مولدوفا وأرمينيا... هل تستطيع جارتا روسيا الصغيرتان أن تحلما بالاستقلال الاقتصادي؟

تقل حصة روسيا عن 4% من التجارة الخارجية لمولدوفا في حين تزيد حصة الاتحاد الأوروبي على 54%

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
في الوسط رئيسة مولودوفيا مايا ساندرو تحتفل بفوزها بولاية ثانية، في العاصمة المولدوفية كيشيناو 3 نوفمبر 2024

مولدوفا وأرمينيا... هل تستطيع جارتا روسيا الصغيرتان أن تحلما بالاستقلال الاقتصادي؟

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ردا على سؤال أحد الصحافيين في ديسمبر/كانون الأول 2023، في مؤتمره الصحافي السنوي: "مولدوفا هي إحدى أفقر الدول في أوروبا، إذا كانت الدولة الأفقر في أوروبا، التي تحصل على طاقة رخيصة منا، تريد أن تحذو حذو ألمانيا وتحصل على الطاقة من الولايات المتحدة بسعر أعلى بمقدار 30 في المئة، فلها مطلق الحرية في ذلك. أما بالنسبة إلى أرمينيا، فهناك عمليات معقدة... لا أعتقد أن من مصلحتها إنهاء عضويتها في رابطة الدول المستقلة والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي". وكان رده ينضح بالثقة – وذكر أن مولدوفا لم تقدم أي قيمة لعلاقاتهما الاقتصادية، وأن أرمينيا لن تعاني إلا إذا حاولت الانفصال.

بعد مرور أكثر من عام، تواصل مولدوفا وأرمينيا الابتعاد عن قبضة موسكو في عالم يكتنفه عدم اليقين ولا يمكن التنبؤ بتطوراته السياسية والتجارية، هل تشهد سنة 2025 تطورات مهمة على هذه الجبهة وكيف سيؤثر ذلك على اقتصادي هاتين الدولتين الصغيرتين؟

هل الغاز هو نبيذ مولدوفا الجديد؟

طالما كانت الطاقة الورقة الرابحة في جعبة روسيا عندما يتعلق الأمر بليّ ذراع أوروبا. وفي حين أن غزو أوكرانيا في سنة 2022 دفع العديد من الدول الأوروبية إلى إيجاد حلول بديلة، فإن مولدوفا اضطرت إلى ذلك مع اقتراب نهاية سنة 2024. فقد أوقفت شركة "غازبروم" الروسية المملوكة للدولة إمدادها بالغاز عبر أوكرانيا بدءا من 1 يناير/كانون الثاني 2025، بعدما رفضت أوكرانيا تجديد عقد العبور. واختارت الشركة عدم التوريد عبر خط أنابيب الغاز "ترانس بلقان" من طريق تركيا، متذرعة بأن على مولدوفا دينا غير مدفوع بقيمة 11.1 مليار دولار أميركي، وهو ما تنفيه الحكومة المولدوفية.

غيتي
محطة غاز في عاصمة مولودوفا كيشيناو، 17 أكتوبر 2024

لكن وضع الطاقة في مولدوفا أكثر تعقيدا من مجرد إمداد المنازل والشركات بالغاز. فمحطة "كوتشورغان" للطاقة موجودة في إقليم ترانسنيستريا الانفصالي، الذي تدعمه روسيا. وقد ظلت ترانسنيستريا تتلقى الغاز من "غازبروم" مجانا لمدة عشرين عاما تقريبا (أدرج دينها رسميا تحت حساب مولدوفا، وهو ما يفسر التناقض أعلاه) وكانت تستخدمه لتوليد الكهرباء التي تشتريها منها مولدوفا بأسعار أرخص من السوق الأوروبية. لكن بانقطاع إمدادات الغاز، توقف العمل في محطة "كوتشورغان" للطاقة، وهو ما اضطر مولدوفا لشراء الكهرباء من رومانيا بأسعار أعلى بكثير تؤثر على اقتصادها.

