باسكال بونيفاس لـ"المجلة": إنها نهاية عالم استمر منذ عام 1949 وعلى الأوروبيين أن يستيقظوا

أحد أبرز المحللين الاستراتيجيين الفرنسيين يفند أهداف إسرائيل من الحرب على غزة والسيناريوهات المحتملة بين ترمب وإيران

أ.ف.ب
أ.ف.ب
باسكال بونيفاس، باريس في 5 يناير 2024

باسكال بونيفاس لـ"المجلة": إنها نهاية عالم استمر منذ عام 1949 وعلى الأوروبيين أن يستيقظوا

باريس- كثيرة هي الملفات التي تناولتها "المجلة" مع باسكال بونيفاس أحد أبرز المحللين الاستراتيجيين الفرنسيين ومؤسس ومدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في العاصمة الفرنسية باريس (IRIS). من ملف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية التي لم تنته فصولها بعد، تحديدا أهداف إسرائيل من تلك الحرب، إلى ملف الحرب الروسية- الأوكرانية ولاسيما بعد التغيير الجذري الذي أحدثه الرئيس دونالد ترمب على الموقف الأميركي في هذا الملف، وتأثير ذلك على المنظومة الأمنية الأوروبية التي تواجه تحديا غير مسبوق برأيه منذ الحرب العالمية الثانية.

كذلك تطرق الحوار الذي أجري في مقرّ المعهد في باريس لاحتمالات سياسات ترمب تجاه إيران، وكذلك في مجال آخر، سيرورات صعود اليمين في أوروبا وما إذا كان لهذا الصعود صلة بانتخاب ترمب.

وفي الآتي نص الحوار:

* عندما يقول بنيامين نتنياهو إنه يريد تغيير الشرق الأوسط، ماذا تعني تصريحاته بالنسبة إليكم؟

- إنه يريد ضمان هيمنة إسرائيل الكاملة على المنطقة، وإبعاد أي احتمال لإنشاء دولة فلسطينية، كما قال بالفعل. بالتالي، فإن الشرق الأوسط الذي يتصوره، هو ذلك الذي لن تواجه فيه إسرائيل أي صعوبات، حيث تقبل الدول العربية بعدم إنشاء دولة فلسطينية، ويقبل الفلسطينيون هزيمتهم، ويتخلون عن المطالبة بدولة لهم، إما عن طريق التهجير إلى دول أخرى، وإما من خلال قبول الاحتلال طواعية أو قسرا. وهذا، في رأيي، هدف غير أخلاقي وأيضا مستحيل.

*لكن الدول العربية لم تتخل عن الدولة الفلسطينية...

- في الواقع هناك بعض الدول العربية التي وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل، متخلية عن شرط إنشاء دولة فلسطينية، وهو الشرط الذي كان قائما منذ عام 2002 بعد القمة العربية في بيروت. لكننا نرى أنه منذ أحداث ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، تغيرت الأمور قليلا. والآن تعتبر السعودية أنه لا يمكن المضي قدما نحو اتفاق مع إسرائيل، دون وجود منظور واضح لإنشاء دولة فلسطينية.

* هل تعتقدون أن إسرائيل يمكن أن تحقق مشروعها للسيطرة على الشرق الأوسط؟ لقد قلتم إنه مستحيل، لماذا؟

- يمكنهم معارضة إنشاء دولة فلسطينية، لكن هذا سيؤدي فقط إلى إطالة أمد الحروب والمواجهات وتفاقم الإرهاب، وستكون العواقب سلبية على الجميع، وليس على إسرائيل وحدها. لذلك، نعم، يمكنهم دائما معارضة قيام دولة فلسطينية، لأن لديهم الحماية الأميركية، وأيضا بسبب نوع من السلبية الأوروبية في هذا الصدد، بينما لا تستطيع الدول العربية، فرض قيام دولة فلسطينية، لفرض ذلك على إسرائيل، يجب فرض عقوبات عليها، وهو ما لم يحدث. فرضت عقوبات على روسيا بعد ضمها للقرم، لكن لم تُفرض أي عقوبات على إسرائيل، حتى بعد ضمها للقدس الشرقية، وضمها للضفة الغربية أو الجولان. وبالتالي، فإن إسرائيل تواصل تنفيذ خطتها، لكن هذه الخطة لن تؤدي إلى شرق أوسط مستقر وسلمي، بل إلى منطقة يزداد فيها العنف والصراعات.

