"الإطار التنسيقي" في العراق... بين السلطة وفقدانها 

تكمن مشكلة "الإطار" في التصور أن بمقدوره تقديم الخطوات الإصلاحية

إيه.ب.أي
إيه.ب.أي
متظاهر يلوح بالعلم العراقي خلال تظاهرة في ساحة التحرير وسط بغداد في 1 أكتوبر 2023

"الإطار التنسيقي" في العراق... بين السلطة وفقدانها 

على مدى الأشهر الأخيرة، منذ فوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، يهيمن على "الإطار التنسيقي"، أي التحالف البرلماني الشيعي الحاكم في العراق، خليطٌ من قلق وعجز وحيرة عميقة.

برغم العلاقة الباردة عموما، وأحيانا الخطاب العدائي لبعض زعماء الإطار ضد الولايات المتحدة، كان ثمة تواصل بين الدولة العراقية، عبر الحكومة ورئيس وزرائها وصناع القرار في واشنطن، في البيت الأبيض ووزارة الخارجية.

كان هذا التواصل يساعد "الإطار التنسيقي" على فهم أولويات واشنطن، بخصوص العراق والتعاطي مع هذه الأولويات، ولو عبر أنصاف الخطوات العراقية المعتادة، لكن في سياق ينزع احتمالات حدوث الأسوأ بين الطرفين، ويبقي على الشراكة العلنية، المؤطرة عبر اتفاق الإطار الاستراتيجي الموقع بينهما في عام 2008، مفيدة عموما برغم تراجع جدواها. حتى في عهد إدارة ترمب الأولى (2017-2021)، كانت قنوات الاتصال مفتوحة بين الزعامات السياسية في البلدين، لكن مع الإدارة الثانية الحالية لترمب، انقطعت هذه القنوات تقريبا، حتى مع استمرار التواصل بين العراق والمسؤولين الإداريين الأميركيين في سياقات روتينية لا تتصل بالقرار السياسي.

وبعد فوز ترمب في نوفمبر الماضي بالرئاسة الأميركية، حاولت أطراف "إطارية" وحكومية وسياسية عراقية، التواصل مباشرة مع الفريق السياسي للرئيس المنتخب، لكن من دون نجاح، ليستمر الأمر هكذا حتى بعد تنصيب ترمب، إذ بقيت خطوط التواصل مع الزعامة السياسية في واشنطن مقطوعة.

في الحقيقة، حتى يوم 25 فبراير/شباط عند حصول الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي يُعد أول تواصل رسمي بين الزعامتين، كان المصدر الرئيس للمعلومات عن واشنطن التي يحكمها ترمب، المُتيسر للطبقة السياسية العراقية، بحكامها وسياسييها، هو الإعلام، حالها حال العراقيين العاديين، وبعض التصورات العامة و"المعلومات" غير المؤكدة التي كان ينقلها "وسطاء" مفترضون (في العادة، تزدهر مهنة هؤلاء الوسطاء في أوقات الغموض والقلق). حتى عندما جاء ذكر سعي أميركا الصريح لـ"ضمان عدم استخدام إيران النظام المالي العراقي للتهرب من العقوبات أو الالتفاف عليها" في المذكرة الرئاسية التي أصدرها ترمب، في الرابع من فبراير لإعادة فرض عقوبات الضغط الأقصى، على ايران، فإن هذا الذكر لم يسبقه تنبيه أميركي للعراق، من أن نظامه المالي سيكون علنا في دائرة الرصد والضغط الأميركيين، إذ عرف الساسة العراقيون الحاكمون بهذا الأمر من الإعلام كأي شخص آخر.

في النص التلخيصي للمكالمة الذي نشرته الخارجية الأميركية، وكذلك السفارة الأميركية في بغداد، غابت لغة التنسيق والتعاون والتشاور، لتحل محلها لغة صريحة ومباشرة في تبنيها نبرة الإملاء والطلب

