شيخ المنشدين محمود التهامي لـ "المجلة": الإنشاد ثقافة إنسانية لا دينية فحسب

رسالته تجديد هذا الفن وإيصاله إلى جيل الشباب

KHALED DESOUKI/AFP
KHALED DESOUKI/AFP
محمود التهامي يُخاطب طلابه خلال حصة للإنشاد

شيخ المنشدين محمود التهامي لـ "المجلة": الإنشاد ثقافة إنسانية لا دينية فحسب

أبوظبي : رحلة استثنائية قادت شيخ المنشدين المصريين محمود التهامي إلى إحداث تغيير جذري في عالم الإنشاد، إذ أدخل عليه الكثير من التجديد مع الحفاظ على روح هذا الفن الذي يرحل به إلى عوالم جديدة اختبرها بعمق. يقول في حديثه لـ "المجلة": "حين أتوحد مع المعنى هناك انسلاخ تام من العالم المادي إلى العالم الروحي".

وثق الشيخ محمود التهامي بصوته قصائد كبار الشعراء الصوفيين، ونشر فن الإنشاد بأسلوب الخاص يتناسب مع عصر متغير ومتسارع. وهو ما تحدث عنه في الحوار التالي.

قدمت في السابع من مارس/ آذار عرضا افتراضيا عبر "يوتيوب" وذلك ضمن البرنامج الرمضاني الذي يقيمه "مهرجان أبوظبي"، ماذا تخبرنا عن هذا العرض؟

ليس في وسع جمهور الإنشاد على مستوى العالم حضور أمسياتي مباشرة، ولكنه بهذه الطريقة سوف يتاح له ذلك، وهذا يمنحنا ميزة الإعادة والسيطرة على الحفل والتنسيق والإعدادات النهائية له. وأنا لا أعتبره حفلا، بقدر ما هو توثيق لفن الإنشاد.

لم يحدث من قبل أن يشارك مئة منشد ومنشدة بعرض جماعي، ومن خلال هذا العرض سنقدّم فن الهارموني الغربي ونوظفه ضمن مجال الإنشاد الديني

وقد دأبت خلال السنوات الست الماضية على المشاركة في "مهرجان أبوظبي" عبر تقديم محتوى يتناول التراث في الإنشاد، ويتناول أيضا المتغيرات الفنية والموسيقية الحديثة والإيقاعات في فن الإنشاد الديني، وفي دورة هذا العام تم تقديم هذا المحتوى عبر صوتي وعبر مجموعة كبيرة من الشيوخ والشباب والأطفال، ليكون عرضا جديدا بمجال الإنشاد الجماعي، وهو ما لم يحدث من قبل، أي أن يشارك مئة منشد ومنشدة بعرض جماعي، ومن خلال هذا العرض سنقدّم فن الهارموني الغربي ونوظفه ضمن مجال الإنشاد الديني العربي، وهذا المزيج يعتبر جديدا من نوعه، ويثري فن الإنشاد والتوشيح.

من الأب إلى الابن

ابتعدت عن أسلوب والدك الشيخ ياسين التهامي في الإنشاد، وسعيت إلى تقديمه بقالب معاصر، ماذا عن هذا التطوير؟

أولا، لي عظيم الشرف بالانتساب إلى مولانا الشيخ ياسين التهامي، ولكن لكل مقام مقال ولكل حدث حديث، فمن المتعارف عليه أن التأليف الموسيقي والعلم النغمي يمر بمرحلة إعادة صياغة وتأليف كل خمسين عاما، وخلال السنوات الأخيرة تسارعت المتغيرات الموسيقية في القوالب الموسيقية واللحنية والإيقاعات، وذلك لأسباب كثيرة منها الانفجار المعرفي الحاصل في عصر الإنترنت.

REUTERS/Mohamed Abd El Ghany
المنشد الصوفي الشيخ ياسين التهامي خلال احتفالات مولد السيدة زينب في القاهرة

ولكي نواكب العصر ونضمن استمرار فن الإنشاد كان لابد لنا من التغيير والتطوير، فجمهور مولانا الشيخ ياسين التهامي ما زال قائما، ولكن ليس كما كان في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، بدليل أن أبناء هذا الجمهور ما عادوا يسمعون هذا الفن، فكنت حريصا على استمرار الإنشاد عند الأجيال الشابة، وقمنا بالتطوير بما يتناسب مع الهندسة الصوتية وثقافة الألوان الموسيقية والفنية بما يتناسب مع العصر، وبما لا يخلّ بمضمون الإنشاد أو محتواه. فلكي نحافظ على هذا التراث لابد من تقديمه بصورة جديدة وهذا ما نجحنا فيه، مع الاستفادة من التطور التقني الصوتي والمرئي.

وباتباع أساليب علمية، كنا كل ثلاثة أشهر نقوم بالإحصائيات على جميع المواقع المهتمة بالإنشاد، واكتشفنا أن الفئة العمرية من سن اثني عشر عاما إلى ثلاثة وعشرين عاما تمثل 20% فقط من جمهور فن الإنشاد، فكان لابد لنا من تغيير الاستراتيجية، لكي نقدم فن الإنشاد لهذه الشريحة، وقد نجحنا في ذلك خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأصبح متابعو الإنشاد من هذه الشريحة يمثل حوالي 50%.  