* في ظل الهدنة الهشة في قطاع غزة، هل تعتقدون أن إسرائيل تريد نقل الحرب إلى الضفة الغربية؟

- هذا ما يقومون به الآن، حيث تم تهجير 40 ألف فلسطيني من الضفة الغربية، وأعلنت القوات الإسرائيلية، أنها ستبقى هناك إلى أجل غير مسمى. نرى أيضا أن سموتريتش يريد ضم الضفة الغربية، سواء بحكم الواقع أو بحكم القانون، وأن الهدنة في غزة تزامنت مع تصاعد العنف في الضفة الغربية، وليس فقط استئنافه بل تصعيده. ويبدو أن إسرائيل تريد السيطرة الكاملة على الضفة الغربية. هذا هو مخطط سموتريتش، والذي لا يعارضه نتنياهو، لأنه يحتاج إلى التحالف اليميني للبقاء في السلطة.

* هل ترون أن الضفة الغربية هي الهدف الرئيس لإسرائيل؟

- كل شيء هدف بالنسبة لهم. القدس الشرقية قد تم ضمها، الضفة الغربية، غزة، وكل الأراضي التي يوجد فيها فلسطينيون، والهدف هو السيطرة عليها جميعا. إنهم يستخدمون كل الوسائل الممكنة لمنع أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية.

* هل تعتقدون أن ترمب تخلى عن خطته لترحيل سكان غزة؟ أم أنه يناور بشأنها؟

- هل تخلى عنها حقا؟ أم إنه قدم شروطا يعلم أنها مبالغ فيها تماما، حتى يجعل خطة أخرى، كانت ستعتبر غير مقبولة سابقا، تبدو أقل ضررا بالمقارنة؟ أم إنه، في الوقت الحالي، نظرا لرفض الدول العربية، لم يتحدث عن الأمر، لكنه سيعود إليه لاحقا؟ في الواقع، ترمب لا يهتم بالفلسطينيين على الإطلاق.

نحن نشهد أكبر عملية تهجير للفلسطينيين منذ عام 1967، لكن وسائل الإعلام الغربية، لا تتناول ذلك كثيرا، حيث تتركز الأنظار على غزة أو حتى على أوكرانيا

* الآن، تحتل إسرائيل أراضي جديدة في سوريا، وأعلنت أنها ستبقى هناك إلى أجل غير مسمى. كما أنها تحتفظ بوجودها في خمسة مواقع حدودية في لبنان. ما هو هدفها في رأيكم؟

- هدفها هو إظهار أن إسرائيل تفعل ما تشاء، وأنه لا يوجد ضغط خارجي يمكن أن يجعلها تغير موقفها، وأن أجندتها تحددها القوى الإسرائيلية وحدها، وليس المجتمع الدولي. لذلك، تريد إسرائيل أن تثبت أنه لا يوجد قانون دولي أعلى من إرادتها، وأنها تتصرف وفقا لمصالحها الأمنية التي تحددها بنفسها، دون أي تنسيق مع بقية المجتمع الدولي.

*هل تعتقدون أنهم سينسحبون قريبا أم إن الأمر سيستمر لفترة طويلة؟

- طالما أنه لا يوجد ضغط خارجي، خصوصا من الولايات المتحدة، لإجبارهم على احترام الالتزامات التي تعهدوا بها، فإنهم سيستمرون، هل سيحاول ترمب الضغط عليهم لإثبات أنه قادر على التأثير عليهم وإرضاء بعض الدول العربية؟ربما، لكن الواقع هو أنه طالما لا يوجد ضغط خارجي حقيقي، فإن إسرائيل ستفعل ما تشاء.