يشي كل هذا بتغير جدي في نوع العلاقة بين واشنطن وبغداد، من التعاون والشراكة والتمكين (مساعدة أميركا للعراق في ملفات معينة) إلى أخرى تقوم على الضغط والإملاء، وحتى التهديد عند الحاجة، أي باختصار علاقة طرف قوي غاضب ونافد الصبر (أميركا)، بطرف آخر ضعيف ومشكوك في مصداقيته (العراق). كان هذا التحول واضحا في الطريقة الرسمية التي نقل فيها الطرفان محتوى الاتصال الهاتفي بين روبيو والسوداني، ففيما أكد البيان العراقي، متمسكا بصيغة الشراكة القديمة الدبلوماسية الطابع والمهذبة الكلمات، على أنه جرى في الاتصال "البحث في العلاقات الثنائية بين العراق والولايات المتحدة وسبل تعزيزها وتطويرها"، و"مناقشة مجالات التنسيق بين العراق والإدارة الأميركية الجديدة، وأطر التعاون في سياق الاتفاقات الثنائية"، كان البيان الأميركي مختلفا جدا، حد التناقض. ففي النص التلخيصي للمكالمة الذي نشرته وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن، وكذلك السفارة الأميركية في بغداد، غابت لغة التنسيق والتعاون والتشاور، لتحل محلها لغة صريحة ومباشرة في تبنيها نبرة الإملاء والطلب، خصوصا في ملف العلاقة المختلة بين إيران والعراق، من خلال الإشارة الواضحة إلى "موضوع الحد من النفوذ الإيراني الخبيث"، و"ضرورة أن يصبح العراق مستقلا في مجال الطاقة (أي التوقف عن استيراد الغاز والنفط الإيرانيين) وإعادة فتح خط الأنابيب بين العراق وتركيا بشكل سريع". 

 رويترز
البرلمان العراقي

وقد سارعَ العراق إلى تحقيق أسهل الطلبات الأميركية في الاتصال: إعادة فتح أنبوب النفط نحو تركيا، الذي ينقل النفط المستخرج من حقول إقليم كردستان. ويُفترض أن يؤدي استئناف التصدير عبر هذا الأنبوب، إلى منع استفادة إيران من شراء النفط المهرب، المستخرج من حقول الإقليم بأسعار منخفضة جدا (نحو 14 دولارا للبرميل الواحد)، لتبيعه بسعر السوق، الأعلى كثيرا، لزبائن إقليميين أو دوليين. لكن الطلب الأصعب (الحد من النفوذ الإيراني الخبيث) يقع خارج قدرة رئيس وزراء العراق على تنفيذه، وهنا كان السبب الأبرز، وراء دعوة هذا الأخير، زعماء "الإطار التنسيقي" إلى اجتماع لمناقشة محتوى المكالمة الهاتفية. 

سيحاول "الإطار التنسيقي"، القيام بخطوات تُضعف النفوذ الإيراني، تحت ضغط الاضطرار الشديد الذي يشعره بإزاء إدارة أميركية متصلبة يقودها ترمب، يصعب توقع سلوكها

يدرك هؤلاء الزعماء الخطوات المطلوبة أميركياً منهم، بخصوص كيفية الحد من هذا النفوذ: تفكيك الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران، وإيقاف تهريب الدولار إلى الجمهورية الإسلامية، ومنع استخدام المؤسسات الرسمية وغير الرسمية العراقية لإمضاء المصالح الإيرانية، بضمنها الالتفاف على العقوبات الأميركية ضد إيران. ويستطيع "الإطار التنسيقي" القيام بهذه الخطوات، إذا قرر العمل موحدا بهذا الصدد، لإنجاز إصلاح مهم وبنيوي، يتسق أيضا مع المصالح العامة العراقية، لكنه لن يفعل ذلك بسبب طبيعته المفككة وافتقاده للرؤية الاستراتيجية الواحدة، وتناقض مصالح أعضائه المختلفين، خصوصا حلفاء إيران الوثيقين كالفصائل المسلحة، داخل "الحشد الشعبي" وخارجه، الذين تتضرر مصالحهم من إصلاح كهذا..

ومع ذلك سيحاول "الإطار التنسيقي"، القيام بخطوات تُضعف النفوذ الإيراني، تحت ضغط الاضطرار الشديد الذي يشعره بإزاء إدارة أميركية متصلبة يقودها ترمب، يصعب توقع سلوكها، ولن تتردد في اتخاذ إجراءات كبيرة ومفاجئة تؤدي في آخر المطاف لانهيار "الإطار التنسيقي" كمجموعة حاكمة، وذلك كنتيجة عرضية، وليس قصدية، لهذه الإجراءات. لا يعني هذا بالضرورة، كما يتصور الكثيرون، انهيار نظام ما بعد 2003 الذي تبدو فرص بقائه عالية. حسب معلومات رَشحت من أوساط الإدارة الأميركية، فإن طبيعة هذه الإجراءات مالية واقتصادية، وليست عسكرية أو استخبارية، إذ يُعتقد أن هناك قائمة أميركية تضم نحو 200 اسم لشخصيات ومؤسسات عراقية، بعضها مؤثر وبارز، مرتبطة بإيران، مرشحة لوقوع عقوبات أميركية عليها على نحو تدريجي وتصاعدي. 

