ترمب في مواجهة العولمة... هل يصحو من أحلامه؟

نحو مليون وظيفة فقدت خلال 20 عاما وخدمة الدين العام الفيديرالي ترتفع 83% في عامين

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعرض توقيعه على وثيقة أمر تنفيذي بخصوص العملات المشفرة، في البيت الأبيض في واشنطن 23 يناير 2025

ترمب في مواجهة العولمة... هل يصحو من أحلامه؟

يبذل الرئيس الأميركي دونالد ترمب جهودا لضبط إيقاع الميزان التجاري وميزان المدفوعات للولايات المتحدة في علاقاتها التجارية والاقتصادية مع العالم. منذ ترشحه فانتخابه ثم بعد توليه الرئاسة في يناير/كانون الثاني الماضي، لم يتوقف عن طرح قرارات لفرض ضرائب أو تعريفات جمركية على الواردات من مختلف دول العالم، مثل كندا والمكسيك والصين ودول الاتحاد الأوروبي. تتناقض هذه التوجهات والقرارات، في طبيعة الحال، مع مبادئ العولمة وقيمها، وشروط التجارة التي اعتمدتها منظمة التجارة العالمية، وقبلها اتفاقيات التجارة الحرة (GATT) للرسوم والتجارة التي سبق أن اعتمدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ووقعتها 23 دولة في عام 1947، ثم ارتفع عدد الدول الموقعة إلى 100 في عام 1973.

تعتمد التجارة الحرة على الميزات النسبية التي تمتلكها الدول الفاعلة في التجارة وعلى تدفق السلع والخدمات من دون عراقيل سياسية، أو إجرائية أو فرض رسوم أو عراقيل قانونية لحماية الصناعات والخدمات في أي دولة، بما يميز المنتجات الوطنية أو المحلية على حساب تلك المستوردة من الخارج.

العولمة وتحولاتها الدراماتيكية

لا شك أن العالم تغير بفضل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، بشكل دراماتيكي. لم تعد هناك إمكانات لصناعات في دول معنية أن تنافس منتجات الصناعات القائمة في دول أخرى بفضل التميز النسبي.

كانت الولايات المتحدة، حتى أواخر ستينات القرن الماضي، تتميز بصناعات عديدة، وكانت تغني احتياجات المستهلكين في البلاد وربما صدرت إلى دول أخرى وبقدرات تنافسية معلومة. كان هناك صناعة الإلكترونيات، ويتذكر الكثير من المخضرمين منتجات "آر. سي. إيه." (RCA) و"زينيث" (Zenith) من الراديو والتلفزيون، وكيف كانت المنازل في أميركا تزدان بها وكذلك العديد من المنازل في دول أوروبية، وفي منطقة الخليج. لكن الأمور تغيرت سريعا ولم تعد هذه المنتجات قادرة، في البداية، على منافسة المنتجات المماثلة من اليابان، وبعد ذلك من كوريا الجنوبية ثم الصين. كذلك الأمر بالنسبة إلى صناعة السيارات، حيث لم تعد العلامات التجارية الأميركية الشهيرة مثل "كاديلاك" أو "بونتياك" أو "شفروليه" مطلوبة بعدما زادت المنافسة من اليابان والدول الآسيوية، وتحديدا كوريا الجنوبية والصين.

لم تعد الصناعة في الولايات المتحدة قادرة على المنافسة في ظل ارتفاع التكاليف وأجور العمالة. لا تستند أهداف ترمب لحماية الوظائف، خصوصاً في القطاع الصناعي، إلى معطيات اقتصادية موثوق بها

ولم يقتصر الأمر على الأسواق الخارجية، ولكن كذلك داخل السوق المحلية، حيث تنتشر في الطرق والشوارع في مختلف المناطق في الولايات المتحدة، السيارات المصنعة في الخارج. أكثر من ذلك، تعتمد صناعات عديدة في الولايات المتحدة، ومنها صناعة السيارات، على مدخلات أولية أو وسيطة تنتج خارج البلاد.

تراجع الصناعة الأميركية وتقدم كبير للخدمات

لم تعد الصناعة في الولايات المتحدة قادرة على المنافسة في ظل ارتفاع التكاليف وأجور العمالة. لا تستند أهداف ترمب لحماية الوظائف، خصوصاً في القطاع الصناعي، إلى معطيات اقتصادية موثوق بها، حيث تبين أرقام مكتب إحصاءات العمل (BLS) أن عمالة قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة انخفضت بنحو 4,7 ملايين وظيفة خلال الفترة بين عام 2000 وعام 2020، وهي تدور في الوقت الحاضر حول 17 مليون وظيفة.