* هل ترون أن اليمين الإسرائيلي يعمل على تحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى"؟

- نعم، هذا هو هدفهم، وهم يعلنون ذلك صراحة. بالنسبة لهم، فإن "يهودا والسامرة" هي إسرائيل، وفلسطين لا وجود لها. من وجهة نظرهم، الدولة الفلسطينية هي الأردن، ويمكن للفلسطينيين الذهاب إلى هناك، وفي الواقع هم يقومون بالاستيلاء التدريجي على الضفة الغربية من خلال توسيع المستوطنات، والآن عبر هدم القرى ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين. نحن نشهد أكبر عملية تهجير للفلسطينيين منذ عام 1967، لكن وسائل الإعلام الغربية، لا تتناول ذلك كثيرا، حيث تتركز الأنظار على غزة أو حتى على أوكرانيا. إنه تطهير عرقي صامت يحدث أمام أعيننا.

* هل تعتقدون أن الدعم الغربي، لا سيما الأميركي، لإسرائيل أصبح أقوى من أي وقت مضى؟ ولماذا؟

- نعم، الدعم الأميركي قوي جدا، خاصة لأن ترمب لديه قاعدة انتخابية تدعمه بقوة، وهو ذاته يُعد الرئيس الأميركي الذي قدم أكبر عدد من الامتيازات لإسرائيل خلال فترة حكمه. فهو من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وهو ما رفضه جميع الرؤساء السابقين، كما ضغط من أجل تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، دون تقديم أية تنازلات في القضية الفلسطينية. لم يسبق أن كان هناك رئيس أميركي داعم بهذا الشكل لإسرائيل، ولم يكن هناك من قبل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة بهذا الشكل أيضا.

لا أوروبا ولا الولايات المتحدة تخدمان مصالحهما الاستراتيجية من خلال هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل، لأنهما تفقدان مصداقيتهما الأخلاقية

إذن، هناك عاملان يعملان معا: لم يكن هناك في السابق حكومة إسرائيلية بهذا التطرف اليميني، ولم يكن هناك رئيس أميركي يمنحها دعمه غير المشروط بهذه القوة. حتى قادة "حزب العمل" الإسرائيلي، لم يحصلوا على مثل هذا الدعم من الولايات المتحدة. ولهذا السبب، يمكن للحكومة الإسرائيلية أن ترى في هذه اللحظة فرصة ذهبية لدفع مشروعها إلى أقصى مدى ممكن، بحيث تصبح كل عملية تهجير للفلسطينيين أمرا واقعا، وكل مستوطنة جديدة أمرا واقعا، وكل ذلك يجب أن يتسارع طالما أن ترمب في السلطة.

*هل ترون فرقا بين الدعم الأوروبي والأميركي لإسرائيل؟

- نعم، الدعم الأميركي غير مشروط تماما، لكن في الوقت ذاته، الأوروبيون رغم انتقادهم للحكومة الإسرائيلية، لم يمارسوا أية ضغوط حقيقية عليها. السبب في ذلك أن الأوروبيين منقسمون حول هذه القضية. ألمانيا، على سبيل المثال، تقول إن أمن إسرائيل هو مسألة وجودية بالنسبة لها. ومع ذلك، يمكن التساؤل عما إذا كانت السياسات الإسرائيلية الحالية، تخدم المصالح طويلة الأمد لإسرائيل، وهو أمر قابل للنقاش بشدة. وهناك إسرائيليون أيضا يقولون إن سياسات الحكومة الحالية تضر بمستقبل إسرائيل. ولكن رغم ذلك، ترفض ألمانيا توجيه أي انتقاد لإسرائيل، حيث تسعى إلى تعويض شعورها بالذنب تجاه اليهود. بالإضافة إلى ذلك، هناك دول مثل المجر، وجمهورية التشيك التي تدعم إسرائيل بشدة. أما فرنسا، التي كانت في السابق أكثر نشاطا في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، فقد أصبحت أقل انخراطا في هذا الملف.

أ.ف.ب
يسير الفلسطينيون على طول شارع الرشيد الساحلي في غزة لعبور ممر نتساريم من جنوب قطاع غزة إلى الشمال في 27 يناير 2025

بالمجمل، دور أوروبا في هذا الصراع يتمثل بشكل أساسي في تقديم المساعدات للفلسطينيين. لكن الأوروبيين لا يحتجون حتى عندما تقوم إسرائيل بتدمير المشاريع الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي، رغم أن دافعي الضرائب الأوروبيين، هم من دفعوا ثمنها. لذلك، لم تعد أوروبا اليوم لاعبا جيوسياسيا حقيقيا في المنطقة.