هل تدفع روسيا مولدوفا إلى أحضان أوروبا بسبب أزمة الطاقة؟ أم أن الكرملين يعد خطة أخرى؟ هذا هو عام الانتخابات البرلمانية الرئيسة في مولدوفا

تدخلت المفوضية الأوروبية بإستراتيجيا شاملة مدتها عامان وحزمة بقيمة 250 مليون يورو من أجل "فصل مولدوفا عن انعدام أمن الإمدادات الروسية للطاقة وإدماجها تماما في سوق الطاقة في الاتحاد الأوروبي". وتهدف الإستراتيجيا إلى دعم الكهرباء المنزلية في سنة 2025 بموازنة قدرها 15 مليون يورو وتقديم مساعدة مالية وللشركات الزراعات الغذائية والشركات الصناعية، و50 مليون يورو للاستثمارات في الطاقة المستدامة. وتشمل أيضا عرضا بقيمة 60 مليون يورو لدعم ترانسنيستريا.

يجب أن يكون ذلك مألوفا لدى الكرملين لأن التاريخ يعيد نفسه. في سنة 2006، حظرت روسيا النبيذ المولدوفي لأسباب عدّها الكثيرون سياسية. بدا الأمر في ذلك الوقت ضربة قاصمة، لأن 80 في المئة من نبيذ البلاد يصدر إلى روسيا. وقد رفع الحظر في سنة 2007 ولكن أعيد فرضه لأسباب سياسية مرة أخرى على ما يبدو في سنة 2013. لكن صانعي النبيذ المولدوفيين تعلموا الدرس، ففي هذه المرة، قطع 28 في المئة من صادرات النبيذ فحسب. واليوم، أصبح الاتحاد الأوروبي أكبر سوق للنبيذ المولدوفي ولا تشكل الصادرات إلى روسيا إلا 10في المئة تقريبا. وقد عزز هذا التحول إنتاج النبيذ في البلاد. وأوضح خبير النبيذ جاستن كياي أن "الاضطرار إلى إيجاد مستهلكين جدد وأكثر انتقائية دفع إلى ارتفاع كبير في الجودة"، وأضاف أن نحو 20% من سكان البلاد يعملون الآن مباشرة أو غير مباشرة في هذه الصناعة.

عام الانتخابات والتحديات في مولدوفا

هل تدفع روسيا مولدوفا إلى أحضان أوروبا بسبب أزمة الطاقة؟ أم أن الكرملين يعد خطة أخرى؟ هذا هو عام الانتخابات البرلمانية الرئيسة في مولدوفا وستشهد توترات بالنظر إلى مقدار تقارب النتائج في الانتخابات الرئاسية لسنة 2024، وإن أسفرت النتائج في النهاية عن استفتاء مؤيد لأوروبا وضمنت استمرار الرئيسة مايا ساندو في منصبها. وقد زعمت وزارة الخارجية المولدوفية أن روسيا "تدخلت بشكل غير قانوني ومتعمد" في تلك الانتخابات، وهو أمر مرجح أيضا في الانتخابات البرلمانية في سنة 2025. وربما يراهن الكرملين على أن الزيادة الحادة في الأسعار الناجمة عن أزمة الطاقة ستسبب باستياء كاف لإخراج الحكومة القائمة حاليا من السلطة. فهل ستكون حزمة الإنقاذ التي تقدمها المفوضية الأوروبية كافية لمنع حدوث ذلك؟

