كمائن جبلة... هل تشعل سوريا مواجهة تركية- إيرانية؟

المجموعة المتورطة في التصعيد لا تملك فرصة في الصمود

كمائن جبلة... هل تشعل سوريا مواجهة تركية- إيرانية؟

في مقابلة تلفزيونية حديثة، وجه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان انتقادات حادة لاستراتيجية إيران الإقليمية، ولا سيما موقفها من السلطات السورية الجديدة، متهما طهران بالسعي إلى زعزعة استقرار سوريا، ومحذرا من أن مثل هذا التدخل قد يؤدي إلى اتخاذ إجراءات متبادلة، ملمحا إلى أن إيران نفسها قد تواجه تدخلا مماثلا.

تأتي تصريحات فيدان إثر الخسارة الكبيرة التي منيت بها إيران في سوريا، بفقدانها حليفها القديم بشار الأسد، وقُطعت العلاقات بين البلدين، ومنعت القيادة الجديدة في دمشق المواطنين الإيرانيين من دخول البلاد. وسرعان ما أعربت طهران عن استيائها، محذرة تركيا من الخطاب الذي قد يزيد من توتر العلاقات.

وقد بُذلت جهود من الطرفين لتخفيف التوترات، إلا أن موجة الهجمات التي استهدفت القيادة السورية الجديدة، خاصة في اللاذقية، معقل الأسد السابق، باتت اليوم تهدد بتصعيد الوضع من جديد. شكلت هذه الهجمات، التي يُعتقد أن وراءها فلول نظام الأسد، أشد أعمال العنف منذ سقوطه. وبالنظر إلى حجمها وتوقيتها، يشتبه الكثيرون، بمن فيهم فيدان، في تورط إيران في إثارة عدم الاستقرار.

وقد يكون للوضع الأمني الهش في سوريا دور محوري في رسم معالم العلاقات التركية الإيرانية في المستقبل. وإذا ما استمرت الاضطرابات، فلا شيء سيمنع امتداد التوترات بين أنقرة وطهران إلى ما هو أبعد من سوريا، مما يزيد من حدة التنافس بينهما في العراق وجنوب القوقاز، ويدفع بعلاقاتهما إلى مستوى جديد.

اشتباك دبلوماسي حذر

في 26 شباط/فبراير، وجه فيدان تحذيرا مباشرا إلى طهران، محذرا من أن أي محاولة لزعزعة الاستقرار في سوريا قد تؤدي إلى عواقب مماثلة، وقال: "إذا حاولتم خلق حالة من عدم الاستقرار في بلد آخر من خلال دعم مجموعة معينة، فقد تقوم دولة أخرى بالشيء ذاته معكم في المقابل". ولم يتأخر رد طهران، ولكنه كان محسوبا، فحرصت على تجنب استخدام مصطلح "استدعاء" وأعلنت وزارة خارجيتها بدلا من ذلك عن أنها أجرت "محادثة" مع السفير التركي، عبرت خلالها عن استيائها من تصريحات فيدان ووصفتها بأنها "غير لائقة"، محذرة في الوقت ذاته من أن "التحليلات غير الدقيقة والتصريحات التصعيدية" قد تؤجج التوترات.

انتقدت أنقرة بمهارة طهران لاستخدامها قضايا السياسة الخارجية كأدوات لتحقيق مكاسب سياسية داخلية

وردا على ذلك، نقلت تركيا شكاواها إلى السفير الإيراني في أنقرة. ولتجنب التصعيد على نحو مماثل، قامت وزارة الخارجية التركية بـ"دعوة" المبعوث الإيراني لإجراء مناقشات بدلا من استخدام مصطلح "الاستدعاء" الأكثر عدائية. وتشير التقارير إلى أن الدبلوماسيين الأتراك أعربوا عن قلقهم من انتقادات المسؤولين الإيرانيين العلنية لتركيا، وسلموا ملفا يوثق هذه التصريحات. كما انتقدت أنقرة بمهارة طهران لاستخدامها قضايا السياسة الخارجية كأدوات لتحقيق مكاسب سياسية داخلية. وعلى الرغم من أن كلا البلدين قد أوضح موقفه جليا، إلا أنهما استخدما لغة دبلوماسية مدروسة لمنع مزيد من التصعيد.