غيتي
سيارات "GMC Hummer" الكهربائية، في خط إنتاج في مصنع "ZERO" لتجميع السيارات الكهربائية التابع لشركة "جنرال موتورز". في ديترويت، 17 نوفمبر 2021.

ويذكر تقرير المكتب المذكور بأن المنافسة مع الواردات الصينية أدت إلى فقدان 985 ألف وظيفة بين عامي 1991 و2011، وقد اضطر العاملون ممن فقدوا وظائفهم في القطاع الصناعي الى الانتقال إلى قطاع الخدمات الذي أخذ في التوسع. أصبحت مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة تزيد على 80 في المئة، في حين تراجعت حصة الصناعات التحويلية إلى ما دون الـ19 في المئة. تشمل هذه الخدمات التعليم والرعاية الصحية والترفيه والضيافة، ناهيك عن خدمات تطوير أنظمة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

ارتفعت تكاليف الفوائد على الدين العام بشكل قياسي خلال السنوات الثلاث الماضية، من 497 مليار دولار في عام 2022 إلى 909 مليارات دولار في عام 2024، أي بنسبة 83 في المئة

ربما لا تزال الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة تتميز بصناعة الطائرات والمعدات العسكرية، لكنها لا تزال دولة مستوردة صافية، أي أنها تحقق عجزا في الميزان التجاري، ومن ثم ميزان المدفوعات. في عام 2024، استوردت الولايات المتحدة ما قيمته 4,1 تريليونات دولار، في حين صدرت ما قيمته 3,2 تريليونات دولار، محققة عجزا في ميزان تبادل السلع والخدمات قدره 918,4 مليار دولار.

مفعول عكسي لسياسات ترمب؟

في ظل هذا الواقع الذي تكرس منذ عقود، هل يمكن قرارات ترمب أن تغير شيئا؟ يقتني المستهلكون الأميركيون سلعا مستوردة، ويعتمدون على خدمات مراكزها موجودة خارج البلاد، فهل تنجم عن رفع الرسوم الجمركية فوائد لهم أم أنها ستؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستهلاك، وتاليا إلى رفع معدل التضخم؟ سيواجه مجلس الاحتياطي الفيديرالي أوضاعا صعبة ولن يتمكن من تبني سياسات نقدية متساهلة تؤدي إلى خفض سعر الفائدة. ستفضي السياسات النقدية المتوقعة في ظل استمرار معدلات التضخم الراهنة، إلى رفع تكاليف التمويل على المؤسسات الاقتصادية وعرقلة النمو الاقتصادي. وإذا كانت أهداف الإدارة الحالية زيادة إيرادات الخزينة العامة وخفض عجز الموازنة القياسي، فقد تكون النتيجة عكسية وترتفع مخصصات خدمة الديون في الموازنة. بلغ عجز الموازنة في السنة المالية المنتهية في 30 سبتمبر/أيلول 2024 نحو 1,8 تريليون دولار، وارتفعت تكاليف الفوائد على الدين العام بشكل قياسي خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث ارتفعت من 497 مليار دولار في عام 2022 إلى 909 مليارات دولار في عام 2024، أي بنسبة 83 في المئة.

وعند التدقيق في أوضاع الاقتصاد العالمي وما مر به من متغيرات جيوسياسية وتقنية، والتحولات التي جرت في دول عديدة، يُستخلص أن الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة لن تتمكن من الارتقاء في أدائها، كما يتصور الرئيس ترمب، وستظل الولايات المتحدة دولة مستوردة إلى أمد بعيد، وهو أمر قد يكون غير قابل للانعكاس، بمعنى أن تتحول إلى دولة مصدرة صافية تحقق فائضاً في الميزان التجاري.

.أ.ف.ب
تذبذب الأسواق العالمية على وقع قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتكثيف الرسوم الجمركية نيويورك 10 فبراير 2025

المطلوب هو الاقتناع بالمتغيرات الهيكلية التي جرت في الاقتصاد العالمي وفي دول عديدة أهمها الولايات المتحدة، والتفاعل بأسلوب إيجابي يرسخ قيم العولمة التي بشرت بها الولايات المتحدة نفسها. بيد أن الأمور تبدو خلال السنوات المقبلة قاتمة ومعقدة. كيف يمكن رجال الأعمال والمفكرين الاقتصاديين في الولايات المتحدة والحكومات في دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية والصين وغيرها من دول شريكة في التجارة، أن تقنع هذه الإدارة بأهمية القبول بتطورات الاقتصاد العالمي واستحقاقات التعاون الاقتصادي الدولي؟

font change