رويترز

تقل حصة روسيا الآن عن 4 في المئة من التجارة الخارجية لمولدوفا، في حين تزيد حصة الاتحاد الأوروبي على 54 في المئة. ويشكل الاتحاد الأوروبي أيضا مصدر نحو 87 في المئة من الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد. وينتظر أن ينتهي عقد مولدوفا مع "غازبروم" في سنة 2026، ومن المرجح للغاية ألا يمدد إذا احتفظ القادة المؤيدون لأوروبا بالسلطة. كما أن مشاريع البنية التحتية الإستراتيجية مثل خط فولكانشتي-كيشيناو لنقل الطاقة، الذي يتوقع انتهاؤه في أواخر سنة 2025 بتكلفة 61 مليون يورو، ستضمن عدم استمرار مولدوفا في الاعتماد على روسيا للحصول على الطاقة. لكن هل تكون تلك فرصة لمولدوفا وترانسنيستريا، اللتين قد ينتاب سكانهما شعور بتخلي حماتهم الروس عنهم، للسعي إلى مستقبل أوروبي مشترك؟

روسيا وأرمينيا - خصمان سياسيان وشريكان اقتصاديان

يبدو الوضع في أرمينيا مختلفا تماما عن الوضع في مولدوفا. فقد أخذت الحكومة في يريفان تنتقد علاقاتها الأمنية مع روسيا علنا بعد حرب 2020 في ناغورنو كاراباخ، وخاصة بعد دخول الجيش الأذربيجاني جيوبا عدة من الأراضي الأرمينية، من دون أي رد من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي هيئة شبيهة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) ترأسها روسيا.

بعض الدول سيحاول استخدام الاعتماد الاقتصادي لأرمينيا بوصفه أداة للنفوذ السياسي بطريقة أكثر وضوحا وعلانية

جهاز الاستخبارات الخارجية الأرميني

لكن يبدو أن اقتصاد أرمينيا مرتبط ارتباطا وثيقا بروسيا. ففي نهاية سنة 2024، صرح نائبا رئيس الوزراء الأرميني والروسي بأن التجارة المتبادلة بلغت مستويات مرتفعة جديدة، إذ تضاعفت إلى 10.9 مليارات دولار منذ سنة 2023. وتستحوذ روسيا على 40 في المئة من صادرات أرمينيا وتمتلك الشركات الروسية بنية تحتية إستراتيجية في أرمينيا، بما في ذلك شبكة السكك الحديد ونظام توزيع الغاز. وتبلغ حصة الاتحاد الأوروبي من صادرات أرمينيا نحو 7.5 في المئة فقط.

هل تنضم أرمينيا إلى الاتحاد الأوروبي

غير أن ثمة شيئاً ما يتغير تحت السطح. فقد أيد رئيس الوزراء الأرميني اخيرا تقديم مشروع قانون يدعو إلى "بدء عملية انضمام أرمينيا إلى الاتحاد الأوروبي"، وقال إن ذلك يعكس رغبة الشعب في شأن مستقبل البلاد. وقال وزير المالية فاهي هوفانيسيان إن النمو الذي شهدته التجارة مع روسيا أخيرا مرتبط بإعادة التصدير إلى حد كبير. وكانت اثنتان من شركات الهاتف المحمول الثلاث في البلاد مملوكتين لشركات روسية، لكنهما الآن مملوكتان لجهات أرمنية. وكانت الشركات الروسية تسيطر تماما على واردات النفط في السابق، لكن أسماء عالمية مثل "شل" و"غلف" دخلت السوق الأرمينية في العامين الماضيين.

رويترز
من اليمين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجانب وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان، في موسكو 21 يناير 2025

أوضحت روسيا بجلاء أن البدء بأي عملية للتكامل مع أوروبا لا يتوافق مع عضوية أرمينيا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. ولا يزال كثر من المواطنين الأرمينيين يذكرون الأنباء غير المتوقعة في سبتمبر/أيلول 2013 عندما أعلن الرئيس آنذاك، سيرج سركيسيان، فجأة، قرار الانضمام إلى الاتحاد الجمركي، أي سلف الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، مع أن البلاد كانت تتفاوض على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي لمدة أربع سنوات قبل ذلك القرار. وقد ألمح عندئذ إلى أن ثمة مخاوف أمنية في صميم قراره، مرتبطة بـ 150 ألف أرميني يعيشون في إقليم ناغورنو كاراباخ، وهو جمهورية غير معترف بها ترتبط بعلاقات وثيقة مع أرمينيا.