ماذا تبقى من أسلوب والدك؟

ما يبقى هو فن الارتجال، وهي المدرسة الصريحة للشيخ ياسين التهامي، وقد عملت على تطويرها حتى يصبح فن الارتجال فنا ولونا موسيقيا مهما وهادفا، وله مدرسة أقوم بنفسي بتدريسها للأجيال وبتوثيقها وكذلك بتأليف الكتب والدراسات حولها.

قمنا بالتطوير بما يتناسب مع الهندسة الصوتية وثقافة الألوان الموسيقية والفنية بما يتناسب مع العصر، وبما لا يخلّ بمضمون الإنشاد أو محتواه

ما رأي والدك بأسلوبك؟

منذ أدخلت هذا التطوير قبل نحو عشرين عاما، اعترض على إدخال آلات جديدة في الإنشاد، كما قمت بالتأليف والإنشاد في أحد المسلسلات التلفزيونية، وكان الوالد معترضا على دخول الإنشاد في الدراما، ويعتبر أن للإنشاد خصوصية وهي الحضرة والمولد، ولكنه خلال السنوات الأخيرة لم يبارك هذا فقط، بل أصبح يشارك فيه فمنذ عامين قام بمشاركة فنية في "تترات" الأعمال الدرامية وأدائها على آلات موسيقية حديثة، مثلما كنت أفعل، بعدما رأى نجاح تجربتي.   

KHALED DESOUKI/AFP
المنشد محمود التهامي يُخاطب طلابه خلال حصة للإنشاد

محاكاة صوفية

حفظت القرآن الكريم والعديد من دواوين كبار شعراء الصوفية. فما الشعور الذي تصل إليه خلال الإنشاد؟

تلاوة القرآن الكريم وقراءته وفهمه والتفكر والتدبر فيه، كانت لها كبير الأثر بتشكيل وجداني، وأعتبر القرآن الكريم معلمي الأول، وأعتبر أن ثقافة التفكر من أهم الأمور التي كان للقرآن الكريم فضل على حسّي الإنساني والفني فيها، ويأتي بعد ذلك معايشة القصائد الصوفية لكبار المفكرين والفلاسفة الصوفية من أمثال ابن عربي وابن الفارض والسهروردي والرومي والحلاج، وهذه المجاراة لكل ما سبق وحيث أني عندما أتلو القرآن أصبح في عالمه وأتخيل نفسي واقفا بين يدي الله وهذا أمر له جلاله.

أما في تناولي لكبار الشعراء فهذه محاكاة لهم. وفي التوقيت الذي أؤدي فيه هذه القصائد يصل بي العمق للتوحد مع القصيدة والانسلاخ لأتوحد مع المعنى، هذا الأمر يترك فيّ أثرا وجدانيا كبيرا أخرج منه بصعوبة، وبعد معايشتي لهذه الحالة والكلمات والمعاني أصبحت أحس أن هذا عالمي الحقيقي، وما دونه هو العالم الافتراضي.  

أنشدت أيضا أشعارا للمتنبي والبحتري وغيرهما فكيف تختار قصائد دون غيرها؟  

عندما تتقاطع التجربة العاطفية والتجربة القلبية والعقلية بيني وبين هؤلاء الشعراء، وحينما أقرأ بعض الشعراء القدامى أو المحدثين، أجد في أشعارهم ما يلمسني، وأشعر أن هذا الكلام خرج مني وأعايش التجربة التي مر بها الشاعر، وتتشابه روحي مع روح الكلمات. وقد يقول الشاعر أبياتا لا يعنيها، لكن هذه الأبيات تعنيني، فأنا لا أنشد إلا ما يعنيني ويلمسني وأحسّ به.

القرآن الكريم معلمي الأول، وأعتبر أن ثقافة التفكر من أهم الأمور التي كان للقرآن الكريم فضل على حسّي الإنساني والفني فيها

ما خصوصية الأغنية الوطنية ضمن تجربتك؟

الوطن له أثر كبير في تشكيل وجداني، وطلب مني من قبل أغانٍ وطنية، ولكن لم أكن أحسّ بها من خلال القصائد، إلى أن صادفتني قصيدة "وطني أفديك من عمري" للشاعر محمد عمر الطوانسي فأحسست هذا المعنى في وطني، ليس مصر فقط إنما في العروبة كلها، فكلمة الوطن لا تقتصر على البلدان، بل تمتد إلى كلّ ما يرتد إليه الإنسان ويجتمع فيه ويتوحد مع أصله، وأعتبر الإنشاد لمصر والأمة العربية كلها بمثابة وطن لي، وأعتبر الحب والصوفية والإسلام والعشق الإلهي كلها وطنا لي، فحينما وجدت ضالتي بهذه الأبيات أنشدتها بحب وعفوية وبإحساس لكل كلمة.