*غالبا ما يتم تبرير الدعم الغربي لإسرائيل، باعتبارات استراتيجية للولايات المتحدة والدول الأوروبية. كيف يمكن تفسير هذا الدعم بغير الشعور بالذنب لدى الأوروبي تجاه اليهود بعد الحرب العالمية الثانية؟ لكن هل ينطبق هذا الأمر على الولايات المتحدة أيضا؟

- في الواقع، أعتقد أنه لا أوروبا ولا الولايات المتحدة تخدمان مصالحهما الاستراتيجية من خلال هذا الدعم غير المشروط لإسرائيل، لأنهما تفقدان مصداقيتهما الأخلاقية. وفيما يتعلق بدول الجنوب العالمي، فإنهم يرون التناقض والانتهازية الواضحين بين إدانة الغرب لروسيا، بسبب قصفها للمدنيين في أوكرانيا، وبين صمتهم على القصف الإسرائيلي للمدنيين في غزة. القرن العشرون شهد نهاية الاستعمار، ونهاية احتلال الشعوب من قبل شعوب أخرى. ولكن اليوم، هناك استثناء واحد فقط لهذا المبدأ، وغير معترف به من القانون الدولي، وهو الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين، الذي لا يزال غير معترف به بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، فإن الظلم الواقع على الفلسطينيين، يزداد انتقاده في جميع دول الجنوب العالمي، في حين أن دعم أوروبا والولايات المتحدة لإسرائيل يُنظر إليه على نحو متزايد على أنه غير مبرر. وهذا يعني أننا نفقد مصداقيتنا الأخلاقية شيئا فشيئا. فكيف يمكننا إعطاء دروس في الديمقراطية، وفي حق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي حماية حقوق الإنسان، بينما نقبل بما تفعله إسرائيل؟ هذا ليس في مصلحتنا. إذن، لماذا نستمر في ذلك رغم أنه ليس في مصلحتنا؟ هناك بالطبع الشعور بالذنب، الذي تحدثتم عنه فيما يخص الهولوكوست، ولكن هناك أيضا شعور بالتضامن الحضاري لدى البعض، حيث يعتبرون إسرائيل رأس الحربة للغرب في هذه المنطقة. نرى بوضوح أن اليمين المتطرف في فرنسا وأوروبا أصبح مؤيدا بشدة لإسرائيل، على الرغم من أن بعضهم كان معاديا للسامية في السابق. السبب في ذلك هو أنهم يرون إسرائيل اليوم على أنها الدولة التي تحارب المسلمين، وتحارب الإسلام، وتحارب الجنوب العالمي. لكنني أعتقد أن مصلحتنا على المدى الطويل، ليست في هذا الاتجاه على الإطلاق، لكن اليمين المتطرف ينشط بقوة في هذا الملف.

* عمقت الحرب على قطاع غزة الفجوة بين الجنوب العالمي والغرب. ما العواقب طويلة الأمد لذلك؟ ربما أجبتم عن ذلك قبلا، لكن يمكن التوسع قليلا في هذا الموضوع...

- سؤالك مهم للغاية لأنه يمس جوهر القضية. الغرب، لفترة طويلة، كان يعطي دروسا في الحكم الرشيد، وفي الأخلاق، وفي احترام الحقوق لبقية العالم. لكن اليوم، يجد الغرب ذاته محاصرا بتناقضاته، حيث يدعم سياسة تتعارض مع كل المبادئ، التي كان ينادي بها طوال العقود الماضية. ولذلك، لن يكون من السهل بعد الآن، أن يأتي الغرب إلى الدول الأفريقية أو الدول العربية، ليقول لهم إن سياساتهم خاطئة، وإن عليهم احترام كذا وكذا، لأننا نحن أنفسنا فقدنا مصداقيتنا الأخلاقية بسبب موقفنا تجاه إسرائيل.

