بلاد ما وراء النهر جنوبي لبنان... معضلة العودة والتعويضات وإعادة الإعمار

غالبية مهجري قرى الحافة الأمامية لم يأخذوا قرار الرجوع بعد

تصوير: بادية فحص
تصوير: بادية فحص
مبنى مدمّر جراء القصف الاسرائيلي على جنوب لبنان

بلاد ما وراء النهر جنوبي لبنان... معضلة العودة والتعويضات وإعادة الإعمار

في أبريل/نيسان من العام الماضي، جالت "المجلة" في منطقة جنوب نهر الليطاني، كانت الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" حينها قد أكملت شهرها السابع، وكان الطرفان لا يزالان ملتزمين بما عُرف بـ"قواعد الاشتباك"، أي عدم تجاوز رقعة الحرب 5 كيلومترات من جهتي الحدود، وكانت قرى الحافة الأمامية في الجنوب اللبناني، ما زالت موجودة على الخارطة بسكانها وحجارتها وحيواتها.

خلال الجولة، قال لنا مختار إحدى القرى: "إن الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد، وقرانا ستشهد أياما أشد سوادا"، فنعتناه بالمتشائم، لكن الأيام السوداء لم تتأخر بالفعل. ففي أواخر سبتمبر/أيلول من العام ذاته، اتضحت نوايا إسرائيل بتدمير المنطقة بالكامل، وجعلها غير قابلة للحياة، تمهيدا لإحلال واقع جديد، فوسعت حربها على لبنان، وخلال 66 يوما، حولت منطقة جنوب النهر من الناقورة حتى شبعا إلى أرض محروقة.

الأسبوع الماضي، قررت أنا والشابان اللذان رافقاني في الجولة الأولى، زيارة المنطقة مجددا، فعاودنا السير على الطرقات ذاتها، ودخلنا القرى ذاتها، والتقينا ببعض الأشخاص الذين التقيناهم في الجولة السابقة. الفارق الزمني بين الجولتين هو أحد عشر شهرا، لكن الفارق في المشهد العام للمنطقة لا يمكن استيعابه ولا وصفه.

أول صدمة تلقيناها كانت حين وصلنا إلى تقاطع تل النحاس، الذي تتفرع منه الاتجاهات نحو قرى المنطقة، شمالا ويمينا وصعودا ونزولا، لكن كثافة الدمار محت معالم المكان، فتوقفنا قليلا لالتقاط أنفاسنا وحبس دموعنا، ثم هبطنا نزولا، باتجاه بلدة الخيام.

في شرق البلدة حيث ترتفع تلة الحمامص، يلوح العلم الإسرائيلي من بعيد، وعن قرب يتبدى مشهد خرابها العظيم. البيوت في الخيام مبنية على رأس تلة مرتفعة، الطائرات الإسرائيلية مسحتها وسوتها بالأرض، خاصة بيوت الحي الغربي، وقذفت بحجارتها إلى الأسفل. في أحياء أخرى هناك بيوت ما زالت قائمة احتاج أصحابها إلى القليل من الوقت والمال لترميمها، وسكنوا فيها على الفور، لكن الحياة فيها شبه معدومة، فعودة الناس مرتبطة بانسحاب الاحتلال من أطراف البلدة، وبأمور أخرى على رأسها التعويضات.

رأينا بأم العين كيف أطلق قناص إسرائيلي رصاصة على رجل كان يتفقد حجارة منزله، فأُصيب في قدمه، ونُقل إلى مستشفى مرجعيون

بعد خروجنا من الخيام عدنا إلى تقاطع تل النحاس مجددا، لنتوغل شمالا، باتجاه بلدة كفر كلا، لم نجد أثرا للبلدة، حاولنا الاستعانة بذاكرتنا كي نرسم خريطة تحركنا، "بوابة فاطمة" يجب أن تكون إلى يسارنا، الجدار الفاصل الذي كان ينتصب وسط الساحة أيضا، إذا أكملنا بخط مستقيم لجهة اليمين، ندخل إلى الأحياء العليا للبلدة، أما إذا أكملنا بمحاذاة المستعمرات، فسنصل إلى بلدة عديسة، ثم حولا، ثم ننزل من هناك باتجاه الوادي...  

لم يتركوا في كفر كلا حجرا على حجر، شجرةً، غصنا أخضر، عشبة في مرجة أو حديقة، أحرقوا كروم الزيتون والحقول الزراعية والأحراج، ونهبوا ما استطاعوا حمله معهم، وها هم يكمنون في المستوطنات القريبة، يطلقون النار على المدنيين ساعة يشاءون، رأينا بأم العين كيف أطلق قناص إسرائيلي رصاصة على رجل كان يتفقد حجارة منزله، فأُصيب في قدمه، ونُقل إلى مستشفى مرجعيون.