صوت المرأة

قدمت "فيديو كليب" لدويتو عاطفي، هل هو نوع من التمرد على فن الإنشاد التقليدي؟  

المقصود من تجربة أغنية "يا ملك" مع مي فاروق إظهار فن ومقام بالغ الأهمية في الشعر العربي وهو الغزل، وفن الغزل يكاد يكون المتسيّد بمقامات الشعر العربي في الوصف والمديح والبردة... إلخ. كل مقامات الشعر العربي تُفتتح بالغزل، فوجدتها فرصة لعودة فن الغزل العذري إلى الإنشاد الديني، فالإنشاد لا يتقصر عندي على مديح الله ورسوله، لكنه يتناول كل مقامات الشعر والفن العربي، فالإنشاد فن إنساني ومنه الحب العفيف. وهذا "الدويتو" كان بمثابة فرصة لاستعادة صوت المرأة ضمن فن الإنشاد، فهو ليس بعورة كما يدعون وللمرأة دور لا يقل أهمية في هذه الثقافة. وقد استعادته من قبل الثقافة العربية، قبل دخولنا في نفق الفكر المظلم والتشدد، ففن الإنشاد إنساني بدليل أننا ننشد للأوطان والصداقة والمحبة.

كلمة الوطن لا تقتصر على البلدان، بل تمتد إلى كلّ ما يرتد إليه الإنسان ويجتمع فيه ويتوحد مع أصله

كيف تختار الفنانين المشاركين معك في فن الإنشاد؟  اختياري للفنانين يأتي انطلاقا من الانفتاح على كل الثقافات مثل الفنان هاني شنودة وهو لمن لا يعرفه اسم كبير وله ألحان بالمديح النبوي لم تأخذ حقها، ومشاركته معي إثراء لفن لإنشاد. والشيخ عبد الرحيم دويدار الذي كان كبير الإذاعيين وفي عمر الثانية وثمانين قدمت معه "دويتو" بقصد المزج بين ثقافة الأجيال. وتهدف مشاركتي جورجينا حلمي إلى مزج الثقافات والأجيال في عمل فني واحد فهي مرنمة، فمزجت فن الترانيم مع الإنشاد مع السوبرانو مع الألحان القبطية، هذه كلها رؤية موسيقية تعبر عن الثقافة الإنسانية لا الدينية فحسب.

KHALED DESOUKI/AFP
محمود التهامي يُخاطب طلابه خلال حصة للإنشاد

مدرسة الإنشاد

أولادك يسيرون على دربك في طريق الإنشاد، فكيف ترى ذلك؟ 

أولادي يدرسون في الكونسرفتوار وسافروا معي إلى أكثر من دولة وشاركوني في أكثر من أمسية، ولم أفرض عليهم الإنشاد، بل فوجئت بأنهم عندما يرافقونني معي إلى أي أمسية، يرددون بعدها كل ما جاء فيها، فعملتهم بمدرسة الإنشاد المقامات الموسيقية وفن التواشيح، ورافقوني في الموالد والحفلات العامة لأجل صقل ثقافتهم ومواهبهم، وعندما ينشدون أترك لهم خيار الإنشاد في سياق مفردات ثقافتهم الخاصة، فأنا حريص من خلال أطفالي ومن معهم في مدرسة الإنشاد على إدخال فن "الراب" على الإنشاد لأنه يكاد يكون مسيطرا على هذا الجيل.

صوت المرأة ليس عورة وقد استعادته من قبل الثقافة العربية، قبل دخولنا في نفق الفكر المظلم والتشدد

شغلت منصب رئيس نقابة الإنشاد الديني والابتهالات، كما أسست مدرسة لتعليم فن الإنشاد، ما الذي تسعى إليه من خلال هذا كله؟

سعيت إلى تأسيس نقابة للإنشاد الديني للحفاظ على حقوق المنشد، وكنت أشغل منصب نقيب المنشدين لغاية 2022 ولكني رأيت أن العمل الإداري أخذني من المشاريع الفنية التي أخوضها، وكان يجب أن أهتم بها أكثر من المشاريع الإدارية.

 وفي 2014 اكتشفنا أن منشدين كثيرين من الشباب موجودين على الساحة ومشهورين، لكن ليست لديهم ثقافة فن الإنشاد والمعرفة بالمقامات، فأسّست مدرسة الإنشاد لاحتواء المنشدين حيث نعلمهم المقامات الموسيقية وفن التواشيح الذي كاد يندثر.

وعملت "بروتكول" مع اتحاد الإذاعة والتلفزيون قمنا من خلاله بمراجعة التراث المصري القديم، وتعاونا مع المنشدين السوريين للحفاظ على الموروث الثقافي لفن الإنشاد، وهناك أقباط يدرسون بالمدرسة فن المقامات الموسيقية وأصول اللغة العربية والنحو والبلاغة وعلم النغم وفن الارتجال.

عُرض عليك التمثيل، وأجلت المشروع، فما الدور الذي قد يقدمك كممثل؟

شاركت في تحفيظ وتلقين الكثير من الممثلين في الأعمال التاريخية، وعندما عرض عليّ التمثيل فكرت به لكنني لم أشارك، لكن لو جاءني دور كمنشد فيمكن أن أوافق. 

font change

مقالات ذات صلة