الفن والعلم... والداخل والخارج

أنماط الفن مهمة لأنها تتحدث عن صفات الواقع في داخلنا

الفن والعلم... والداخل والخارج

الفن للداخل والعلم للخارج، لعلها عبارة بسيطة، لكننا سنرى كيف أنه يمكن أن تفض الاشتباك بين خصمين لدودين، أو أن تقودنا إلى ما هو أوسع. يتباهى الرياضيون بأن الرياضيات لغة كونية للأنماط، ومعادلاتها تعبر عن علاقات دقيقة، وتتحدث عن حقائق لا تقبل الجدل، وتقف راسخة متجاوزة تقلبات الإدراك وتعدد التفاسير، التي تعاني منها المعارف والعلوم الأخرى. جدول الضرب ونظرية فيثاغورس في المثلثات، وغيرهما من النظريات بقيت ثابتة عند كل الشعوب، لم يتغير شيء، ولا توجد استثناءات.

هذه هي طبيعة الرياضيات، رسم مقتضب وصادق لحقائق ثابتة، تصمد أمام شكوك السفسطائيين، هكذا تقدم لنا الرياضيات راحة الموثوقية وجمال الدقة، وأنماطا عددية لا تتغير، وتفيدنا في حياتنا، ولا تتأثر بأية سلطة خارجية، وتتجاوز كل الأشياء الشخصية، رغم أن الشكوكي اليوناني سيكستوس إمبريكوس لديه مقالة فلسفية بعنوان: "أدفيرسوس ماثيماتيكوس"(ضد الرياضيات).

ومع ذلك، فإن البشر ينجذبون إلى أنماط ليست العددية المعروفة، بل أنماط تنتقل من خلال الأصوات والألوان والأشكال والحركات، فتنتج أعمالا موسيقية أو أفلاما سينمائية. أنماط تظهر كتعبير إنساني إبداعي خالص، ونحن نقدّر هذه الأنماط، بسبب قدرتها على عكس تجارب شخصية عميقة وذاتية من الخبرة الإنسانية، لقد سعى البشر منذ أقدم ومضات الفكر إلى استخدام مثل هذا التعبير.

جميع البشر يتفقون على أن المعادلات الرياضية دُونت لوصف الواقع، لأنها حقائق موجودة قبلنا وبعدنا، سواء اكتشفناها أم غفلنا عنها، والتعرف على الأنماط المتأصلة في الظواهر الفيزيائية له أهمية مركزية للبقاء، إنه انتصار للبشر أن توصلوا إلى معرفة إيقاعات العالم، واستجابوا لها واستخدموها. سوف تشرق الشمس وسوف تسقط الصخور، وسوف يتدفق الماء دوما. وهذه المجموعة الهائلة من الأنماط المتحالفة التي نصادفها من لحظة إلى أخرى، تؤثر بشكل عميق على سلوكنا، ولكن عندما يتعلق الأمر بالفن، فلا شك أن الواحد منا سيصاب بالحيرة الشديدة أمام الإبداع الفني وطابعه الإنساني الشخصي الفريد.

نعلم أن الرياضيات والعلوم تسعى إلى الحقيقة الموضوعية، ويتعامل معها الفيزيائيون من خلال تحليلاتهم للجسيمات الأساسية، والقوانين الرياضية التي تحكمها، ويسلط الكيميائيون الضوء عليها من خلال استحضار مجموعات من هذه الجسيمات المنظمة في ذرات وجزيئات. وعلماء الأحياء يدمجون الذرات والجزيئات في التركيب، الذي يتضح لنا داخل الخلايا وأشكال الحياة، ويضيف علماء النفس وعلماء الأعصاب والفلاسفة، فيفحصون عمل العقل والأسئلة التي يمكن للعقل أن يطرحها حول نفسه وتجاربه. لا توجد نظرية واحدة لكل شيء.

هناك حقائق يمكننا أن نشعر بها، والفن هو الوسيلة الأكثر دقة للوصول إليها

ويشكل الفن عنصرا أساسيا في هذه المعادلة، فهو طريق نحو مجموعة أوسع من الحقائق التي تشمل التجربة الذاتية، وتحتفي باستجابتنا البشرية الخاصة للعالم، إن أنماطه تساعدنا على الوصول إلى الحقائق الداخلية التي لا يستطيع العلم التعبير عنها، العلم لا يفكّر، بحسب هايدغر، لكن هناك حقائق يمكننا أن نشعر بها، والفن هو الوسيلة الأكثر دقة للوصول إليها.

لا يوجد توصيف شمولي للفن، ولا تعريف يحدده بشكل لا لبس فيه. ذلك أن ردود أفعالنا تجاهه هي ردود أفعال خاصة بنا، فهو إبداع خاص، وليس اكتشافا لما هو موجود، هذا الاعتماد على الفرد، وهذا اللجوء إلى الذات، هو ما يجعل الفن ضروريا لتصور مكان الإنسان في النظام الكوني. ومثلما أن أنماط الرياضيات والعلوم الطبيعية، مهمة لأنها تتحدث عن صفات الواقع التي توجد خارجنا، فإن أنماط الفن مهمة لأنها تتحدث عن صفات الواقع التي توجد في داخلنا.

سخر العلماء الماديون كثيرا من تصور فيثاغورس للكون، عندما قال إنه قيثارة تعزف عليها الآلهة، وهذا متوقع إذا أخذنا هذا التصور بطريقة تجريبية مادية، ومنهج الخطأ والصواب والتحقق العلمي والنظريات القابلة للتكذيب بحسب كارل بوبر، لكن مثل هذه العبارة لا تؤخذ بطريقة حرفية ظاهرية، خصوصا عندما تصدر من رياضي عظيم مثل فيثاغورس، بل الأحرى أن ننظر إليه، وكأنه يحاول رسم لوحة فنية تنبع من عالم المجاز، والخيال الذي ليس له حدود.

font change
مقالات ذات صلة