* لقد تمكنت إسرائيل من فعل ما تشاء في غزة دون أي رادع، وفي تحد فاضح للقانون الدولي، هل هذا دليل على أن النظام الدولي الذي قام في أعقاب الحرب العالمية الثانية يتداعى؟

- منذ البداية، كان واضحا أن هناك ثغرات، لأن القانون الدولي لم يكن يُحترم دائما. فعلى سبيل المثال، كانت حرب كوسوفو وحرب العراق عام 2003 تتعارضان مع القانون الدولي، ومع ذلك، تم تنفيذهما من قبل القوى الغربية ذاتها، التي كانت قد وضعت هذا القانون. لذلك، منذ البداية، كانت هناك ازدواجية في المعايير بين الخطاب الغربي حول احترام القانون، وبين انتهاك هذا القانون من قبل العالم الغربي ذاته. لكن هذه المرة، وصلنا إلى مستويات غير مسبوقة، حيث إن المسألة هنا تتعلق بما إذا كان مصطلح الإبادة الجماعية، الذي تم استخدامه صحيحا أم لا، وفقا لما ستقرره "المحكمة الجنائية الدولية". ولكن إذا تم إثبات ذلك، فإن هذا سيمثل وصمة لا تُمحى على شرف الحكومات الغربية التي سمحت بحدوث ذلك، لأن اتفاقية عام 1948 لا تحظر فقط الإبادة الجماعية، بل تلزم أيضا الدول بمنع حدوثها. وقد صدرت الكثير من التحذيرات من "المحكمة الجنائية الدولية"، و"محكمة العدل الدولية"، والأمم المتحدة، ومنظمات غير حكومية، تشير إلى وجود خطر إبادة جماعية، ومع ذلك لم يتم اتخاذ أي إجراء لمنعه.

قد يحاول ترمب إبرام اتفاق جديد مع إيران حول الملف النووي، والصواريخ الباليستية، ويقدمه على أنه إنجاز شخصي يجعله يبدو أكثر قوة مقارنة بأوباما

* بالانتقال إلى ملفات أخرى في المنطقة، هل تعتقدون أن هناك توسعاً تركياً في العالم العربي انطلاقا من سوريا؟

- نعم، تركيا توسع نفوذها، لأنها تلعب لعبة دبلوماسية ذكية، حيث إنها عضو في حلف "الناتو"، لكنها في الوقت ذاته لم تفرض عقوبات على روسيا، مما يجعلها في وضع يسمح لها بالتحدث إلى كل من روسيا وأوكرانيا. تعدد التحالفات هذا في السياسة الخارجية، يخدم تركيا بشكل كبير، ويمنحها نفوذا دبلوماسيا أكبر مما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا.

* هل ستتخلى إيران برأيكم عن مشروعها الإقليمي؟

- النظام الحالي في إيران لا يبدو مستعدا للتخلي عن مشروعه الإقليمي، و"حزب الله" لا يزال جزءا أساسيا من استراتيجيته. لكن في الوقت ذاته، لاحظنا أن إيران لم تدعم "حزب الله" بشكل مباشر عندما تعرض للهجوم الإسرائيلي، وهذا أظهر أن إيران لديها أولوياتها الخاصة، وأنها، مثل أي دولة، ستضع مصالحها القومية فوق مصالح حلفائها إذا تطلب الأمر.

* هل يمكن أن يتوصل ترمب إلى اتفاق مع إيران؟

- ما كان يرفضه ترمب بشأن الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما، هو أنه كان اتفاقا يحمل اسم أوباما. ولكن بما أن ترمب يسعى لنيل "نوبل للسلام" فهو لن ينجر لصراع عسكري مع إيران، فقد يحاول إبرام اتفاق جديد حول الملف النووي، والصواريخ الباليستية الإيرانية، ويقدمه على أنه إنجاز شخصي يجعله يبدو أكثر قوة مقارنة بأوباما.

إذن هناك سيناريوهان،هل سيسمح ترمب لإسرائيل بتوجيه ضربات لإيران؟ أو أنه سيمنعها من فعل ذلك ويحاول إبرام صفقة نووية جديدة مع إيران؟ وهو ما يسعى إليه الرئيس الإيراني بالنظر إلى ضعف إيران داخليا وعلى الساحة الدولية، وذلك على الرغم من أن بعض الأصوات داخلها تدعو إلى امتلاك سلاح نووي كوسيلة ردع ضد إسرائيل.

لكن في النهاية، لا نستطيع توقع ما سيفعله ترمب، لكن الخروج من الاتفاق كان خطأ منذ الأساس، لأنه كان يجنب من أمرين بالغي الخطورة: إيران مزودة بالسلاح النووي، وشنّ حرب لمنعها من الحصول عليه، نعود إلى المعضلة نفسها الآن.

