"الوحشي"... معمار بصري وتلفيق فكري

محاولة لترسيخ وهم أن العالم متوحش وإسرائيل ملاذ وحيد

Universal Pictures
Universal Pictures
مشهد من الفيلم

"الوحشي"... معمار بصري وتلفيق فكري

أكثر من مرة تكلم برادي كوربيت مخرج فيلم "الوحشي" (The brutalist) عن الصعوبات الإنتاجية التي واجهته حين شرع في العمل على مشروعه. لم يتحمس المُنتجون، حسب زعمه، لرؤيته السينمائية التي تنهض من بين عناصر أخرى على التصوير بتقنية "VistaVision"، القديمة نسبيا، ابتكرها مهندسو شركة "بارامونت" في خمسينات القرن الماضي، ثم تجاوزها الزمن سريعا. لكن كوربيت اختارها، لتكون أقرب لأجواء الفيلم الذي يدور في الحقبة الزمنية التي شهدت ظهور هذه التقنية.

والحقيقة أن التصوير بهذه الطريقة منح النظرة إلى الفيلم بُعدا أكثر بانورامية، وجاء مناسبا لاستعراض فكرة المعمار المهووس بها البطل. والحقيقة أيضا، أن الفيلم صُنع بميزانية صغيرة، ولم يتكلف إنتاجيا أكثر من عشرة ملايين دولار.

لعل المنتجين لم يتحمسوا فعلا لمشروع "الوحشي"، لكن من الصعب تصديق أن كوربيت نفذ مشروعه من دون تصور مسبق عن حجم الحفاوة التي ستلاقيه بها مهرجانات السينما المتخصصة وأشد النقاد نخبوية، وحتى جوائز الأوسكار. اليوم لم يعد "الوحشي" حصانا رابحا فقط رغم عدم الإيمان الأول به، بل صار يشبه بطله لازلو توث (آدريان برودي)، المهندس المعماري اليهودي الناجي من جحيم "الهولوكوست" في أوروبا إلى الولايات المتحدة. هو الذي صارع العالم، وكسره العالم، لكن من غير أن يمنعه من ترك آثاره المعمارية الفذة (التي تنتمي أسلوبيا إلى العمارة الوحشية ومن هنا عنوان الفيلم)، كأنما انتقاما من المذلة التي عاناها لأنه يهودي. هذا العالم الذي يختزل في الفيلم، إلى أميركا، وبصورة أكثر تحديدا إلى الحلم الأميركي.

بين المظلومية والعظمة

يُحدد هذا الشعور بالمظلومية، عند المُخرج وبالمثل عند بطله لازلو، وما يتبعه به من شعور بالإعجاب الذاتي، الكثير من سمات فيلم يتخذ طابعا ثأريا من أميركا، ومن حُلمها. لكن أميركا المقصودة هنا، ليست البلد الذي نعرف، أو حتى السياسات الأخيرة ضد المهاجرين مثلا، لأن لازلو في الحقيقة مهاجر، قبل أن يضيف إليه الفيلم نعت "اليهودي". فأميركا هنا هي العالم أجمع (ربما لا يرى صاحب الفيلم من العالم سواها)، الذي أذل لازلو توث، وأهانه، مجددا ليس لأنه مهاجر (كما يحدث للمهاجرين حاليا في أميركا) بل أساسا لأنه يهودي.

من الصعب تصديق أن كوربيت نفذ مشروعه من دون تصور مسبق عن حجم الحفاوة التي ستلاقيه بها مهرجانات السينما

إن معظم مَنْ يلتقيهم لازلو، طوال رحلته- من بعد نجاته من معسكر نازي في بلده الأصلي المجر، وإبحاره على متن السفينة إلى أن يصل إلى أميركا، ليرى لأول مرة تمثال حريتها مقلوبا (في رمزية مباشرة وسطحية للغاية) كما نرى على الملصق- يحتقرونه. بدءا من قريبه الذي تخلى عن يهوديته، واندمج أكثر في المجتمع الأميركي، ثم زوجة هذا القريب الكاثوليكية، وصولا إلى عائلة رجل الأعمال هاريسون لي (يؤدي دوره غاي بيرس). والأخير سيلتفت إلى موهبة لازلو المعمارية المُبهرة، لكنه سينتقم منه أيضا، على هذه الموهبة.

