قبل أسبوع كتبت على صفحات "المجلة" عن حقل الألغام في سوريا. ولم أظن أن هذه الألغام ستبدأ بالانفجار بهذه السرعة. ولكن يبدو أن لأعداء سوريا رأيا آخر وحسابات أخرى.
ثلاثة شهور بالتمام والكمال على سقوط نظام الأسدين بعد 54 عاما من قهر السوريين وتعذيبهم وإفقار سوريا وتدميرها، ثلاثة شهور على هروب بشار الأسد إلى موسكو، وثلاثة شهور على انكسار مشروع إيران الذي عملت عليه طيلة 45 عاما، وواهم من يظن أن إيران ستقبل الهزيمة بروح رياضية.
في السادس من مارس/آذار كان هجوم بقايا نظام الأسد، عمليات مدروسة ومنسقة استهدفت بكمائن قوى الأمن العام للسيطرة على الطرق ومراكز المدن في الساحل السوري، من اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس وصولا إلى القاعدة الروسية في حميميم.
عشرات الشهداء من قوى الأمن، ومئات المحاصرين من قبل عصابات الأسد ومحوره، محاولة تمرد عسكري وبيانات من ضباط في جيش الأسد تهدد وحدة سوريا وأمنها وتجربتها الوليدة. سارعت حاضنة الثورة السورية في كل المدن والقرى لدعم قوى الأمن والدولة، ولرفض الانقلاب أو التمرد على ما أنجزته الثورة السورية.
كان الخيار العسكري هو الخيار الوحيد الممكن، ولكن الجيش السوري الجديد لم يولد كمؤسسة وطنية بعد، فجرت الاستعانة بفصائل اندمجت مؤخرا بوزارة الدفاع، هب الناس وحملوا السلاح، وبدل أن ننقذ الدولة، تورط البعض بجرائم طائفية ضد مدنيين كل تهمتهم انتماؤهم للطائفة العلوية.
جرائم مدانة ومستنكرة، وكما سارعت الحاضنة الثورية لحماية منطق الدولة ضد التمرد، سارعت هذه الحاضنة نفسها لاستنكار ما ارتكب من جرائم وانتهاكات ونهب بحق سوريين.
اليوم بدأت الأمور تعود تحت سيطرة الدولة، ولكن الأمر لم يستتب بعد، وعلى السلطة الموجودة في دمشق قراءة ما حدث بتفاصيله وحيثياته بتأنٍ، ومراجعة الكثير من سياساتها.
اليوم سوريا أمام مفترق خطير، فإن كان لغم الفلول أو تمرد الساحل قد انتهى (وهو لم ينته بعد)، فهناك كثير من الألغام القابلة للانفجار في أي لحظة
يقول الكثيرون إن فترة 3 شهور على وجودهم في السلطة ليست كافية، فنرد: نحن لا نملك ترف الوقت. المتربصون بالتجربة السورية كثر، وأعداء الثورة السورية وأعداء انتصارها في الداخل والخارج كثر.
عمليات من يسمون بـ"الفلول" ضد قوى الأمن لم تتوقف، مئات الشهداء من القوى الأمنية ولكن أيضا هناك مئات الشهداء من المدنيين. وكما هو المطلوب كسر هذا التمرد وأي محاولة للمساس بوحدة سوريا ومحاسبة كل من يقف خلف ذلك، المطلوب أيضا محاسبة كل من تورط في دم المدنيين.
لقد ناضل السوريون على مدى 14 عاما وعانوا ما عانوه من ويلات، قتل نظام الأسد منهم مئات الآلاف، واعتقل وعذب وحاصر مئات الآلاف، وهجر الملايين. لم يستسلم السوريون ولم يتعبوا وهم يطالبون بدولة عادلة يحكمها القانون، دولة تحفظ كرامة مواطنيها وأمنهم. ارتكب بشار الأسد ونظامه جرائم ضد الإنسانية، جرائم ترقى لجريمة حرب إبادة ضد السوريين وشاركته إيران وميليشياتها وروسيا ومرتزقتها في حربه، وكل ما يطلبه السوريون اليوم هو العدالة.
قلنا من اليوم الأول إن العدالة هي ضمانة السلم الأهلي، وكررنا مرارا أن مسار العدالة يجب أن ينطلق كي لا ننزلق نحو الثأر، كل الذرائع لعدم انطلاق مسار العدالة لم تقنع الكثيرين، ومنطق "اذهبوا أنتم الطلقاء" لا يُقال لمن شارك في ذبح مئات آلاف السوريين. واليوم المطلوب العدالة لجميع الضحايا، من سقطوا على يد نظام الأسد ومن معه، ومن سقطوا أيضا بالأمس على يد الفصائل المنضوية تحت وزارة الدفاع، وكل من يثبت تورطه في الدم السوري.
ليس الهدف أن نقول قلنا ولم تسمعوا، اليوم سوريا أمام مفترق خطير، فإن كان لغم الفلول أو تمرد الساحل قد انتهى (وهو لم ينته بعد)، فهناك كثير من الألغام القابلة للانفجار في أي لحظة.
وتفكيك هذه الألغام أول ما يحتاجه هو حماية وحدتنا الداخلية، الخطوة الأولى للوصول لدولة المواطنة التي تحدث عنها الرئيس أحمد الشرع أكثر من مرة، المطلوب الإسراع بالعملية الانتقالية، وتشكيل هيئة تشريعية وحكومة من الخبراء وأصحاب الاختصاص تمثل جميع أطياف الشعب السوري، وبأطياف الشعب السوري لا أقصد المذهبية والعرقية فحسب، بل السياسية أيضا.
المطلوب والواجب هو الاستفادة من خبرات السوريين، والشعب السوري اكتسب الكثير من الخبرات خلال سنوات الثورة. المطلوب بناء مؤسسة جيش وطني تحمي جميع السوريين، وهنا لا بد من الاستفادة من خبرات المنشقين وحتى غير المرتكبين، فالجيش علم ولا يمكن لكل من حمل السلاح أن يدعي أنه يمتلك هذا العلم.
المطلوب الشفافية ومصارحة السوريين بحقيقة ما يحصل، ثلاثة شهور والجميع يطالب بإعلام وطني ذي مصداقية، ولكن حتى اللحظة ما زلنا نبحث عن المعلومة بين حسابات على منصة "إكس" و"تليغرام" ومجموعات "واتساب"، ونحاول التأكد من كل خبر بشتى الوسائل.
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد والمرشد في طهران يحرض على سوريا والسوريين، وها هو الإعلام الإيراني يتعاطى مع تمرد الساحل بلغة العارف والمتنبئ، فهل تحركت السلطة في دمشق ضد ما يحاك؟ هل تواصلت مع السلطات اللبنانية للمساعدة في ضبط الحدود وعدم السماح لميليشيا "حزب الله" بالتدخل في سوريا؟ هل تقدمت بشكوى إلى جامعة الدول العربية ضد ما يُحاك في العراق وبأيدٍ إيرانية ضد سوريا؟
سوريا اليوم مسؤوليتنا جميعا، ولكن المسؤولية الأولى تقع على عاتق السلطة في دمشق، وعلى السلطة في دمشق أن تسمع وتتواضع، وأن تطلب المساعدة من الأصدقاء إن اقتضى الأمر، فمن يهدد وحدة سوريا وسلمها يهدد المنطقة برمتها.