دافعت فرنسا عن الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية. كان الأوروبيون يقولون إنهم لا يريدونها، وإن الشيء الوحيد الذي يثقون به هو حلف "الناتو". والآن فجأة، يقول الرئيس الأميركي إنه لم يعد يثق بـ"الناتو"

*تشهد العلاقات الأوروبية الأميركية الآن توترا غير مسبوقا على خلفية موقف ترمب من الحرب في أوكرانيا، في الوقت نفسه نشهد صعودا للأحزاب اليمينية في أوروبا بدفع من ترمب وفريقه، ألا يمثل ذلك تناقضا معينا برأيكم؟

- نعم لأننا نرى عمليا أن ترمب يدعم أحزابا معارضة في ألمانيا وفرنسا، في الوقت الذي يعلن ترمب نهاية "حلف شمال الأطلسي" من خلال القول إنه سيذهب إلى اتفاق مباشر مع روسيا في وقت أن الدول الأوروبية تعتبر أنها في حرب غير مباشرة مع روسيا. بالتالي فَهِم الأوروبيون أن الضمانة الأمنية الأميركية تجاه موسكو لم تعد موجودة، إنها نهاية عالم استمر منذ عام 1949 (تاريخ تأسيس "حلف شمال الأطلسي")، أي إن منظومة الأمن الأوروبي التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية قد انتهت، ولذلك على الأوروبيين أن يستيقظوا.

* كيف تقيم التحول في موقف الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا في عهد ترمب؟

- إنه تحول استراتيجي جذري. ننتقل من دعم غير مشروط لأوكرانيا، يشمل إرسال مساعدات عسكرية ودعم دفاعي قوي، إلى موقف يقول: لا يهمنا أوكرانيا، الأهم هو علاقتنا مع موسكو. وهذا يعد تغييرا جذريا في التوجه الأميركي، لأننا نشهد انتقالا من موقف إلى عكسه تماما.

* ما دوافع ترمب الحقيقية؟

- تقليل الإنفاق الأميركي في أوكرانيا، وتحقيق صفقة مع روسيا، حيث توجد مصالح اقتصادية معها مرتبطة بمواردها الطبيعية. كذلك محاولة تفكيك التحالف بين روسيا والصين، أو إبعاد روسيا عن الصين لأن الكثير من المنظرين الجيوسياسيين الأميركيين يعتبرون أن واشنطن دفعت موسكو نحو بكين، بينما التحدي الأكبر للولايات المتحدة ليس روسيا بل الصين، وبالتالي هناك مصلحة جيوسياسية بالنسبة للولايات المتحدة لاستمالة روسيا وإبعادها عن الصين.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلتقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في البيت الأبيض في واشنطن العاصمة، في 24 فبراير 2025

* التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بترمب، كما حصل اللقاء الشهير بين زيلينسكي وترمب؟ ماذا استخلصتم من كل هذه اللقاءات؟

- لم نحصل على شيء. حسنا، من الجيد التحدث، لكننا لم نتمكن من تغيير رأي ترمب بشأن أوكرانيا وروسيا. لذلك، يجب أن ننظم أنفسنا. وأعتقد أنه ليس من المفيد محاولة تغيير رأي ترمب، لأنه لن يغير رأيه. لذا، لا ينبغي الظهور أمامه في موقف ضعف. هناك تغيير كامل للوضع بالنسبة للأوروبيين. لكن يجب أن ينظموا أنفسهم بسرعة لمواجهة هذا التغيير الجذري في الموقف الأميركي.

* هل سيتمكن الأوروبيون من تنظيم أنفسهم في مواجهة تحديات التغيير في الاستراتيجية الأميركية؟

- لسنوات، دافعت فرنسا عن الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية. كان الأوروبيون يقولون إنهم لا يريدونها، وإن الشيء الوحيد الذي يثقون به هو حلف "الناتو". والآن فجأة، يقول الرئيس الأميركي إنه لم يعد يثق بـ"الناتو"، ولا يريد أن يكون مقيدا به. وهكذا، هناك فرصة تاريخية لفرنسا لتنفيذ مشروعها الجيوسياسي. لقد كانت الاستقلالية الاستراتيجية، تُعتبر مجرد وهم أو حلم، لكنها أصبحت الآن ضرورة، لأنه لم يعد هناك بديل آخر.

*هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتطور استراتيجية دفاعية متماسكة، لسد الفراغ الأميركي المحتمل؟

- إنه ملزم بذلك، فطوال 75 أو 80 عاما، كانت أوروبا تعتمد على الحماية الأميركية، والآن يقول الأميركيون أن هذا انتهى. الأمر يشبه مراهقا يُطرد من منزل والديه، ويُجبر على تدبير أموره بنفسه، ولم يعد بإمكانه الاعتماد على حاميه. إذن، لا يوجد خيار آخر. يجب أن ننظم ذاتنا، لأنه لا يوجد بديل آخر.

*هل ستتقلص الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن؟

- أعتقد أنها ستتضاءل بسرعة، لأنه مرة أخرى، في السابق كان البعض يدافع عن الاستقلالية الأوروبية، والبعض الآخر عن العلاقة عبر الأطلسي، ولكن بمجرد أن يقول الرئيس الأميركي، إنه لم يعد هناك رابط عبر الأطلسي، فهذا يشبه إلى حد كبير، اللحظة التي قال فيها الأمين العام لـ"الحزب الشيوعي" في الاتحاد السوفياتي إنه لم يعد هناك شيوعية. وهكذا، كان على دول أوروبا الشرقية أن تتصرف بطريقة مختلفة. والآن لدينا إشارة من الدولة الرائدة في الحلف الأطلسي بأنه لم يعد هناك حلف أطلسي بالشكل الذي نعرفه، بالتالي يجب التيقن من الواقع، هذا هو الواقع الآن.

نرى أن اليمين المتطرف، يتقدم في جميع أنحاء أوروبا. فهو في السلطة في إيطاليا، وقد يصل إلى السلطة في فرنسا بحلول عام 2027 إذا استمرت الأمور على هذا النحو.

* هل ستلعب بريطانيا أوراقها مع أوروبا أو الولايات المتحدة؟

- سوف يضطرون للقدوم إلى أوروبا. لا يزال بإمكان إنجلترا أن تقول: لدي بطاقة خاصة للعب مع الولايات المتحدة، ولكن ترمب غير مهتم، وبالتالي فإن ذلك سيكون وهماً من جانبها. برأيي لم يعد الرابط الخاص مع الولايات المتحدة، الذي كان يشكل العمود الفقري للبريطانيين موجودا.

*هل نشر قوات أوروبية في أوكرانيا ممكن؟

-حتى اللحظة الذين يطالبون بنشر مثل هذه القوات يقولون أنهم يحتاجون إلى دعم أميركي، بينما يقول الأميركيون أنهم لن يقدموا على ذلك، وبالتالي هذا الطرح ليس واقعيا حتى الآن لأن روسيا ترفضه والولايات المتحدة لن تدعمه.

*لقد وضعت كتابا بعنوان "جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي"، هل أصبح التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي شرطا ضروريا لكي يكون أي بلد لاعبا قويا على الساحة الدولية؟

- نعم، البلدان التي ستفشل في مواكبة ثورة الذكاء الاصطناعي سيتم تهميشها، تماما كما حدث مع الدول التي لم تستطع اللحاق بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. لذا، فهو أمر حتمي. أوروبا متأخرة، لكنها أدركت تأخرها.

* هل ستكون قادرة على تعويض هذا التأخر؟

- في الوقت الذي يشهد فيه الأمن الأوروبي تحولا جذريا، يجب على أوروبا أن تواجه في الوقت ذاته نهاية سياساتها الأمنية القديمة، وكذلك السعي للحاق بالولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي. لديها الإمكانيات التقنية، نظرا لوجود عدد كبير من العلماء والمهندسين فيها، لكنها حتى الآن لم تتمكن من إنشاء شركات عملاقة في هذا المجال. لذلك، يجب أن تزيد استثماراتها. ولا ينبغي أن تأتي الاستثمارات في مجال الدفاع على حساب الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي.

