"الووكية" (Wokeism) و"اليقظة" التي انقلبت على نفسها

تعتمد الظاهرة على الدعوة إلى "اليقظة" تجاه جميع أشكال التمييز

"الووكية" (Wokeism) و"اليقظة" التي انقلبت على نفسها

اشتق لفظ الـ"Wokisme" من الفعل الإنجليزي "wake" الذي يعني اليقظة والتنبه. استعملت "الووكية" في البداية دلالة على الدعوة إلى التسلح باليقظة إزاء أي تعبير يمكن أن يكون وصمة تجاه المجتمع وما قد يلحق فصائله من تمييز، وما قد يعتريها من ظلم.

ظهر شعار "كن يقظا" و"خُذْ بالَك" (Stay woke) في الجامعات الأميركية الشمالية نحو نهاية العقد الثاني من القرن الحالي، وسرعان ما امتد إلى عوالم الثقافة والسياسة وحتى عالم الأعمال. ولم يلبث هذا التيار أن عبَر الأطلسي ليغزو البلدان الأوروبية ويصبح ظاهرة تكاد تكون عالمية.

تعتمد هذه الظاهرة على الدعوة إلى "اليقظة" الدائمة تجاه جميع أشكال التمييز ضد الأقليات، سواء كانت أقليات عرقية أم دينية أم جنسية أم غيرها، وقد كمن نجاحها أساسا في دفاعها عن قضايا مرتبطة بالتقدم، وتنديدها بأي شكل من أشكال الظلم الاجتماعي. لذا اعتبرت "الووكية"، بداية في الولايات المتحدة، في عداد التيار اليساري بسبب دفاعها عن قضايا "تنويرية"، بينما صُنف "المناهضون للووكية" ضمن اليمين، بل وأحيانا ضمن اليمين المتطرف. أما في فرنسا، فقد كانت المواقف أقل وضوحا، حيث كان من الممكن رفض "الووكية" مع تأييد القضايا التي تدافع عنها، ولكن دون القبول بالوسائل التي يستخدمها أنصارها، وهي وسائل يمكن أن تُعتبر أي شيء إلا كونها ديمقراطية، على الرغم من أن نوايا أصحابها قد تكون نوايا حسنة. ذلك أن هذا الاتجاه الفكري، في نظر أصحاب القارة القديمة بصفة عامة، اتجاه يجعل من هذه القضايا عدسات تكاد تكون حصرية لفهم العالم، وهو يسعى إلى فرضها في سياقات قد لا تكون ملائمة لها، كما أنه يَستخدم، لتحقيق ذلك، وسائل تُفقِد هذه القضايا جوهرها الحقيقي. لذا سرعان ما غدا الـ(woke) موضوعا للسخرية النقدية من قِبل أولئك الذين أصبحوا يعتبرونه أيديولوجيا أخلاقية، طائفية، ثنائية التفكير، من شأنها في النهاية أن تُهدد حرية التعبير ذاتها.

مصطلح "الـووكية" (wokisme) شبيه في استخدامه السياسي بتعبير "التياسر" (gauchisme)، وغالبا ما يُستخدم كوسيلة للتنقيص من شأن الخصوم السياسيين ونزع الشرعية عنهم