Universal Pictures
مشهد من الفيلم

صحيح أن لازلو يتمتع بموهبة معمارية استثنائية، كما يستعرض الفيلم هذا المعمار، بطريقة مبهرة بصريا، لا تخلو من تجريب، ومن جمالية، تفوق في الكثير من المشاهد، افتعال لقطة تمثال الحرية المقلوب ذاك، والإشادة بهذا الجانب من الفيلم تكاد تستحوذ على معظم الآراء النقدية التي تناولته إيجابا. قسَّم المخرج الفيلم- وهو أيضا مؤلفه بالاشتراك مع مونا فاستفولد- إلى مقدمة، وجزأين وخاتمة، وفي المنتصف استراحة من ربع ساعة، يتضمنها شريط العمل نفسه. هذه الرغبة في التحكم إلى أقصى حد، في تجربة تلقي الفيلم، تمتد لتشمل تصور صانع الفيلم عن الطريقة التي ينبغي بها أن نتلقى تجربة لازلو توث.

قد يوهمنا هذا التمهيد الطويل لقسوة الحياة على لازلو بما أنه يهودي، وإصراره مع ذلك على تحقيق رؤيته المعمارية، بأن الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية. إن لم نطلع على ما يكفي من معلومات، قبل المشاهدة، ربما نتصور أن لازلو شخص من لحم ودم، مر على الحياة، وصنع أسطورته في مجتمعه الجاحد المضيف. لكن الحقيقة أن قصة لازلو ملفقة تماما، ويقول مخرج الفيلم إنه استلهمها من قصص لمهندسين معماريين حقيقيين، ومن قصص لأشخاص في عائلته، لكنه لا يخبرنا شيئا عن تفاصيل هذا الاستلهام، وربما سيفضل أكثر، لو رأينا لازلو كابن شرعي لخياله الإبداعي.

أميركا المقصودة هنا ليست البلد الذي نعرف، بل هي العالم أجمع الذي أذل لازلو توث وأهانه لا لأنه مُهاجر بل لأنه يهودي

يتناسب هذا التلفيق طرديا، بطبيعة الحال، في شخصية لازلو، مع تلفيق الرؤية السينمائية في الفيلم كله.

البداية الحقيقية

لا يبدأ "الوحشي" من معاناة لازلو داخل المعسكر النازي، ولا حين يصل إلى أميركا، ولا في رسائله المتبادلة مع زوجته (فليستي جونز) حين كانت لا تزال عالقة في أوروبا، غير قادرة على اللحاق بزوجها، بل يبدأ فعلا حين يلتقي لازلو رجل الأعمال هاريسون لي. وينطلق الفيلم انطلاقته الحقيقية، حين يُصرح هاريسون بافتتانه بعمل لازلو، وحين نُشاهد على ملامحه سمات هذا الافتتان تشمل لازلو نفسه، كفنان، وربما كرجل. لأن هاريسون كما يتقدم في الفيلم، ثري لكنه أعزب، وهو يعاني من نظرة فوقية موروثة ومحدودة للعالم، ترتبط من وجهة نظر الفيلم بكونه رأسماليا أميركيا.

Universal Pictures
مشهد من الفيلم

أهم ما يحدث لاحقا في الفيلم هو حالة الإغواء التي يُمارسها هاريسون إزاء لازلو، مستفيدا من نقطة ضعفه الأهم، وهي رغبته في الاستماع إلى الإطراء وتلقي المديح. نوع من النرجسية، التي يعاني منها كل من لازلو وفيلم "الوحشي" على حد سواء، وتجعل الاثنين مصابين بقصر النظر، ومحدودية سقيمة في الرؤية. بما أن هاريسون متلاعب وربما يكون حتى مصابا باضطراب نرجسي، فإنه يطيل مع لازلو أمد الغواية، ويغرقه في مشاريع كبيرة، تسرق من عمر لازلو وأمواله، ولا تتحقق أبدا. ما يجعل الفيلم طويلا إذن (يجاوز زمنه الثلاث ساعات ويصيب المُشاهد بالسأم من آن إلى آخر) هو هذه المراوحة التي تجعل لازلو يعود كل مرة إلى صياده، رغم تحذيرات زوجته، معتقدا أنه سيصدق هذه المرة، وسيُمكنه من تحقيق أحلامه المعمارية.