* بالعودة إلى صعود اليمين في أوروبا، إلى أين يتجههذا الأمر؟

- المثال الألماني الأخير كان لافتا للنظر، خاصة في بلد مثل ألمانيا، التي كان لديها تاريخ طويل من العداء لليمين المتطرف والنازية. نرى أن اليمين المتطرف، يتقدم في جميع أنحاء أوروبا. فهو في السلطة في إيطاليا، وقد يصل إلى السلطة في فرنسا بحلول عام 2027 إذا استمرت الأمور على هذا النحو.وبينما كنت أعتقد أن النظام الانتخابي الفرنسي، القائم على جولتين، يحمينا من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، أصبح اليوم احتمال وصوله في عام 2027 أمرا لا يمكن استبعاده على الإطلاق.

* هل ترون أي صلة بين انتخاب ترمب وصعود اليمين المتطرف في أوروبا؟

- هناك أسباب وطنية في كل بلد تفسر صعود اليمين المتطرف، ولكن لا يمكن إنكار وجود تزامن بين الظاهرتين، وعلى سبيل المثال فإن رفض الهجرة هو عامل مشترك بينهما.

* هل يمكن أن تنشأ حالة شبيه بترمب في فرنسا أو أوروبا عموما؟

- لا أعتقد ذلك، مارين لوبان ليست ترمب، لأنها تحاول تجنب الإفراط في التصريحات الاستفزازية كما يفعل ترمب. إنها تحاول تقديم صورة أكثر اعتدالا، بينما يسعى ترمب عمدا إلى إثارة الجدل. ومع ذلك، من حيث كراهية الإسلام، وكراهية المهاجرين، وكراهية الآخرين، وتقليص الإنفاق الاجتماعي، فإنها تتشابه معه إلى حد كبير، لكن شخصيتها تختلف. فهي تحاول أن تبدو أكثر اتزانا، في حين أن ترمب يسعى إلى التصرف بشكل صادم.

يتم استبعاد السلام، لأن السلام الحقيقي، يتمثل في حل قضية الدولة الفلسطينية، وهذا ما لا تريده الحكومة الإسرائيلية

*ماذا عن تأثير فرنسا في الشرق الأوسط؟

- فرنسا ليست غائبة تماما، لكنها أقل تأثيرا مما كانت عليه في الماضي. لقد أصبحت أقل نشاطا بشكل واضح في القضية الفلسطينية، مقارنة بما كانت عليه سابقا. علينا أن نعترف بأن فرنسا لا تزال موجودة، لكنها لم تعد مؤثرة كما كانت في بداية هذا القرن.

* لماذا؟ هل الأسباب داخلية أم خارجية؟

- إنه مزيج من الأسباب الخارجية والداخلية، بالإضافة إلى الشعور بالإرهاق، والاتهامات المستمرة بمعاداة السامية، إذا تناولنا قضية فلسطين، فإن التحول نحو اليمين المتطرف جعل الطبقة السياسية الفرنسية أكثر تأييدا لإسرائيل مما كانت عليه قبل 25 عاما.

* نختم بالملف الفلسطيني، هل تطبق إسرائيل استراتيجية الحرب الدائمة؟

- على أي حال، يتم استبعاد السلام، لأن السلام الحقيقي، يتمثل في حل قضية الدولة الفلسطينية، وهذا ما لا تريده الحكومة الإسرائيلية. حتى أولئك الذين يعارضون نتنياهو، لا يريدون قيام دولة فلسطينية. لذلك، هناك بالفعل عدة أشكال للحرب. هناك الحرب المباشرة كما يحدث في غزة أو جنين، وهناك الحرب المستمرة حتى دون قتال مباشر، حيث يكون الاحتلال في حد ذاته، شكلا من أشكال الحرب. احتلال شعب لشعب آخر هو نوع من الحرب المستمرة.

* هل ترون أي أفق للسلام في الوقت الحالي؟

- هناك إسرائيليون يناضلون من أجل السلام، وهم يستحقون الاحترام، لكنهم أقلية. وحتى الآن، لا يبدو أن هناك أية بوادر للتغيير، لأنه لا يوجد أي ضغط خارجي على إسرائيل. لماذا قد يغيرون موقفهم طالما أنه لا يوجد ضغط عليهم، لا سيما من الدول الغربية؟

font change