أ ف ب
عناصر من قوات "الحشد الشعبي" يحملون نعش أحد رفاقهم، الذي قتل في غارات جوية أميركية استهدفت مجموعات مدعومة من إيران، بغداد في 25 يناير

تكمن مشكلة "الإطار" هنا بالضبط، أي في التصور المغلوط، بأنه سيكون بمقدوره تقديم هذه الخطوات الإصلاحية المفترضة (إعادة هيكلة الحشد وتجميد الفصائل، وليس بالضرورة حلها، وتقليل تهريب الدولار إلى إيران... إلخ)، في سياق تفاوض أو أخذ وردّ مع الأميركيين، بوصفه تقدما حقيقيا في الحد من النفوذ الإيراني، ويقنع بالتالي واشنطن بالتخلي أو التراجع عن ممارسة الضغط المالي أو الاقتصادي على العراق، ومنحه المزيد من الوقت لتفكيك تدريجي وطويل الأمد للنفوذ الإيراني بمساعدة أميركية. 

لم يتعلم "الإطار التنسيقي" الدروس من معنى هذه الاحتجاجات الوطنية والمُلهِّمة للقيام بالإصلاحات الضرورية والصحيحة التي طالب بها المحتجون، إذ سرعان ما عاد، بعد استرداده قوته، إلى أساليب القسر الأمني والشيطنة الإعلامية والرشاوى المالية والاقتصادية

من الواضح من سرعة الإيقاع الأميركي الجديد في ظل إدارة ترمب، واستعداد الأخيرة لاتخاذ خطوات ضاغطة ذات طابع حاسم، ورفضها التعاطي مع العراق كشريك، بل على أساس الإملاءات بوصفه تابعا لإيران، وليس حليفا لأميركا، أن هذا السياق، لكسب الوقت وترتيب الأشياء، لن يكون متوفرا. 

فعلى الأغلب، سيجد "الإطار التنسيقي" الذي صنع الكثير من الخصوم الداخليين، العلنيين والمستترين، من صدريين وتشرينيين وأناس عاديين ناقمين على بؤس الخدمات، وسوء الإدارة، وشح الفرص الاقتصادية وانتشار الفساد في ظل حكمه، فضلا عن "شركاء" سياسيين من أكراد وسنة، يتبرمون من سطوته وتغوله عليهم في لحظات قوته، كما ظهر هذا كثيرا في السنوات الثلاث الأخيرة، سيجد نفسه وحيدا وضعيفا بإزاء ضغوط أميركية تصاعدية المنحى، تهدد جديا قدرة الدولة التي يقودها على الإيفاء بالتزاماتها المالية، كدفع رواتب الموظفين والإعانات الاجتماعية، وسواها من الالتزامات التي تبقي جزءا كبيرا من الجمهور العراقي صامتا. في لحظة صعبة كهذه، تعجز فيها الدولة العراقية، الهشة أصلا، عن الإيفاء بالتزاماتها المالية، ليس مستبعدا حدوث اضطراب داخلي شعبي كبير يستفيد منه خصوم "الإطار" الداخليون للإطاحة بحكمه. ولن يكون حينها بمقدور إيران الضعيفة والمحاصرة أميركياً، والمهددة بمطرقة عسكرية إسرائيلية أن تقوم بالكثير، لإنقاذه من العسر الشديد الذي ينتظره.

AFP
عناصر من "الحشد الشعبي" يحملون صور القتلى الذي سقطوا في ضربات أميركية أثناء تشييعهم في بغداد في 4 فبراير

على امتداد تاريخه الطويل البالغ عشرين عاما كتحالف شيعي حاكم بتسميات مختلفة، مرَّ "الإطار التنسيقي" بتحديين كبيرين، هددا حكمه على نحو جدي. كان التحدي الأول في 2014 عند سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش" الإرهابي، وتمدد هذا الأخير ليحتل ثلث مساحة البلاد، مهددا بقوة سلطة النخبة السياسية الشيعية الحاكمة، أو ما عُرف حينه، على نحو مغلوط، بحكم الشيعة. حينها استطاعت هذه النخبة مواجهة هذا التحدي، وهزيمته بسبب تضامن الجمهور الشيعي معها، الذي أجلَّ غضبه المشروع منها على خلفية فسادها، وسوء إدارتها للدولة، من أجل رد عدو مشترك وأكبر، وبفضل الدعم الدولي والإقليمي القوي للعراق بقيادة الولايات المتحدة، عبر تحالف واسع للقضاء على التنظيم الإرهابي، الذي امتدت دولته، باسم خلافة إسلامية جديدة.