تصعيد ميداني خطير


فيما كان كلا البلدين يسعى إلى تخفيف حدة التوتر، شنت جماعات من الموالين لنظام الأسد هجوما كبيرا ضد السلطات السورية الجديدة، في تأكيد لما حذر منه فيدان. واندلعت أعمال العنف في 6 مارس/آذار، عندما قتل مسلحون موالون لنظام الأسد ما لا يقل عن 13 عنصرا أمنيا في كمائن منسقة، وغارات على نقاط تفتيش عسكرية ومقرات عسكرية بالقرب من جبلة في ريف اللاذقية. واستولى بعض المقاتلين على مناطق عسكرية في جبال اللاذقية، لشن مزيد من الهجمات، بينما تحصن آخرون في مدينة جبلة. 
وبعد وقت قصير من الهجوم، نشر أحد القادة العسكريين في النظام السابق شريط فيديو أعلن فيه عن تشكيل مجموعة مقاومة، أطلق عليها اسم "فوج درع الساحل" لمعارضة الحكومة الجديدة. وفي حين لم تكن هذه الهجمات هي الأولى من نوعها، فقد وقعت هجمات متفرقة منذ انهيار النظام قبل ثلاثة أشهر، إلا أن هذا الهجوم شكل أكبر تحدٍ أمني واجهته السلطات السورية الجديدة حتى الآن.

بؤرة للتوترات الطائفية


ينطوي التصعيد الأخير في جبلة على مخاطر جمة تتجاوز نطاق العنف المباشر. فالمجموعة الصغيرة المتورطة في هذا التصعيد لا تملك فرصة كبيرة في الصمود أمام القوة الهائلة التي أطاحت بنظام الأسد في 11 يوما فقط. فالخطر الحقيقي يكمن في التوترات الطائفية التي أشعلها هذا الهجوم، والتي لا تملك سلطات تصريف الأعمال في سوريا المقدرة على احتوائها، خاصة في ظل تفاقم الضائقة المالية وعدم الاستقرار وتدهور الخدمات العامة.
وتُفاقِم القضايا العالقة المرتبطة بالعدالة والمساءلة– بما فيها حالات انتهاك حقوق الإنسان بعد سقوط النظام– حالة السخط الشعبي، يمكن لها، إذا تُركت دون معالجة، أن تشتعل في أي لحظة وتتحول إلى أزمة أكبر.

إذا ظهرت أدلة موثوقة تربط طهران بهذه الاضطرابات، فقد تتصاعد التوترات بين أنقرة وطهران بشكل حاد، ولا سيما أن تنافسهما لا يقتصر على الساحة السورية، بل يمتد إلى العراق وجنوب القوقاز، حيث يسعى كل منهما إلى توسيع نفوذه

ولعل هشاشة هذا الوضع هي التي دفعت فيدان إلى إطلاق تحذيره، إذ لا تزال مرحلة الانتقال في سوريا عرضة لتدخلات خارجية، سواء من إيران أو غيرها من القوى الفاعلة. وعلى الرغم من أن كثيرين، وأنا بينهم، يأملون أن تكون سوريا وشعبها قد وضعا الأسوأ وراء ظهريهما، فإن من السذاجة التغاضي عن إمكانية حدوث سيناريوهات أكثر قتامة، قد تدفع البلاد إلى اضطرابات أعم. لن يحدد ما سيقع تاليا مستقبل سوريا فحسب، بل سيعيد على الأرجح رسم المشهد الإقليمي برمته، وبخاصة العلاقات بين تركيا وإيران. فإذا ظهرت أدلة موثوقة تربط طهران بهذه الاضطرابات، فقد تتصاعد التوترات بين أنقرة وطهران بشكل حاد، ولا سيما أن تنافسهما لا يقتصر على الساحة السورية، بل يمتد إلى العراق وجنوب القوقاز، حيث يسعى كل منهما إلى توسيع نفوذه.
وبالنظر إلى هذه الحسابات، فإن اندلاع أزمة أمنية كبرى في سوريا قد يدفع أنقرة إلى رد فعل أكثر حزما، وقد لا يقتصر ذلك على الساحات المتنازع عليها، بل ربما يمتد داخل إيران نفسها. ولعل التحذير المبطن الذي وجهه فيدان، بأن "دولا أخرى قد ترد بالمثل،" أن يكشف عن المخاطر الأوسع التي قد تترتب على أي تصعيد جديد.
وفي نهاية المطاف، ستحدد الخطوات القادمة لكل من تركيا وإيران ما إذا كان هذا التصعيد سيبقى ضمن إطار المواجهة الدبلوماسية، أم سينزلق نحو صراع إقليمي أوسع.

font change