من هنا تنبع حالة الالتباس التي أصبحت تحيط بهذه الظاهرة، إذ تحت مظاهرها التقدمية، صارت "الووكية"، تتسم بخصائص مضادة. ووفقا لمنتقديها، فإن أولئك الذين ينضوون تحت هذه التسمية يسعون إلى الحصول على تفوق أخلاقي غير مبرر. فهم، على عكس ما يدعون، يغذون التعصب تجاه الآراء المختلفة، مما يُلحق ضررا بحرية التعبير، لا سيما من خلال ثقافة الإلغاء.  
لقد حدث لـ"الووكية" بالضبط ما يحدث لليسارية عندما تصبح تهمة "تياسر". بهذا المعنى فإن مصطلح "الـووكية" (wokisme) شبيه في استخدامه السياسي بتعبير "التياسر" (gauchisme)، وغالبا ما يُستخدم كوسيلة للتنقيص من شأن الخصوم السياسيين ونزع الشرعية عنهم، من خلال جمع حركات فكرية متعددة تُنسب في العادة إلى اليسار. لذا يمكن أن نقول إن هذا المصطلح أصبح أداة بلاغية بحتة، وسلاحا للتجريد من الشرعية يُستخدم على نطاق واسع ضد الخطاب اليساري الذي يُتهم بأنه يروج لأيديولوجيا راديكالية، ترتكز على قضايا هوياتية مرتبطة بالعرق، وأيضا بالنوع الاجتماعي، والتوجه الجنسي، وهي أيديولوجيا تقف في تعارض مفاهيمي ودلالي مع "العالمية التقدمية" سليلة عصر الأنوار.
وهكذا تتضح لنا الانحرافات التي شهدها هذا التيار الذي كان يمكن أن يحظى بكل تعاطف نظرا لالتزامه بالدفاع عن ضحايا التمييز. لكنه، خلال بضع سنوات فقط، انجرف نحو تصعيد المواقف العقائدية، وفرض موضوعات إلزامية، وحظر مصطلحات معينة (ففي الجانب الآخر من الأطلسي، على سبيل المثال، من يتلفظ بـكلمة "زنجي" يواجه ما يعادل الحرمان الاجتماعي)، مما جعله ينقلب على نفسه.
يمكننا أن نجمل دواعي هذا الانقلاب الذي عرفه مفهوم "الووك"، وما ميز سمات فكر "الووك"، على غرار ما يقوم به أحد الباحثين، في النقاط الآتية:
أولا، فرض رؤية أيديولوجية شاملة للعالم، تزعم عدم ترك أي مجال لتفسيرات أو قراءات أخرى، وما تولد عن ذلك من احتكار التأويل، وقمع الآراء المخالفة.  
ثانيا، الخلط بين البُعد الوصفي للخطاب، الذي يعبر عما هو موجود، والبُعد المعياري، الذي يحدد ما يجب أن يكون، مع الخضوع الدائم للأول لصالح الثاني، الأمر الذي طبع هذا التيار بـ"نزعة أمبريقية" تجريبية تستنسخ الواقع وتنتظر ما يمليه هو عليها. وتصهر ما عليه الواقع مع ما ينبغي أن يكون عليه، فتخلط بينه وبين القيم.   

ازدراء الحق الأدبي للمؤلفين، الذي يمنع أي تعديل على أعمالهم دون موافقتهم (وهذا الازدراء يتغذى من غياب مفهوم الحق الأدبي في القوانين العامة البريطانية والأميركية

ثالثا، الجمع بين هذه المعايير الأخلاقية والتوجهات النفعية المرتبطة بالمصالح الاقتصادية، مما أوقع التيار في نزعة برغماتية صريحة. 

رابعا، نوع خاص من الجهل يتمثل في عدم فهم خصوصية الخيال، الذي لا يتبع قواعد الواقع نفسها، مما يجعل من العبث محاولة حماية الفئات الضعيفة من تصوير واقع مزعج كما لو أن هذه الحماية ستَقِيهم من الواقع ذاته. كأن "الووكية" تؤمن بالطابع السحري للكلمات، فتعتقد أن استبدالها يقضي على أشكال التمييز، ويرفع عن الواقع كل ظلم.

خامسا، جهل آخر يتمثل في غياب الوعي بالسياق، غالبا ما يقترن بجهل تاريخي، يدفع إلى تطبيق معايير العصر الحالي على أعمال الماضي، وإسقاط عصر على آخر. 

سادسا، ازدراء الحق الأدبي للمؤلفين، الذي يمنع أي تعديل على أعمالهم دون موافقتهم (وهذا الازدراء يتغذى من غياب مفهوم الحق الأدبي في القوانين العامة البريطانية والأميركية، حيث يوجد فقط "حقوق النسخ"، أي الحقوق المالية المتعلقة باستغلال الأعمال). وقد تولد عن ذلك بالفعل تدخل أصحاب هذا التيار في بعض الأعمال الأدبية، مما تمخض عنه حد من حرية تعبير بعض المبدعين.

وأخيرا، السمة السابعة هي التعصب، الذي يمنع دعاة "الووك" من تخيل أو توقع ردود الفعل السلبية على مبادراتهم، مما يؤدي إلى دفع الأمور إلى حد من السخافة يستنزف في النهاية رصيد التعاطف الذي قد يحصلون عليه من مؤيديهم. 

هكذا، التأمت كل هذه الأوجه السلبية لهذا التيار من نفعية، وجهل، وتعصب، وازدراء للإبداع الفني، مع التشبث بنزعة "هوياتية" واليقين بامتلاك الحق في فرض وجهة النظر على الآخرين لتشكيل حاضنته الثقافية، مما جعله ينقلب ضد نفسه في نهاية الأمر، ليحمل دلالات انتقاصية تستخف بمواقفه، وتحط من قيمة من يعتنقه.

font change
مقالات ذات صلة