الكيانية لسوريا مصانة تماما. حدث ذلك بفضل قوة مؤسسات الدولة وسعة صدر النخبة الحاكمة ورحابة الحياة العامة في البلاد. 
بعد سنوات قليلة، حوّلت الأسدية سوريا إلى كتلة صماء، مغلقة على نفسها تماما، واحدية الرؤية وشديدة العسكرة والمركزية، فصنعت كل أسباب التفتت السوري.  

font change