ثلاثة هموم تشغل بال سكان المنطقة/المهجرين: العودة وإعادة الإعمار، والتعويضات، والسؤال الأكثر إلحاحا الذي يراودهم: هل انتهت الحرب؟

تصوير: بادية فحص
الدمار الذي خلفته الحرب الاسرائيلية في جنوب لبنان

العودة

غالبية مهجري قرى الحافة الأمامية، لم يأخذوا قرار العودة بعد، فدون ذلك الكثير من العوائق، على رأسها عدم وجود منازل يعودون إليها، والتأخر في البت في ملف إعادة الإعمار، إضافة إلى عاملي فقدان الأمان واحتمال تجدد الحرب.

يقول مواطن قصد كفر كلا للملمة ما بقي من أغراض منزله: "هذه البلاد ليست لنا، ما دمنا لا نملك فيها قرار الحياة أو الموت، هناك دائما من يقرر عنا، من يسلبنا حقنا في تقرير مصيرنا".

حتى من سلمت بيوتهم أو تضررت قليلا وأعادوا تصليحها، لا يمكنهم العودة في الوقت الحاضر، فلا شيء مما يحتاجونه يوميا موجود، عدا أن الجنود الإسرائيليين يقومون بعمليات توغل ويستهدفون المدنيين عمدا 

بغض النظر عن شعور الأسى الذي يخيم على سكان البلدة، لا أحد ممن التقيناهم رجالا ونساء يتوقع عودة قريبة، فالدمار يحتاج إلى أعمال فرز وإزالة قد تمتد لسنوات، إضافة إلى إعادة تأهيل البنى التحتية من ماء وكهرباء وطرقات، وتفعيل القطاعات الخدمية من مستشفيات ومدارس وبعض مؤسسات الدولة والمحلات والدكاكين ومحطات الوقود وغيرها، حتى من سلمت بيوتهم أو تضررت قليلا وأعادوا تصليحها، لا يمكنهم العودة في الوقت الحاضر، فلا شيء مما يحتاجونه يوميا موجود، عدا أن الجنود الإسرائيليين يقومون بعمليات توغل ويستهدفون المدنيين عمدا.

"إطلاق النار دون إنذار مسبق ودون سبب على المدنيين، نقض لحق العودة"، يقول أحدهم.

قال لنا مواطن كان يفتش بين ركام منزله عن أشياء ثمينة تركتها زوجته: "لا أنوي البقاء هنا، لم أعد أشعر بالأمان، أفكر في الهجرة، لدي أقارب في أميركا سأنضم إليهم".

في بلدة حولا، هناك عدد من البيوت التي أعاد أهلها ترميمها، مما شجع كثيرين على العودة، لكن مشهد المستوطنين الذين غزوا بالعشرات موقع العباد الديني باعتباره قبر الحاخام آشي، يوم الجمعة الماضي، كان محبطا. يشرح لنا صديق من حولا أن "تلة العباد التي لم تنسحب منها إسرائيل، هي واحدة من النقاط السبع التي ستحمي أمن المستوطنات، والتي ستترجم يوما ما، فكرة إسرائيل الموسعة على أرضنا".

إعادة الإعمار

كثير من المقتدرين ماديا قرروا عدم إعادة الإعمار، قال لنا رجل من بلدة عديسة: "قررت أن لا أعيد بناء بيتي. هذا البيت تدمر ست مرات، أعدنا إعماره ست مرات، جدي وأبي وأنا، لا يوجد إنسان في العالم يعيد بناء بيته هذا العدد من المرات في عمر واحد، إلا الجنوبي".

أما على صعيد رسمي (حزبي) فالحديث عن إعادة الإعمار مؤجل، ويتذرع المحازبون بأن إسرائيل تمنع وصول الأموال الإيرانية المخصصة لذلك، وبأن الملف صار بيد الحكومة التي تعهد رئيسها بمعالجته، لذلك، تسهل ملاحظة غياب حركة إعادة الإعمار، في جنوب النهر وفي شماله أيضا، إن كان على صعيد فردي أو بقرار حزبي.

تصوير: بادية فحص
مبنى مدمّر جراء القصف الاسرائيلي، جنوب لبنان

وبما أن إعادة الإعمار معلقة حتى الآن، فالأمر متروك لتجار الخردة الذين يستغلون غياب الناس، فينتشرون في القرى من الصباح حتى المساء، يأتون بشاحنات صغيرة الحجم، ليسرقوا حديد البيوت المهدمة، وما سلم من أثاثها، ويبيعونه لشركات أجنبية، وأحيانا يعثرون على أشلاء وبقايا عظام فيتصلون بالصليب الأحمر.