يمكن النظر حتى إلى أحلام لازلو المعمارية، كاستمرار لحاجته النرجسية إلى التضخم في مجتمعه الجديد، عبر المعمار. لم يعد لازلو إلى المجر، بعد الحرب وانتحار هتلر، ولم ترضه كذلك الوظيفة التي حصل عليها كمهندس معماري في إحدى شركات الهندسة الأميركية. لقد كان يطمح إلى الخلود، إلى الجائزة. بشكل ما كما طمح الفيلم نفسه.

Universal Pictures
مشهد من الفيلم

يد المخرج

ومع ذلك، فإن المشاهَدة المثالية للفيلم من وجهة نظر صناعه وعلى رأسهم مخرجه، ينبغي أن ترى في لازلو اليهودي، ضحية العالم أجمع، بما أن العالم بالنسبة إليه هو أميركا. ويبلغ لازلو مرتبة أرفع في دور الضحية، حين يعتدي عليه هاريسون جنسيا، في مشهد ليس صادما للمشاهد فحسب، بل مفتعلا كذلك. كيف لا نرى في حركة يد آدريان برودي، محض افتعال نظمها المخرج لتخدم المضمون الملفق النهائي؟ لقد مضى العالم في احتقار الرجل، بسبب هويته، حد اغتصابه، ولم يعد أمامه إلا أن يسافر إلى إسرائيل، ملاذه المطلق، هو الذي لم يكن متحمسا للفكرة من قبل.

نهاية الفيلم تخرجه من خانة الأهداف السينمائية المحضة، إلى خانة الدعاية الصهيونية الصريحة

تأتي الخاتمة متسرعة مباغتة كأن قوى المخرج في التلفيق استنفدت عند هذا الحد، ولم يعد أمامه إلا أن يقف بنفسه ويتلو خطابه، في مشهد يذكرنا بتمثال الحرية مقلوبا في البداية. ها هو لازلو شيخا يتلقى جائزته، وتقول قريبته، نيابة عن المخرج وعنه، خطابا ديماغوجيا عن الذين أخطأوا في اعتبار الرحلة أهم من الوصول، لأن الحقيقة- والكلام لا يزال للفيلم- أن الوصول هو الأهم من الرحلة.

AFP
الممثل الأميركي أدريان برودي يعانق المخرج الأميركي برادي كوربيت بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل في دور رئيس عن فيلم "The Brutalist" خلال حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ97

ينطبق هذا الوصول على قدرة لازلو على تحقيق بقية أحلامه المعمارية، بعد أن تعلم درس الحياة، وسافر إلى إسرائيل. كما يمكن أن ينطبق على تشكل إسرائيل نفسها. ليس المهم ما حدث لليهود من قبل، المهم أنهم، هنا والآن في إسرائيل. عبر هذه النهاية، يُظهر الفيلم، جانبه الوحشي، المطابق لعنوانه، وهو جانب يقلب معماره رأسا على عقب، ويخرجه من خانة الأهداف السينمائية المحضة، إلى خانة الدعاية الصهيونية الصريحة.

على مستوى أفلام "الهولوكوست"، لا يقدم "الوحشي" أي جديد، وربما يدفعنا إلى الحنين لمشاهدة بطل هذا الفيلم آدريان برودي، في فيلمه الجميل "عازف البيانو" The pianist، وغيره من الأعمال التي لم تلعب دورا دعائيا لأي دولة، بقدر ما قدمت ألما إنسانيا لا يُنسى، يشهد على قدرات مخيفة ووحشية تحتويها النفس البشرية.

Universal Pictures
مشهد من الفيلم

إن كان ثمة نقاش يُمكن أن يثيره هذا الفيلم، فهو التساؤل حول الدور الذي تلعبه المهرجانات السينمائية في العالم أجمع، في التسويق لأنواع بعينها من الأفلام، تعمل على إفراغ الصورة السينمائية من مضمونها الروحي والإنساني، وتقدسها لتسبح في فراغ. لقد شاهدنا مؤخرا فيلم "أنورا" (Anora) الذي لم يحمل جديدا على مستوى الحكاية، وكان تشويقه الأساسي أسلوبيا، لكنه لحسن حظنا، لم يدّع لنفسه أي جلال، ولا حتى وحشية.

font change