زلازل المشرق والهوية والدولة الحديثة

الزلازل كشفت هزال بنى المشرق السياسية والاجتماعية

زلازل المشرق والهوية والدولة الحديثة

عندما تتعاقب المجازر الطائفية والمصالحات الأهلية بوتيرة سريعة، فذلك يعني أن التغييرات التي يدور الحديث عنها في المشرق منذ نهاية العام الماضي، دخلت طورا يستدعي إعادة نظر في الطريقة التي نفكر فيها بأحوالنا في هذه المنطقة، على الأقل منذ أربعة عقود.

ثمة ازدحام في الأحداث غير المتوقعة. فبعد الجرائم التي ارتكبتها فصائل محسوبة على الحكومة السورية ردا على كمائن تعرضت لها وحدات "الأمن العام" السوري في السادس من مارس/آذار، ظهر اعتقاد يلامس البداهة، يقول إن المكونات السورية الأخرى، خصوصا الأكراد الذين يملكون أكبر قوة منظمة خارج إطار الدولة الوليدة (قوات سوريا الديمقراطية)، وقسم كبير من أهالي محافظة السويداء، سيتمسكون بمواقفهم المطالبة بالحفاظ على أوضاعهم الحالية، أي الاعتراف بكياناتهم السياسية، والأمنية المستقلة عن حكومة أحمد الشرع في دمشق. ما حدث هو العكس: اتفاق على انضمام "قسد" إلى الدولة، وانباء عن تفاهم على تسوية الأوضاع في السويداء، بما يرضي الوجهاء والقوى المحلية. وليس كبير الأهمية هنا الجدال حول إذا كانت التغيرات تلك مخططا لها أو تجري ضمن سياق "التفاعل المتسلسل" الناجم عن حدث مؤسس، هو حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 في غزة أو غيره.

وليس بعيدا عن الصواب القول إن ما جرى في الساحل، كان له وقع شديد السوء على صورة السلطة الجديدة، التي عجلت من مفاوضاتها مع "قسد" ووجهاء السويداء، وربما قدمت تنازلات للتوصل إلى اتفاق سريع، قادر على طي صفحة الارتكابات في مدن وبلدات العلويين.

إذا وسعنا الصورة، وانتقلنا إلى العراق، سنعثر على حكومة تعاني من تفاقم الخلافات، بين مكونات من نوع آخر. فالأحزاب والفصائل المشاركة في "الإطار التنسيقي" الشيعي تتباين مواقفها من الاستجابة للضغوط (وربما التهديدات) الأميركية الرامية إلى تفكيك التحالف العراقي– الإيراني، وعمود أساسه في بغداد هم "الإطار". ذلك أن القوى المنضوية تحت راية الائتلاف المسيطر على الحكومة العراقية– ناهيك عن القوى غير المشاركة في الحكومة مباشرة– لا تتبنى موقفا واحدا من كيفية الاستجابة للمطالب الأميركية.

هذه النماذج تتطلب التفكير فيما تعنيه الدول في العالم العربي، خصوصا المشرق، الذي لم يبرأ من سلسلة من الزلازل، كشفت هزال بناه السياسية والاجتماعية الحديثة، المستمدة من إرث الاستعمار- المذموم في العلن، والمؤسس الحقيقي لدولنا في الواقع

وبغض النظر عن الطابع الآني للخلاف الحالي، فإنه يُظهر أن المكون الواحد قابل للتفسخ والانهيار، في لحظة ضعف راعيه الخارجي، ونهوض التناقض بين المصالح المحلية ("الوطنية" تجاوزا) وبين مصالح الراعي، الذي عمل على تأسيس الفصائل الشيعية، خصوصا أجنحتها المسلحة، لأهدافه الخاصة التي تقاطعت في مرحلة سابقة مع رؤى القوى المحلية. 
النموذج الثالث الذي يستحق النقاش هو السودان. فالعملية الانتقالية من الحكم العسكري إلى الحكومة المدنية، التي كان من المفترض أن تقود البلاد إلى سلطة، تستند إلى شرعية دستورية وانتخابية، أجهضت في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 الذي نظمه الجيش مع "قوات الدعم السريع" ضد حكومة عبد الله حمدوك. والقضاء على العملية الانتقالية، تحول إلى منافسة على الامتيازات والمكاسب، انفجرت حربا أهلية بين "الدعم السريع" والجيش في 15 أبريل/نيسان 2023.
النماذج هذه، والتي يجوز إضافة لبنان إليها، كمزيج من انهيار القوى المهيمنة، بفعل التدخل الإسرائيلي والصعوبة الشديدة التي تلاقيها الدولة، التي يحاول ترميمها رئيس الجمهورية جوزيف عون، ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام بصعوبة شديدة وبإمكانات متواضعة، تتطلب كلها التفكير فيما تعنيه "الدولة" في العالم العربي، خصوصا المشرق، الذي لم يبرأ من سلسلة من الزلازل، كشفت هزال بناه السياسية والاجتماعية الحديثة، المستمدة من إرث الاستعمار- المذموم في العلن، والمؤسس الحقيقي لدولنا في الواقع- بما فيها مؤسسات الدولة، والطبقات الاجتماعية القائمة على الإنتاج، وعلاقاته وشبكاته والأحزاب والنقابات، ووسائل الإعلام المستقلة، في مقابل بنى تقليدية راسخة، تجددها إخفاقات التيارات السياسية الحديثة، في التعبير عن المصالح والمخاوف العميقة، لشعوب تتجدد فيها الحروب الأهلية كل بضعة عقود. الصراعات الإقليمية والدولية تصب في مصلحة البنى القديمة، على ما نرى في لبنان والعراق، مثالا لا حصرا. 

هل هو صراع بين "البنى الحديثة" الطبقية والسياسية التي ترسم معالم الدول الديمقراطية– الليبرالية، وبين الهويات الموحية بالأزلية، والجمود في هذا الشرق؟

أمام واقعٍ هذه بعض صفاته، يقف من يسعى إلى وضع الإنسان (قبل أن يكتسي بصفة "المواطن") في المقام الأعلى، أمام معضلة من عناوينها الهوية، وأسبقية الحفاظ عليها من الذوبان في هويات أخرى هي في الغالب، موضع احتقار وتبخيس. كما أن الخشية من الاقتلاع والفناء تحرك الهويات هذه. 
بكلمات ثانية، لم تفلح التشكيلات الاجتماعية التي قالت الحداثة الأوروبية إنها هي ما يستحق التمثيل السياسي، سواء في النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، من خلال التناوب بين أحزاب اليمين واليسار على السلطة، في عملية ديمقراطية مستقرة، في أن تجد أرضا خصبة في بلادنا، على الرغم من أن هيئات الحرفيين وجمعيات التجار، كانت شائعة في الاجتماع المشرقي والعربي منذ القدم. 
هل هو صراع بين "البنى الحديثة" الطبقية والسياسية التي ترسم معالم الدول الديمقراطية– الليبرالية، وبين الهويات الموحية بالأزلية، والجمود في هذا الشرق؟ هل هناك من تسوية تتجاوز الإخفاقات التي تملأ البصر حولنا، وتعيدنا إلى الصفر كل عقدين أو ثلاثة؟ لعل من الأفضل تجنب الإجابة القاطعة والباتة في هذا المجال، والبقاء في حال من التحفز والعمل الفكري الجاد كعنصرين لازمين لتحديد المخارج من حال الاستعصاء الراهنة. 

font change