في هذه الأثناء، تتفاقم الخلافات بين المتعهدين المنتمين إلى حزبي "الثنائي الشيعي"، الذين تصلهم أموال مقننة، غايتها إعطاء انطباع أن قطار إعادة الإعمار انطلق، فيخف الاحتقان.

 التعويضات

منذ اليوم الأول بعد وقف إطلاق النار، شكل "حزب الله" لجنة سماها "لجنة الأضرار" تابعة لمؤسسة "جهاد البناء"، استعان فيها لأول مرة بمهندسين وخبراء من خارج صفوفه، بسبب حجم الدمار طبعا.

هذه اللجنة مولجة بمسح الأضرار، أي تخمين قيمة الخسائر المادية في البيوت المتضررة أو المهدمة جزئيا، عملها صار على خواتيمه، فقد جالت في كل المناطق ودفعت التعويضات المطلوبة، وإن كانت تعويضات غير منصفة، وأغلب البيوت التي كانت بحاجة إلى ترميم صارت جاهزة للسكن، برغم أنها لم تعد كما كانت مسبقا، هناك الكثير من الاعتراضات على كيفية تخمين الخسائر، لكن غالبية المعترضين يختارون الصمت، بسبب أسلوب الابتزاز العاطفي الذي يحاصرهم به أعضاء اللجنة.

بعد أن تنتهي اللجنة من تخمين الأضرار، يتصل موظف ويطلب من المعني الحضور على العنوان، لأخذ "الشيك" بالمبلغ المالي، وبعد عشرين يوما من صدور "الشيك"، على المستفيد أن يذهب إلى عنوان "مؤسسة القرض الحسن" الذي يكون مكتوبا على "الشيك" أيضا، لاستلام تعويضه. حاليا المؤسسة متوقفة عن الدفع لعدم وجود سيولة.

مهمة أخرى للجنة الأضرار، هي دفع بدلات الإيواء لأصحاب البيوت التي تدمرت بالكامل، قيمة البدل تتضمن سنة ونصف السنة إيجار منزل وتأثيثه، وتبلغ 14 ألف دولار لسكان ضاحية بيروت الجنوبية، و12 ألفا لمن يسكن خارجها. المحال والمؤسسات التجارية المتضررة والمدمرة، لم تشملها التعويضات، فهي تتبع خطة أخرى لم يعلن عنها حتى الآن.

يُقال إن الجمعية التي يشرف عليها إمام مدينة النبطية، تلقت تعويضات مالية من المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني، لإعادة إعمار السوق التجارية الأثرية فقط

الأمر يسري على الأسواق التجارية في المدن، ومنها سوق النبطية، فهناك مشكلة كبرى في تقدير قيمة البضاعة الموجودة داخل المحلات، عدا مشكلة العقارات غير المرخصة التي كشف عنها الدمار.

فيما يخص سوق النبطية، هناك خلاف عميق حوله بين طرفي "الثنائي" من جهة، وبين "الثنائي" وإمام المدينة الشيخ عبد الحسين صادق من جهة أخرى.

يُقال إن الجمعية التي يشرف عليها إمام المدينة، تلقت تعويضات مالية من المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني، لإعادة إعمار السوق التجارية الأثرية فقط، والخطة تقضي بتعويض التجار عبر بناء "أكشاك" مؤقتة في إحدى ساحات النبطية، تتسع للقليل من البضائع، لمدة سنة ونصف السنة. في هذا الوقت، تنطلق عجلة إعادة إعمار السوق بأموال عراقية، وهذا ينقص من شعبية "حزب الله" في النبطية، التي تُعتبر خزانه البشري الكبير، لذلك، تقول جهات مطلعة إن "حزب الله" يسعى لإدخال أموال التعويضات بأي طريقة ممكنة، ولو كانت إحداها حقائب القادمين إلى لبنان عبر مطار بيروت.

قبل مغيب الشمس، عدنا أدراجنا من جهة جسر الخردلي. على الطريق، شاهدنا غابات وأحراجا في خراجات القليعة والمحمودية والدمشقية ومنحدرات قلعة الشقيف محترقة بالكامل، وعاينا مشاهد الدمار المنتشرة على الجانبين، ورصدنا سيارة "بيك آب" تنقل حمولة مسروقة من الحديد وقطع السجاد.

font change

مقالات ذات صلة