لو كان علينا أن ننصح القارئ بمطالعة كتاب واحد من بين الكتب التي قرأناها حديثا، لاخترنا بلا تردد رواية "بلايغراوند" (ملعب) للكاتب الأميركي ريتشارد باورز. لماذا؟ لأن باورز لا يكتفي في هذا العمل الأدبي الفاتن والمقلق على حد السواء بأن يفضح، بمعرفة مدوخة، التأثير الوخيم للبشر على النظم البيئية لآخر مكان برّي على الأرض، المحيط الهادئ، بل يكشف أيضا بألمعية، أحدث التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي ورهاناته، ويواصل استكشافه إنسانيتنا المشتركة بتلك الطريقة البصيرة، العميقة، التي تمنح جميع رواياته مذاقها الخاص وقيمتها، وتجعل منه واحدا من أعظم كتّاب ومفكري زمننا.
أزمنة
لإنجاز كل ذلك، يلجأ باورز إلى أربع شخصيات نتابع مسيرتها على فترة زمنية طويلة. هكذا يحط بنا أحد الأجزاء الثلاثة المتشابكة لروايته في شيكاغو أولا، في نهاية القرن الماضي، داخل مدرسة يسوعية للفتيان الموهوبين، حيث نتعرف إلى الفتى الأبيض تود كين، الشغوف بميدان المعلوماتية، والفتى الأسود رافي يونغ، الذي يعشق الأدب ويملك موهبة مدهشة في قراءة عالمنا مثل كتاب. صديقان يمضيان وقتهما في التنافس على رقعة الشطرنج، ثم على رقعة لعبة "غو" الصينية، ويعود تواطؤهما جزئيا إلى انتمائهما إلى عائلتين ممزقتين، لكن مختلفتين. فبينما يعمل والد تود الثري في البورصة ويرتبط بعلاقة عاطفية مع امرأة غير زوجته، يعمل والد رافي، المطلّق من زوجته، في ثكنة الإطفاء في المدينة، ولا يفوّت فرصة لتذكير ابنه بأهمية الكد في الدراسة والتفوق لتجاوز عائق العنصرية المتفشية في المجتمع الأميركي.
صداقة تود ورافي، التي تشكل نقطة جاذبية كبيرة في الرواية، تتعمق أثناء دراستهما في جامعة أوربانا، في ولاية إلينوي، لكن بمجرد دخول الفتاة إينا أرويتا إلى حياتهما، يبدآن في الابتعاد، أحدهما عن الآخر. فمثل رافي، نجحت هذه الفتاة التاهيتية التي تمارس النحت، في الوصول إلى مكان بقي خارج متناول والديها الفقيرين. ومثلما يلجأ رافي إلى الأدب للتأمل في العالم واستكشاف ذاته ودوره فيه، تلجأ إينا إلى الفن للغاية نفسها. بالتالي، يتكلم الاثنان "لغة الفنون السرية" التي تبلبل تود وتحثه على الانحراف في اتجاه عالم تحدده القدرات الناشئة للحاسوب. لكن هذا الانحراف ومشاعره العاطفية تجاه إينا، لا يمنعانه من الشعور بالسعادة لصديقه، الذي يبدو مع هذه الفتاة "شخصا جديدا تماما، غامضا، جسورا، هشا ومنفتحا".