أرمينيا نوعت خياراتها الأمنية

لم يعد إقليم ناغورنو كاراباخ عاملا فاعلا في أعقاب حرب سنة 2020 والتهجير القسري لسكانه الأرمن في سنة 2023. وقد نوعت أرمينيا خياراتها الأمنية في غضون ذلك، فجمدت عضويتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي واشترت أسلحة من فرنسا والهند، في مقابل الاعتماد على روسيا في الماضي.

ويبدو أن شركاء دوليين آخرين يكثفون جهودهم على الجبهة الاقتصادية. فقد أقر البنك الدولي إستراتيجيا الشراكة مع أرمينيا للفترة الممتدة بين سنتي 2025 و2029، التي تخصص ما يصل إلى 1.7 مليار دولار لدعم النمو المستدام، بما في ذلك الاستثمار في البنية التحتية وتعزيز الصمود الاقتصادي. وتلك زيادة كبيرة مقارنة بـ 400 مليون دولار خصصت في السنوات الخمس السابقة. وتعتزم مؤسسة التمويل الدولية توفير استثمارات أخرى تتراوح بين 500 و700 مليون دولار.

هل يوجد مستقبل لمولدوفا وأرمينيا في أوروبا أم ستظلان جزءا من دائرة النفوذ الروسي على الدوام؟

نشر جهاز الاستخبارات الخارجية الأرمينية الذي أنشئ حديثا تقريره الأول في وقت سابق من هذا العام، وأشار إلى العقوبات المفروضة على روسيا بوصفها تحديا كبيرا لاقتصاد أرمينيا. وقال أيضا إن أرمينيا تعاني من الضعف في مجال الطاقة، لأن "الاعتماد على الطاقة لا يزال أداة مستخدمة على نطاق واسع للتأثير السياسي في العلاقات العالمية والإقليمية"، وفي ذلك انتقاد مبطن لروسيا. وأشار التقرير أيضا إلى الانتخابات العامة المقبلة في سنة 2026 وقال إن "بعض الدول سيحاول استخدام الاعتماد الاقتصادي لأرمينيا بوصفه أداة للنفوذ السياسي وربما التدخل بطريقة أكثر وضوحا وعلانية في الشؤون الداخلية لأرمينيا والتأثير على شرائح واسعة من الجمهور".

هل توقع معاهدة سلام مع أذربيجان؟

يبدو أن الحكومة الأرمينية تضع نصب عينيها توقيع معاهدة سلام مع أذربيجان، وهو ما يسمح أيضا بتطبيع العلاقات مع تركيا وربما يؤدي إلى فتح الحدود مع هاتين الدولتين بعدما أغلقت في أوائل تسعينات القرن العشرين. وسيتيح ذلك فرصا جديدة للتجارة والاستثمار، وربما يقلل اعتماد البلاد على موسكو. ولا يتناسب ذلك مع خطة روسيا لإبقاء أرمينيا في حظيرتها.

أ.ف.ب.
الجيش الأذربيجاني يقوم بعرض عسكري في ناغورنو كاراباخ، 8 ديسمبر 2023

ترى روسيا نفسها "الأخ الأكبر" لكل من مولدوفا وأرمينيا الذي يسعى للحفاظ على دائرة نفوذه. ومع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ستتجه الأنظار إلى أوكرانيا، حيث يمكن أن تكون الشروط للإنهاء المحتمل للحرب حاسمة في تحديد النفوذ الاقتصادي والسياسي لروسيا في السنوات المقبلة.

ومن العوامل الحاسمة الأخرى الدور الذي تراه الإدارة الأميركية الجديدة لنفسها في هذا الجزء من العالم. إذا قرر ترمب أن روسيا يجب أن تحتفظ بدائرة نفوذها، فقد تعود مولدوفا وأرمينيا إلى الحظيرة الروسية، وستصبح طموحاتهما في الاستقلال الاقتصادي شيئا من الماضي.

font change