ثم جاء التحدي الثاني، الأكثر خطورة، عبر احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول في 2019، عندما اتقدت مستعرة نار الغضب الشعبي الشيعي المؤجل سابقا، ضد سلطة هذه النخبة بعد رفضها تعلم الدروس من التحدي الأول، وامتناعها عن إجراء إصلاحات حقيقية وعميقة، في منظومة الحكم والإدارة. وهزَّت هذه الاحتجاجات السلطة بشدة، بحيث أجبرتها لأول مرة على تقديم تنازلات جدية لاستيعاب المد الشعبي الشيعي العالي، وما لبثت أن تراجعت عنها تاليا بعد تجاوزها الخطر المباشر. 

احتمال توصل أميركا وإيران إلى صفقة كبرى تتضمن- فضلا عن تفكيك البرنامجين النووي والصاروخي الباليستي الإيراني- إنهاء نفوذ إيران الإقليمي، لا يزال واردا ومطروحا على الطاولة

وما ساعد "الإطار" على مواجهة هذا التحدي الثاني بنجاح هو دعم إيران القوي، سياسيا وأمنيا وإعلاميا، لسلطة "الإطار"، وبقاء الاحتجاجات عموما، باستثناءات قليلة خصوصا في بغداد، شيعية الجمهور والغضب، مع بقاء السنة والأكراد كجمهور في موضع الترقب والانتظار، حتى مع وجود تعاطف ضمني مع المحتجين. مرة أخرى، لم يتعلم "الإطار التنسيقي" الدروس من معنى هذه الاحتجاجات الوطنية والملهمة للقيام بالإصلاحات الضرورية والصحيحة التي طالب بها المحتجون، إذ سرعان ما عاد، بعد استرداده قوته، إلى أساليب القسر الأمني والشيطنة الإعلامية والرشاوى المالية والاقتصادية.

يمر "الإطار التنسيقي" هذه الأيام بتحديه الثالث، والأشد تهديدا، إذ هو بدون حلفاء خارجيين أقوياء يدعمونه كما حصل في التحديين السابقين، الأول والثاني، بل تحول أحدهم وأقواهم، الولايات المتحدة، إلى خصم غير معلن له، فيما أصبح حليفه الإقليمي، إيران، في موضع ضعف شديد يجعله عاجزا عن تقديم مساعدة مهمة له في ساعة عسره المقبلة. 

التحول الأخطر الذي يرفض "الإطار التنسيقي" الإقرار به، في ظل استمرار تغوله الداخلي، هو تمدد الغضب الشعبي ضده وضد حلفاء المصلحة الشكليين، السنة والأكراد، إلى مناطق أخرى خارج النطاق الجغرافي الشيعي، وما يبدو استعدادا لتحول هذا الغضب، إلى أفعال احتجاجية ملموسة حين تحين اللحظة المناسبة.

غيتي
الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (يمين) في بغداد، العراق في 11 سبتمبر 2024

لا يعني كل هذا أن الأشياء محسومة ومفروغ منها، فاحتمال توصل أميركا وإيران إلى صفقة كبرى تتضمن- فضلا عن تفكيك البرنامجين النووي والصاروخي الباليستي الإيراني- إنهاء نفوذ إيران الإقليمي، لا يزال واردا ومطروحا على الطاولة، وإن كان هذا الاحتمال في تراجع الآن. 

وسيشمل إنهاء هذا النفوذ تفكيكه في معقل إيران الأخير والقوي في المنطقة، العراق، بالتراضي وبقرار إيراني صارم، سينفذه "الإطار التنسيقي" بسرور للحفاظ على سلطته. لكن مرة أخرى، تعوز "الإطار التنسيقي" الحكمة عندما يُعلق مصيره على اتفاقات الآخرين، ويكتفي بانتظار مرير وصعب، انتظار العاجزين، بخصوص ما سيقرره هؤلاء الآخرون بشأنه.

font change